fbpx

الصراع على الزعامة السنّيّة في لبنان (2)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت معركة الشهابيّة، ومن ورائها القاهرة، ضدّ صائب سلام، من أعتى المواجهات التي عرفتها الحياة السياسيّة اللبنانيّة بعد الاستقلال. المعركة كانت شرسة، وسلام كان شرساً أيضاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كانت معركة الشهابيّة، ومن ورائها القاهرة، ضدّ صائب سلام، من أعتى المواجهات التي عرفتها الحياة السياسيّة اللبنانيّة بعد الاستقلال. المعركة كانت شرسة، وسلام كان شرساً أيضاً.

زعامة بيروت بأكثريّتها السنّيّة كان ينبغي انتزاعها من قبضة هذا السياسيّ المشاكس: لقد هاجم تدخّل “المكتب الثاني” في حياة النسيج البيروتيّ، ولم يشارك في الكرنفال الذي يمجّد “فخامة الأمير اللواء” فؤاد شهاب، كما فضّل صداقة الرياض على صداقة القاهرة. لقد بات مطلوباً، بالتالي، إنهاء هذا الازدواج المُحرج بين صورة العاصمة العاصية وصورة البلد المنضبط كما رسمتها له الشهابيّة. ما زاد في الإلحاح على مهمّة التصفية السياسيّة أنّ سلام كان أوّل زعيم سنّيّ بعد رياض الصلح يمدّ نفوذه إلى خارج بيروت، عبر علاقات ربطته بنوّاب وسياسيّين سُنّة، كالعكّاريّ علي عبد الكريم والصيداويّ نزيه البزري.

المواجهات تعدّدت واختلفت أشكالها: تحريك بعض وجهاء الأحياء الناصريّين – الشهابيّين ضدّه. تحريض الأحزاب “الوطنيّة” و”التقدّميّة” عليه بوصفه كبير “الرجعيّين”. تكريس جريدتي “الأنوار” و”المحرّر” صفحاتٍ لهجائه: في 1963-4 امتلأت الأخيرة، بطلب مصريّ، بكتّاب من “حركة القوميّين العرب”. مضايقة أنصاره و”مفاتيحه الانتخابيّة” والسخاء في تقديم الخدمات لخصومه. تجميع مناوئيه وكارهيه حول عبد الله اليافي وطرحه بوصفه الزعيم البديل. استخدام رجال الدين في حملة متواصلة عليه. أحد هؤلاء كان الشيخ حسن خالد الذي تولّى، في 1966، منصب الإفتاء.

لقد صارت شتيمة صائب سلام رياضة يوميّة للناصريّ والشيوعيّ والجنبلاطيّ، فضلاً عن المتضرّرين البيارتة من زعامته، وبات ممّا لا بدّ منه فرز آخر المساحات المشتركة التي مثّلها نسيم مجدلاني: إنّه، في وقت واحد، نائب كمال جنبلاط في رئاسة الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ والعضو الأرثوذكسيّ الثابت على اللوائح السلاميّة. مجدلاني غدا مضطرّاً لأن يختار، وهو اختار زعامته البيروتيّة على اشتراكيّته الجنبلاطيّة.

صائب سلام، بدوره، قدّم نفسه بوصفه المدافع عن “كرامة بيروت”. “الكرامة” هنا عنتْ أموراً كثيرة وملتوية، وربّما متناقضة: نعرة بيروتيّة سنّيّة ضدّ الرئاسة المارونيّة، لكنّها أيضاً نبرة تصالح مع الحساسيّة المارونيّة على نطاق لبنانيّ في مواجهة الحلف الشهابيّ – الناصريّ. “الكرامة” انطوت أيضاً على معنى آخر مفاده أن يلزم السفير المصريّ عبد الحميد غالب حدّه، وألاّ يحظى بكلّ هذا النفوذ في عاصمة لبنان.

