fbpx

الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (1)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قبل موسى الصدر لم يكن هناك فاعل سياسيّ اسمه “الطائفة” الشيعيّة. كان هناك زعماء شيعيّو المذهب، ما يقسّمهم أكثر كثيراً ممّا يوحّدهم. انقسامهم الأكبر كان بين شيعة الجنوب وشيعة البقاع الذين تتحكّم “العشيرة” بتنظيمهم الاجتماعيّ، ومعهم طيور ثلاثة تغرّد خارج السربين: في بيروت وجبيل والضاحية الجنوبيّة من العاصمة

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل موسى الصدر لم يكن هناك فاعل سياسيّ اسمه “الطائفة” الشيعيّة. كان هناك زعماء شيعيّو المذهب، ما يقسّمهم أكثر كثيراً ممّا يوحّدهم. انقسامهم الأكبر كان بين شيعة الجنوب وشيعة البقاع الذين تتحكّم “العشيرة” بتنظيمهم الاجتماعيّ، ومعهم طيور ثلاثة تغرّد خارج السربين: في بيروت وجبيل والضاحية الجنوبيّة من العاصمة.

في 1960، مع قيام العهد الشهابيّ، انتُخب الزعيم الجنوبيّ الأبرز أحمد الأسعد نائباً عن بنت جبيل، فيما رسب نجله كامل في قضاء مرجعيون. كذلك انتُخب زعيم بارز آخر هو يوسف الزين عن النبطيّة، ونائبان من آل عسيران هما عادل في الزهراني، وسميح في النبطيّة. ما أوحى به نجاح عسيرانيَّين اثنين من دورٍ للعائلات، بدّده حدث آخر أبلغ دلالةً على تصدّع تلك العائلات: فحين توفّي يوسف الزين في 1962، تنافس على مقعده نجلاه الأخوان عبد اللطيف وعزّت، وفاز الأوّل. قبل عام واحد، في 1961، توفّي أحمد الأسعد فحلّ في مقعده الشاغر نجله كامل. بعد ذاك، ولسنوات طويلة، بقي أسعد الأسعد، قريب كامل وصهره، ينافسه على مقعده النيابيّ في مرجعيون. أمّا معارك كامل اللاحقة لتسنّم رئاسة المجلس النيابيّ فكانت المنافسة فيها مع صهره الآخر، الزعيم البقاعيّ صبري حمادة.

العائلات السياسيّة في الجنوب كانت قد وصلت إلى العام 1960 وهي مقطوعة الأنفاس. فمنذ 1952، تعرّضت أعرق تلك العائلات، آل الأسعد، لنزاع حول الزعامة بين أحمد وأبناء عمّه محمود خليل الأسعد، تأدّى عنه سقوط قتلى وجرحى. في النصف الثاني من الخمسينات، أُنهك أحمد الأسعد جرّاء معارضته للعهد الشمعونيّ الذي أسقطه، عام 1957، في صور. بعد ثلاث رئاسات للمجلس في أوائل الخمسينات، حلّ عادل عسيران محلّه في هذا المنصب.

الأسعد والآخرون

العهد الشهابيّ الجديد التقط تلك البيوت بتخبّطها وبالقليل المتبقّي من تماسكها. حيّز التعايش بدا عريضاً ومستقرّاً. وحدهم آل الخليل، من بين العائلات السياسيّة الأساسيّة، لم يجدوا مكاناً لهم في الوضع الجديد. ووحده زعيمهم كاظم الخليل رسب في صور عام 1960، وظلّ يرسب حتّى 1972. أمره بدا للكثيرين عقاباً على شمعونيّته التي كافحها العهد الجديد بكلّ ما أوتي من عزم. كاظم، الزعيم الساحليّ مثله مثل عادل عسيران، كان قد استعار من الزعيم الجبليّ أحمد الأسعد جمود الجبال وأعطاه سيولة الشواطىء.