التطوّرات التي تلاحقت في سوريّا، منذ انفصالها عن مصر في 1961 إلى الانقلاب البعثيّ في 1963، المسبوق بانقلاب مماثل في العراق، ثمّ تجدّد الخلاف العاصف بين البعث وعبد الناصر، وفّرت من غير شكّ ظهيراً لسلام وحضّاً له على الانشقاق عن السحر الناصريّ. في 1963 اعتُقل ضابط سوريّ اسمه جلال مرهج في بيروت، اتُّهم بالتخطيط لـ “أعمال تخريبيّة”، بالتنسيق مع الشمعونيّ والنائب الشوفيّ السابق قحطان حمادة. معارضو الشهابيّة قالوا إنّ التهمة مفبركة خدمةً للقاهرة وبهدف الحدّ من تأثير دمشق البعثيّة على بيروت، فضلاً عن وضع المعارضين المحلّيّين في دائرة الشبهة. في تلك الفترة، وعلى ما تذهب إحدى الروايات، كان خالد يشرطي – المهندس الفلسطينيّ البعثيّ المقيم في بيروت، والقياديّ الفتحاويّ اللاحق – همزة الوصل بين صائب والحزب العفلقيّ.

صورة للرئيس صائب سلام مع أمير الكويت – 1965

1964 و1968

في انتخابات 1964 كان الصدام الرأسيّ: استطاعت “الدولة” خرق لائحة سلام الخماسيّة بالمحامي المُصنَّف ناصريّاً، رشيد الصلح، الذي أسقط عضو اللائحة شفيق الوزّان. عبد الله اليافي وباقي أعضاء لائحته رسبوا. الوحل الذي استُخدم لتلويث سلام ردّ عليه الأخير بوحل مماثل. ففي بيروت شُنّت حملة “غامضة المصدر” لتذكير سكّانها بشباب اليافي: لقد تخرّج من فرنسا بأطروحة أساءت إلى الرسول! رشيد الصلح بدا هدفاً أسهل، تبعاً لضعف شخصيّته الذي أظهره خفيف الوزن، ولتضارب أقواله الذي رسمه ضئيل الفعّاليّة.

كلّ شيء بدا مُحلّلاً يومذاك، خصوصاً أنّ سلام، وعلى عكس موقفه في 1960، دعم سامي الصلح في الدائرة الثانية. هكذا عاد سامي إلى برلمانٍ غاب عنه أربع سنوات. خصمه “الشهابيّ – الناصريّ” عدنان الحكيم رسب هذه المرّة. صائب، ومن خلال شخصيّات في “حزب النجادة”، كمحمّد كنيعو ومحمّد علي الرزّ، صدّع الحزب المذكور الذي تعامل معه الحكيم كأنّه ملكيّته الخاصّة.

في 1966 أثبتت الآلة التي أنجبها التعاون الجهازيّ الناصريّ – الشهابيّ فعّاليّتها الدمويّة: لقد وُجّهت أصابع الاتّهام إلى ابراهيم قليلات حين اغتيل مؤسّس جريدة “الحياة” ورئيس تحريرها كامل مروّة. آنذاك، كان مروّة يسدّد الانتقادات اللاذعة لسياسات عبد الناصر وحرب اليمن، فيما الناصريّون وحلفاؤه يسمّونه “عميلاً” للهاشميّين وآل سعود.

لكنْ مع هزيمة 1967 باشرت الناصريّة انحسارها، أمّا الشهابيّة فبدأ الرئيس شارل حلو، المنتخب في 1964، ابتعاده عنها. المعركة ضدّها استمدّت زخماً أكبر بنتيجة تأرجح حلو: هكذا شارك صائب في بناء “تكتّل الوسط” الذي جمعه بسليمان فرنجيّة وكامل الأسعد. لكنْ في بيروت نفسها، وفي 1968، انقضّ سلام على تحكّم “المكتب الثاني” بـ “جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة”. الصحافة يومذاك تحدّثت عن “معركة كسر عظم” خرج منها ظافراً، والآخرون مكسوري العظام. إذاً، الأمر معقود لصائب سلام في بيروت.

لكنّ انتخابات 1968 العامّة، التي سجّلت الانتصار الكاسح لـ “الحلف الثلاثيّ” في جبل لبنان، اختلف طريقها البيروتيّ. لقد بدت أشبه بهدنة عابرة في حرب متواصلة. ذاك أنّ حلو المتذبذب بين الشهابيّة وخصومها، كلّف اليافي برئاسة الحكومة المشرفة على الانتخابات، لكنّه وازَنَه بتسليم سليمان فرنجيّة وزارة الداخليّة. هكذا كان لا بدّ، في استثناء نافر، من إنشاء ائتلاف بين اليافي وسلام بحيث يخوضان المعركة معاً. لكنّهما لم يكونا معاً تماماً. فاليافي أمّن لنفسه ثلاثة آلاف صوت أزيدَ من الأصوات التي نالها سلام. الأخير، بدوره، طعن “حليفه” في الائتلاف، ومَكروهه الثابت، رشيد الصلح، إذ أوعز لمؤيّديه بانتخاب المرشّح المنفرد شفيق الوزّان. الصلح انهزم. الوزّان انتصر وانتقم لهزيمته أمام رشيد في 1964.

صائب سلام وريمون إدة ورشيد كرامي

معركتان غير منسجمتين

على نطاق لبنانيّ، وقف الزعيمان المسلمان الأقوى، سلام السنّيّ وكامل الأسعد الشيعيّ، حيث يقف زعماء الموارنة في إصرارهم على تفكيك “المكتب الثاني” والدفاع عن الحرّيّات العامّة. تلك المعادلة، التي عبّرت عنها سنوات 1964-8، لاحتْ لحظةً من اللحظات القليلة الواعدة في التاريخ السياسيّ للبنان الحديث. بيد أنّ رياح الماضي الذي لا يمضي آثرت أن تهبّ، واضعةً “القوميّة” في مواجهة الحرّيّة: ردّاً على ما عُرف بـ “هجوم العال” الذي نفّذته “الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين”، هاجم كوماندوس إسرائيليّ مطار بيروت في أواخر 1968 ودمّر الطائرات المدنيّة اللبنانيّة الجاثمة على أرضه. في العام التالي، وبسبب التوتّر بين الجيش والفدائيّين الفلسطينيّين في قضاء بنت جبيل، كانت تظاهرة 23 نيسان (أبريل) الشهيرة التي سقط فيها قتيلان وعدد من الجرحى برصاص العسكريّين. الأزمة انفجرت وطنيّاً وسياسيّاً، فالتقى القادة المسلمون جميعاً على عدم التعاون مع رئيس الجمهوريّة. الأزمة والمقاطعة هاتان استمرّتا حتّى توقيع “اتّفاقيّة القاهرة” في تشرين الثاني (نوفمبر) 1969. لقد كان صائب سلام يتهيّأ للانتصار في معركة آفلة، فإذا به يواجه معركة صاعدة يكاد يستحيل الانتصار فيها.

والحال أنّ البورجوازيّة السنّيّة البيروتيّة، والكثير من الفئات الوسطى، لم تكن في وارد التصعيد. إنّ بيروتهم تبدو عموماً على ما يرام، وليس من داعٍ لإحراقها بهدف إصلاحها المزعوم. لكنّ الشارع، كالعادة، هو الغالب، والشارع خليط من أقلّيّة تتمثّل في فئات سنّيّة “أصليّة” لم يكن قد تسنّى لها دخول المتن السياسيّ، وأكثريّة تمثّلها فئات شيعيّة “غريبة” أقامت أغلبيّتها في الضواحي، ولم تكن قد اندمجت بعد في النسيج المدينيّ. بيد أنّ غلبة الشارع التي أعطت الأولويّة لـ “الأخوّة” على المواطنة، وللعروبة على السيادة الوطنيّة، نمّت عن الحدود التي لا تستطيع السياسات السنّيّة أن تتخطّاها. هذا ما بدا مُحرجاً للزعامة السلاميّة التي ظنّت أنّها تحرّرت من القبضة الناصريّة لتجد نفسها أسيرة القبضة الجديدة للمقاومة الفلسطينيّة. لكنّه كان مُحرجاً أيضاً لرشيد كرامي: ففي طرابلس ركب فاروق المقدّم، الطامح في معزل عن ثمن الطموح، والذي يربط عائلتَه عداء مؤصّل بالعائلة الكراميّة، موجة المقاومة، معلناً عن “انتفاضة” احتلّ بموجبها قلعة المدينة. حصل ذلك يوم “24 تشرين” الذي صار اسماً لحركة سياسيّة طرابلسيّة.