بدوره فإنّ نفوذ الزعامة الأسعديّة كان قد تراجع لأسباب شتّى. ففضلاً عن تفتّت الملكيّات الزراعيّة الكبرى، الذي عصف بها وبمثيلاتها، كفّ الجنوب عن أن يكون دائرة انتخابيّة واحدة كما كان في الأربعينات. وبعد كلّ حساب، فشيعة الجنوب، على عكس سنّة الشمال الذين يدورون حول المحور الطرابلسيّ، يتوزّعون على محاور ثلاثة هي صور والنبطيّة وبنت جبيل. ولئن كانت صور الأولى فإنّها أولى بين متساوين.

الأسعديّون كانوا يرفعون صور عبد الناصر نكايةً بشمعون. العسيرانيّون كانوا يرفعون صور الملك حسين نكاية بعبد الناصر. الشهابيّة تستوعب الصورتين. المهمّ ألاّ تُرفع بعد اليوم صورة كميل شمعون

هكذا فإنّ رسوب أحمد في صور عام 1957 لم يحصل فقط لأنّ العهد الشمعونيّ زوّر الانتخابات، وهو ما فعله بالطبع، بل أيضاً بسبب تفرّع الزعامات وتمثيل كلّ منها لعصبيّة مناطقيّة ناشئة. بالمعنى نفسه، رسب نجله كامل عام 1960، من دون أيّ تدخّل رسميّ ضدّه. فحين فاز في انتخابات 1964 ثلاثة أخوة من آل الزين، هم عبد اللطيف عن النبطيّة وعبد الكريم عن الزهراني وعبد المجيد عن بيروت، بدت الدلالة السياسيّة – العائليّة للحدث هذا ضامرة وطفيفة. لقد بدا الحدث المذكور أقرب إلى المزاح والأحاجي أو الأسئلة التلفزيونيّة التي تُسأل لـ “المتفوّقين”.

إلى تفتّت الزعامة الجنوبيّة الذي يريح السلطة المركزيّة ويطمئنها، امتلكت كلّ واحدة من الزعامات “المقبولة” ما يعزّز مقبوليّتها: زعامة أحمد وجدت ما يؤصّلها في “الهويّة العامليّة”، أقلّه منذ ناصيف النصّار في القرن الثامن عشر. عبد اللطيف، والد أحمد، توفّي وهو “وطنيّ”، أي على خصومة مع الفرنسيّين. أحمد الشابّ كان مناهضاً لهم. نزاعه مع شمعون حمله في 1959 على التوجّه إلى دمشق على رأس أضخم الوفود اللبنانيّة للترحيب بجمال عبد الناصر. نجله المحامي كامل، الذي درس في “الحكمة” ثمّ في باريس، أوحى أنّه سيجدّد الزعامة القديمة.

عادل عسيران

عادل عسيران الذي انتُقد على شمعونيّته، لم يكن متطرّفاً ككاظم الخليل. كان شمعونيّاً معتدلاً لم تحل صفته هذه دون أوصاف أخرى أسبق منها: مناضل ضدّ الفرنسيّين الذين اعتقلوه في 1936، ثمّ واحد من مساجين الاستقلال في راشيّا. في المقابل، فـ “العمالة للفرنسيّين” التي أخذها البعض على يوسف الزين لا تثير أيّ استياء عند الضابط ذي النشأة والتكوين الفرنسيّين، فؤاد شهاب، خصوصاً أنّ علاقة الزين بمسيحيّي الجنوب كانت وبقيت ممتازة. لقد اعتبروه أحد حُماتهم القليلين في أيّام ضائقتهم. كاظم الخليل بقي وحده خروفاً أسود. لقد بدا مستفزّاً لصُوِريّين كثيرين أحرقوا بيته إبّان “ثورة 58″، وكان مستفزّاً لشهاب نفسه. هكذا مُثّلت صور في 1960 و1964 و1968 بمحمّد صفيّ الدين وجعفر شرف الدين وسليمان عرب، ثمّ أخيه علي.

زعيم بنت جبيل علي بزّي، الذي لا ينحدر في مراتب الزعامة إلاّ قليلاً عن عادل عسيران وكاظم الخليل، كان صديقاً لفؤاد شهاب، من خلال صداقة الاثنين لتقيّ الدين الصلح. في 1960 دخل البرلمان متحالفاً مع خالد شهاب، قريب رئيس الجمهوريّة.

الأسعديّون كانوا يرفعون صور عبد الناصر نكايةً بشمعون. العسيرانيّون كانوا يرفعون صور الملك حسين نكاية بعبد الناصر. الشهابيّة تستوعب الصورتين. المهمّ ألاّ تُرفع بعد اليوم صورة كميل شمعون.

صبري حمادة…

في البقاع كُرّست زعامة صبري حمادة، رئيس المجلس النيابيّ منذ الاستقلال وإن انقطعت تلك الرئاسة إبّان العهد الشمعونيّ. لقد حظي حمادة بالرعاية الرسميّة لأسباب عدّة بينها النفور المتبادل الذي ربطه بشمعون، تماماً كما عوقب الخليل في صور بسبب الكيمياء التي جمعته بالرئيس السابق وجعلته لاحقاً نائباً له في حزبه “حزب الوطنيّين الأحرار”.

صبري الذي درس في صباه في عينطورة، عُرف بدماثة تدوّر الزوايا وتنأى بنفسها عن الاستفزاز. عائلته اتُّهمت بالتعاون مع الفرنسيّين، وأحياناً ضدّ باقي العشائر. هذا ما نظّم خصومته لشمعون وأدرجها في نطاق لبنانيّ. أهمّ من ذلك أنّه ليس سليل الجبّ الأهمّ في عشيرته، التي هي أصلاً صغيرة قياساً بعشائر شمص وعلّوه وناصر الدين ودندش وجعفر. والده سعدون كان قبضاياً، وكسياسيّ ناجح وابن قبضاي اقترن بابنة أحمد الأسعد. إنّه، لا بدّ، مكسب لأيّ عهد.

باتوا يشبهون جيرانهم الموارنة اجتماعيّاً، لكنّهم آثروا ألاّ يشبهوهم سياسيّاً

لكنّ البقاع، تلك المنطقة الحدوديّة التي تقطنها كتل عشائريّة كبرى، كان أمره أبسط من الجنوب كما كان، في الوقت نفسه، أعقد. أبسط: بمعنى أنّ روابطه الدمويّة تغلّف فوارقه الطبقيّة وتموّهها. فالمالك والفلاّح، وربّ العمل والعامل، قد يكونون من عشيرة واحدة تجمع بينهم القرابة والدم. لكنّه أعقد تبعاً لموقعه الحدوديّ مع سوريّا، فيما كان اتّفاق الهدنة يلغي التبعات السياسيّة التي قد تترتّب جنوبيّاً على مجاورة إسرائيل. هكذا فُرض على زعامة حمادة نوع من الرقابة الوديعة تمثّلت في تحكيم ضبّاط “المكتب الثاني” بأمور تلك المحافظة، كبيرها وصغيرها، وفي تمتين قوّة النائب فضل الله دندش، سليل العشيرة التي تعاطفت مع أنطون سعادة إبّان سعيه لإزالة الحدود بين لبنان وسوريّا. لقد كانت الحكمة الشهابيّة تقول إنّ العشائر، التي ربطتها تقليديّاً علاقة سيّئة بالمركز، هي التي يتولّى “المكتب الثاني” أمرها: عبر الخدمات والتأطير، يصار إلى جذبها من حمص إلى بيروت.