شيء واحد أنقذ الزعامة السنّيّة من مأزقها، وإن لم يكن صاحبُه يقصد ذلك: إنّه انعطاف كمال جنبلاط عن الشهابيّة وإعلان رغبته، هو أيضاً، في الاقتصاص منها. ما سمّم الودَّ القديم حادثةُ طائرة الميراج التي رُويت مراراً من غير أن يفارق الارتباكُ رُواتَها. الحادثة ارتبطت باسم محمود مطر، الضابط الذي تردّد أنّ المخابرات السوفياتيّة شغّلته ودفعته إلى خطف الطائرة كي تطّلع موسكو والقاهرة على أسرارها. “المكتب الثاني” أحبط العمليّة بكثير من الفوضى والارتباك، بحيث سقط جرحى بينهم ديبلوماسيّ سوفياتيّ. الاتّحاد السوفياتيّ وجنبلاط هاجما “المكتب الثاني” يومذاك، وأعادا الاعتبار إلى تلك المعركة التي كان العفن قد بدأ يقضم أطرافها. الجميع توافقوا بعدذاك على طعن الجثّة الشهابيّة وإيصال سليمان فرنجيّة إلى الرئاسة. هكذا غُضّ النظر عن المسأّلة التي تُلهب الشارع والتي لن تلبث أن تنفجر وتفجّر كلّ شيء.

 

إقرأ أيضاً:

الصراع على الزعامة السنيّة في لبنان (١)

30.12.2018
زمن القراءة: 6 minutes

كانت معركة الشهابيّة، ومن ورائها القاهرة، ضدّ صائب سلام، من أعتى المواجهات التي عرفتها الحياة السياسيّة اللبنانيّة بعد الاستقلال. المعركة كانت شرسة، وسلام كان شرساً أيضاً.

كانت معركة الشهابيّة، ومن ورائها القاهرة، ضدّ صائب سلام، من أعتى المواجهات التي عرفتها الحياة السياسيّة اللبنانيّة بعد الاستقلال. المعركة كانت شرسة، وسلام كان شرساً أيضاً.

زعامة بيروت بأكثريّتها السنّيّة كان ينبغي انتزاعها من قبضة هذا السياسيّ المشاكس: لقد هاجم تدخّل “المكتب الثاني” في حياة النسيج البيروتيّ، ولم يشارك في الكرنفال الذي يمجّد “فخامة الأمير اللواء” فؤاد شهاب، كما فضّل صداقة الرياض على صداقة القاهرة. لقد بات مطلوباً، بالتالي، إنهاء هذا الازدواج المُحرج بين صورة العاصمة العاصية وصورة البلد المنضبط كما رسمتها له الشهابيّة. ما زاد في الإلحاح على مهمّة التصفية السياسيّة أنّ سلام كان أوّل زعيم سنّيّ بعد رياض الصلح يمدّ نفوذه إلى خارج بيروت، عبر علاقات ربطته بنوّاب وسياسيّين سُنّة، كالعكّاريّ علي عبد الكريم والصيداويّ نزيه البزري.

المواجهات تعدّدت واختلفت أشكالها: تحريك بعض وجهاء الأحياء الناصريّين – الشهابيّين ضدّه. تحريض الأحزاب “الوطنيّة” و”التقدّميّة” عليه بوصفه كبير “الرجعيّين”. تكريس جريدتي “الأنوار” و”المحرّر” صفحاتٍ لهجائه: في 1963-4 امتلأت الأخيرة، بطلب مصريّ، بكتّاب من “حركة القوميّين العرب”. مضايقة أنصاره و”مفاتيحه الانتخابيّة” والسخاء في تقديم الخدمات لخصومه. تجميع مناوئيه وكارهيه حول عبد الله اليافي وطرحه بوصفه الزعيم البديل. استخدام رجال الدين في حملة متواصلة عليه. أحد هؤلاء كان الشيخ حسن خالد الذي تولّى، في 1966، منصب الإفتاء.

لقد صارت شتيمة صائب سلام رياضة يوميّة للناصريّ والشيوعيّ والجنبلاطيّ، فضلاً عن المتضرّرين البيارتة من زعامته، وبات ممّا لا بدّ منه فرز آخر المساحات المشتركة التي مثّلها نسيم مجدلاني: إنّه، في وقت واحد، نائب كمال جنبلاط في رئاسة الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ والعضو الأرثوذكسيّ الثابت على اللوائح السلاميّة. مجدلاني غدا مضطرّاً لأن يختار، وهو اختار زعامته البيروتيّة على اشتراكيّته الجنبلاطيّة.

صائب سلام، بدوره، قدّم نفسه بوصفه المدافع عن “كرامة بيروت”. “الكرامة” هنا عنتْ أموراً كثيرة وملتوية، وربّما متناقضة: نعرة بيروتيّة سنّيّة ضدّ الرئاسة المارونيّة، لكنّها أيضاً نبرة تصالح مع الحساسيّة المارونيّة على نطاق لبنانيّ في مواجهة الحلف الشهابيّ – الناصريّ. “الكرامة” انطوت أيضاً على معنى آخر مفاده أن يلزم السفير المصريّ عبد الحميد غالب حدّه، وألاّ يحظى بكلّ هذا النفوذ في عاصمة لبنان.

التطوّرات التي تلاحقت في سوريّا، منذ انفصالها عن مصر في 1961 إلى الانقلاب البعثيّ في 1963، المسبوق بانقلاب مماثل في العراق، ثمّ تجدّد الخلاف العاصف بين البعث وعبد الناصر، وفّرت من غير شكّ ظهيراً لسلام وحضّاً له على الانشقاق عن السحر الناصريّ. في 1963 اعتُقل ضابط سوريّ اسمه جلال مرهج في بيروت، اتُّهم بالتخطيط لـ “أعمال تخريبيّة”، بالتنسيق مع الشمعونيّ والنائب الشوفيّ السابق قحطان حمادة. معارضو الشهابيّة قالوا إنّ التهمة مفبركة خدمةً للقاهرة وبهدف الحدّ من تأثير دمشق البعثيّة على بيروت، فضلاً عن وضع المعارضين المحلّيّين في دائرة الشبهة. في تلك الفترة، وعلى ما تذهب إحدى الروايات، كان خالد يشرطي – المهندس الفلسطينيّ البعثيّ المقيم في بيروت، والقياديّ الفتحاويّ اللاحق – همزة الوصل بين صائب والحزب العفلقيّ.

صورة للرئيس صائب سلام مع أمير الكويت – 1965

1964 و1968

في انتخابات 1964 كان الصدام الرأسيّ: استطاعت “الدولة” خرق لائحة سلام الخماسيّة بالمحامي المُصنَّف ناصريّاً، رشيد الصلح، الذي أسقط عضو اللائحة شفيق الوزّان. عبد الله اليافي وباقي أعضاء لائحته رسبوا. الوحل الذي استُخدم لتلويث سلام ردّ عليه الأخير بوحل مماثل. ففي بيروت شُنّت حملة “غامضة المصدر” لتذكير سكّانها بشباب اليافي: لقد تخرّج من فرنسا بأطروحة أساءت إلى الرسول! رشيد الصلح بدا هدفاً أسهل، تبعاً لضعف شخصيّته الذي أظهره خفيف الوزن، ولتضارب أقواله الذي رسمه ضئيل الفعّاليّة.