الرئيس بشارة الخوري، الأمير اليمني سيف الإسلام عبدالله، رئيس مجلس النواب صبري حمادة، ورئيس الحكومة سامي الصلح

لخدمة هذا المبدأ، تمّ تفريخ زعامات باتت مرآة للتفتّت البقاعيّ. فوق هذا، شُجّع طامحون كالصحافيّ رياض طه على مقارعة “الإقطاع”. والأهمّ، في هذا التخليط العجائبيّ، إضعاف الزعامة المدينيّة البعلبكيّة ممثّلةً بسليم حيدر وبالكاثوليكيّ حبيب مطران – اللذين أُخذت عليهما، هما أيضاً، شمعونيّتهما – لصالح الريف والعشائر في الهرمل.

جبيل، الضاحية، بيروت

بدورهم بقي شيعة جبيل ملحقين بالزعامة المارونيّة لذاك القضاء. هكذا مثّلهم أحمد إسبر بوصفه إدّويّاً، كما مثّلهم علي الحسيني بوصفه دستوريّاً ينتمي إلى خصوم ريمون إدّه الموارنة. الشيء نفسه يصحّ في الضاحية الجنوبيّة التي أُلحقت سياسيّاً بجبل لبنان وبموارنة بعبدا والمتن الجنوبيّ. شيعتها، بسبب التعليم والوظيفة الرسميّة، باتوا يشبهون جيرانهم الموارنة اجتماعيّاً، لكنّهم آثروا ألاّ يشبهوهم سياسيّاً. أكثريّتهم الساحقة كانت تقترع للدستوريّ عبد الكريم فرحات، ومن بعده للدستوريّ ثمّ الشهابيّ – الناصريّ خضر حركة، إلاّ أنّ الفائز المؤكّد كان الشمعونيّ محمود عمّار. لقد وُصف عمّار، بين ما وُصف به، بالمداومة على الصلاة كلّ أحدٍ في الكنيسة.

شيعة بيروت طمحوا، من خلال رشيد بيضون، إلى إنشاء شيعيّة بيروتيّة مستقلّة عن أصولها في الجنوب. في أواخر الثلاثينات، أسّس بيضون “الكلّيّة العامليّة” التي لعبت في تاريخ التعليم الشيعيّ دوراً مماثلاً للّذي لعبته “الكلية الجعفريّة” في صور. أموال التجّار الشيعة ومهاجري المهجر الأفريقيّ رعت هذا المشروع وضمنت دوامه. رشيد بيضون، كي يرسّم حدوده حيال الشيعيّة الجنوبيّة، أنشأ “حزب الطلائع” الذي قابله “حزب النهضة اللبنانيّ” التابع لأحمد الأسعد، والذي ضمّ مهاجرين أحدث هجرةً وأقلّ اندماجاً في نسيج العاصمة. احتكاكات الحزبين لم تخل من عنف أسقط بضعة قتلى وجرحى.

مؤسّس “العامليّة”، الذي جمع بين تمثيل مدينيّ تجاريّ ونفور من الناصريّة وما توصف به من سنّيّة، كان يشبه عادل عسيران في موقعه المتعادل: صلة بشمعون من دون إيغال في الشمعونيّة. هذا رشّحه، من حيث المبدأ، لأن يكون شهابيّاً مقبولاً. وبالفعل فقد تحالف في انتخابات 1960 مع صديق شهاب، تقيّ الدين الصلح. لكنّ صداقة الصلح لشهاب لا تعوّض الأخير ضعفه الشعبيّ الفائق.

في مواجهة لائحة قويّة ضمّت عدنان الحكيم وفريد جبران ومحسن سليم، ودعمها صائب سلام وكمال جنبلاط، فيما صبّت لمصلحتها أصوات الأكثريّات السنّيّة والكرديّة والدرزيّة، رسب بيضون بفارق 600 صوت أمام المحامي الصاعد محسن سليم. بعد أربع سنوات، وكان سليم قد تحوّل إلى أحد أعلى الأصوات في معارضة الشهابيّة، عاد بيضون ليحتلّ مقعده في المجلس النيابيّ.

إقرأ أيضاً:
الصراع على الزعامة الدرزيّة في لبنان
الصراع على الزعامة السنيّة في لبنان
الصراع على الزعامة المارونيّة في لبنان