كلّ شيء بدا مُحلّلاً يومذاك، خصوصاً أنّ سلام، وعلى عكس موقفه في 1960، دعم سامي الصلح في الدائرة الثانية. هكذا عاد سامي إلى برلمانٍ غاب عنه أربع سنوات. خصمه “الشهابيّ – الناصريّ” عدنان الحكيم رسب هذه المرّة. صائب، ومن خلال شخصيّات في “حزب النجادة”، كمحمّد كنيعو ومحمّد علي الرزّ، صدّع الحزب المذكور الذي تعامل معه الحكيم كأنّه ملكيّته الخاصّة.

في 1966 أثبتت الآلة التي أنجبها التعاون الجهازيّ الناصريّ – الشهابيّ فعّاليّتها الدمويّة: لقد وُجّهت أصابع الاتّهام إلى ابراهيم قليلات حين اغتيل مؤسّس جريدة “الحياة” ورئيس تحريرها كامل مروّة. آنذاك، كان مروّة يسدّد الانتقادات اللاذعة لسياسات عبد الناصر وحرب اليمن، فيما الناصريّون وحلفاؤه يسمّونه “عميلاً” للهاشميّين وآل سعود.

لكنْ مع هزيمة 1967 باشرت الناصريّة انحسارها، أمّا الشهابيّة فبدأ الرئيس شارل حلو، المنتخب في 1964، ابتعاده عنها. المعركة ضدّها استمدّت زخماً أكبر بنتيجة تأرجح حلو: هكذا شارك صائب في بناء “تكتّل الوسط” الذي جمعه بسليمان فرنجيّة وكامل الأسعد. لكنْ في بيروت نفسها، وفي 1968، انقضّ سلام على تحكّم “المكتب الثاني” بـ “جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة”. الصحافة يومذاك تحدّثت عن “معركة كسر عظم” خرج منها ظافراً، والآخرون مكسوري العظام. إذاً، الأمر معقود لصائب سلام في بيروت.

لكنّ انتخابات 1968 العامّة، التي سجّلت الانتصار الكاسح لـ “الحلف الثلاثيّ” في جبل لبنان، اختلف طريقها البيروتيّ. لقد بدت أشبه بهدنة عابرة في حرب متواصلة. ذاك أنّ حلو المتذبذب بين الشهابيّة وخصومها، كلّف اليافي برئاسة الحكومة المشرفة على الانتخابات، لكنّه وازَنَه بتسليم سليمان فرنجيّة وزارة الداخليّة. هكذا كان لا بدّ، في استثناء نافر، من إنشاء ائتلاف بين اليافي وسلام بحيث يخوضان المعركة معاً. لكنّهما لم يكونا معاً تماماً. فاليافي أمّن لنفسه ثلاثة آلاف صوت أزيدَ من الأصوات التي نالها سلام. الأخير، بدوره، طعن “حليفه” في الائتلاف، ومَكروهه الثابت، رشيد الصلح، إذ أوعز لمؤيّديه بانتخاب المرشّح المنفرد شفيق الوزّان. الصلح انهزم. الوزّان انتصر وانتقم لهزيمته أمام رشيد في 1964.

صائب سلام وريمون إدة ورشيد كرامي

معركتان غير منسجمتين

على نطاق لبنانيّ، وقف الزعيمان المسلمان الأقوى، سلام السنّيّ وكامل الأسعد الشيعيّ، حيث يقف زعماء الموارنة في إصرارهم على تفكيك “المكتب الثاني” والدفاع عن الحرّيّات العامّة. تلك المعادلة، التي عبّرت عنها سنوات 1964-8، لاحتْ لحظةً من اللحظات القليلة الواعدة في التاريخ السياسيّ للبنان الحديث. بيد أنّ رياح الماضي الذي لا يمضي آثرت أن تهبّ، واضعةً “القوميّة” في مواجهة الحرّيّة: ردّاً على ما عُرف بـ “هجوم العال” الذي نفّذته “الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين”، هاجم كوماندوس إسرائيليّ مطار بيروت في أواخر 1968 ودمّر الطائرات المدنيّة اللبنانيّة الجاثمة على أرضه. في العام التالي، وبسبب التوتّر بين الجيش والفدائيّين الفلسطينيّين في قضاء بنت جبيل، كانت تظاهرة 23 نيسان (أبريل) الشهيرة التي سقط فيها قتيلان وعدد من الجرحى برصاص العسكريّين. الأزمة انفجرت وطنيّاً وسياسيّاً، فالتقى القادة المسلمون جميعاً على عدم التعاون مع رئيس الجمهوريّة. الأزمة والمقاطعة هاتان استمرّتا حتّى توقيع “اتّفاقيّة القاهرة” في تشرين الثاني (نوفمبر) 1969. لقد كان صائب سلام يتهيّأ للانتصار في معركة آفلة، فإذا به يواجه معركة صاعدة يكاد يستحيل الانتصار فيها.

والحال أنّ البورجوازيّة السنّيّة البيروتيّة، والكثير من الفئات الوسطى، لم تكن في وارد التصعيد. إنّ بيروتهم تبدو عموماً على ما يرام، وليس من داعٍ لإحراقها بهدف إصلاحها المزعوم. لكنّ الشارع، كالعادة، هو الغالب، والشارع خليط من أقلّيّة تتمثّل في فئات سنّيّة “أصليّة” لم يكن قد تسنّى لها دخول المتن السياسيّ، وأكثريّة تمثّلها فئات شيعيّة “غريبة” أقامت أغلبيّتها في الضواحي، ولم تكن قد اندمجت بعد في النسيج المدينيّ. بيد أنّ غلبة الشارع التي أعطت الأولويّة لـ “الأخوّة” على المواطنة، وللعروبة على السيادة الوطنيّة، نمّت عن الحدود التي لا تستطيع السياسات السنّيّة أن تتخطّاها. هذا ما بدا مُحرجاً للزعامة السلاميّة التي ظنّت أنّها تحرّرت من القبضة الناصريّة لتجد نفسها أسيرة القبضة الجديدة للمقاومة الفلسطينيّة. لكنّه كان مُحرجاً أيضاً لرشيد كرامي: ففي طرابلس ركب فاروق المقدّم، الطامح في معزل عن ثمن الطموح، والذي يربط عائلتَه عداء مؤصّل بالعائلة الكراميّة، موجة المقاومة، معلناً عن “انتفاضة” احتلّ بموجبها قلعة المدينة. حصل ذلك يوم “24 تشرين” الذي صار اسماً لحركة سياسيّة طرابلسيّة.

شيء واحد أنقذ الزعامة السنّيّة من مأزقها، وإن لم يكن صاحبُه يقصد ذلك: إنّه انعطاف كمال جنبلاط عن الشهابيّة وإعلان رغبته، هو أيضاً، في الاقتصاص منها. ما سمّم الودَّ القديم حادثةُ طائرة الميراج التي رُويت مراراً من غير أن يفارق الارتباكُ رُواتَها. الحادثة ارتبطت باسم محمود مطر، الضابط الذي تردّد أنّ المخابرات السوفياتيّة شغّلته ودفعته إلى خطف الطائرة كي تطّلع موسكو والقاهرة على أسرارها. “المكتب الثاني” أحبط العمليّة بكثير من الفوضى والارتباك، بحيث سقط جرحى بينهم ديبلوماسيّ سوفياتيّ. الاتّحاد السوفياتيّ وجنبلاط هاجما “المكتب الثاني” يومذاك، وأعادا الاعتبار إلى تلك المعركة التي كان العفن قد بدأ يقضم أطرافها. الجميع توافقوا بعدذاك على طعن الجثّة الشهابيّة وإيصال سليمان فرنجيّة إلى الرئاسة. هكذا غُضّ النظر عن المسأّلة التي تُلهب الشارع والتي لن تلبث أن تنفجر وتفجّر كلّ شيء.

 

إقرأ أيضاً:

الصراع على الزعامة السنيّة في لبنان (١)