fbpx

الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (7)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تحوّل حزب الله قوّةً لا تملك مثلها الدولة والجيش اللبنانيّان، والأخيران مُعرّضان أصلاً للانشقاق في أيّة لحظة. أمّا القوّة هنا فلا تقتصر على المعنى العسكريّ، إذ تشمل المؤسّسات – الاجتماعيّة والطبّيّة والإعلاميّة والتعليميّة والكشفيّة وسواها

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 1982، وكان توماس فريدمان يراسل “نيويورك تايمز” من بيروت، أخبره غسّان تويني، بعد وصول قوّات المارينز إلى لبنان، بأنّ “حقبة تشي غيفارا في السياسة اللبنانيّة ولّتْ، والناس انقضت متعتُهم مع الراديكاليّة. اللحى وبنطلونات الجينز تخرج. ربطات العنق تدخل”.

لم يكن في وسع المحلّل، ولو تعمّد الخطأ، أن يخطىء أكثر. الحداثويّة المبسّطة، التي عبّر تويني عنها، بدت لزوم ما لا يلزم.

فـ “اللحى وبنطلونات الجينز” كانت يومذاك تؤسّس العالم الجديد وتكتب قصّةً باتت بدايتها معروفة، وإن ظلّت نهايتها مجهولة حتّى اليوم.

لقد تأخّر الإعلان عن الولادة الرسميّة لـ “حزب الله” حتّى 1985. المهمّة أوكلت إلى ابراهيم أمين السيّد الذي سُمّي ناطقاً بلسان الحزب، ربّما تقليداً للّقب الذي أعطي لياسر عرفات في السنوات الأولى لحركة “فتح” الفلسطينيّة. في 1989، بُعيد اتّفاق الطائف، أصبح للحزب أمين عامّ معلن هو صبحي الطفيلي.

كان واضحاً، منذ أوائل الثمانينات، أنّ تنظيماً سياسيّاً جديداً، يقوده رجال دين شيعة، رأى النور. ما بدأه موسى الصدر، بإعادته الاعتبار إلى الشيوخ، من دون أن يرشّحهم للحكم والسلطة، بلغ، مع الحزب الناشىء، خلاصاته المنطقيّة القصوى. نظريّة “ولاية الفقيه”، التي نشرتْها الثورة الإيرانيّة، صبّت أيضاً في الوجهة هذه: من يؤمّ الناس في الصلاة يؤمّهم في السياسة.

في وقت لاحق، تردّدت رواية تفيد أنّ الحزب تأسّس في أحد أيّام 1982 في السفارة الإيرانيّة بدمشق، حين كان السفير حجّةَ الإسلام علي أكبر محتشمي. مذّاك، شرع المدرّبون الإيرانيّون يتقاطرون، عبر دمشق، إلى مدينة بعلبك. الشبّان اللبنانيّون كانوا ينتظرون مَن يعلّمهم، في وقت واحد، القتال والتديّن على الطريقة الإيرانيّة: هذه أجسادنا وعقولنا فاصنعوها.

قياديّو حزب الله عام 1985 في بعلبك

في البداية، بدا الاسم مثيراً لسخرية البعض، إذ لم يكن مألوفاً التعاملُ مع الله بوصفه مؤسّس حزب أو رئيساً له أو أميناً عامّاً. الحزب نبّه هؤلاء، عبر شعاره المكتوب على عَلَمه، إلى آية في “سورة المائدة” تقول: “إنّ حزب الله هم الغالبون”. آخرون تذكّروا فجر الثورة الإيرانيّة، حين أسّس حجّة الإسلام هادي غفاري “حزب الله” الذي تولّى، إبّان “الثورة الثقافيّة” في 1980، “تطهير” الأكاديميا الإيرانيّة من “التأثيرات الغربيّة” وإرهاب الأساتذة والطلبة المستقلّين والليبراليّين واليساريّين.

الانقلاب الكبير

بالطبع كان الاجتياح الإسرائيليّ وما أعقبه من احتلالٍ ما وفّر “القضيّة” وعلّة الوجود لـ “حزب الله”. وبدوره، راح الأخير يتصرّف كما لو أنّه يفتتح، كلّ يوم، عصراً للبطولة. لكنّ الافتراق عن “طريقة الحياة اللبنانيّة”، التي أودعت البطولات في الأساطير وكتب التاريخ السحيق، راح يتكشّف تباعاً. ثمّ إنّ اللبنانيّين عرفوا، قبل الحزب المذكور، أحزاباً طائفيّة كثيرة وأحزاباً دينيّة قليلة، لكنّهم معه شرعوا يتعرّفون إلى حزب دينيّ وطائفيّ في آن معاً. والأهمّ، في محاكمة تطال مسار الحزب المديد، كان انقلابه المتنامي على طقوس الشيعة اللبنانيّين عبر استدخال طقوس إيرانيّة، والتغييرات التي أحدثها على معاني الحياة والموت والشهادة، فضلاً عن إقحامه عاداتٍ وتقاليد جديدة على سيولة الحياة السياسيّة والاجتماعيّة: هنا بِتنا أمام تشكيل يصحّ فيه الكثير من مواصفات التنظيم التوتاليتاريّ في ما خصّ العقيدة والقائد وتكريس النفس لخدمتهما حتّى الموت.

إنّ لبنان رخوٌ بطبيعته، وبحكم تركيبه، فيما “حزب الله” مدجّج بالحديد

بنتيجة هذا الجهد الدؤوب، الذي عزّزه المال الإيرانيّ معطوفاً على التسليح والتدريب، قبل أن ترفده التسهيلات السوريّة، تحوّل الحزب قوّةً لا تملك مثلها الدولة والجيش اللبنانيّان، والأخيران مُعرّضان أصلاً للانشقاق في أيّة لحظة. أمّا القوّة هنا فلا تقتصر على المعنى العسكريّ، إذ تشمل المؤسّسات – الاجتماعيّة والطبّيّة والإعلاميّة والتعليميّة والكشفيّة وسواها – بوصفها مصدراً هائلاً لفرص العمل، ومصدراً آخر لتقديم الخدمات والرعاية، ناهيك عن كونها مصنعاً لصهر العقول وصبّ السلوك والأفعال في نمط وقالب.

الحزب، في بداياته، دعا إلى إنشاء “جمهوريّة إسلاميّة في لبنان”. مُحازبوه رشّوا موادّ حارقة على فتيات في بعلبك لبسن تنانير وفساتين “غير محتشمة”. الشعار الذي يَهدي السلوك كان: “حجابكِ أغلى من دمي”.

إذاً، كان الحزب، في الخلاصة، انقلاباً كاملاً على كلّ ما ألفه اللبنانيّون.

لكنّ الطريق إلى “حزب الله” شهدت تعرّجات عدّة. الذين يعرفون بعض الأسماء البارزة في قيادته لاحظوا أنّ مصادره ثلاثة: فهم إمّا منشقّون عن “أمل”، أو منتسبون سابقون إلى “فتح”، أو مناصرون لـ “حزب الدعوة” الإسلاميّ الشيعيّ في العراق. كذلك فالصيغ التي سبقت التأسيس الرسميّ عديدة، الكثيرُ منها كان شراكةً مع “أمل” عبر جسر القرابات العائليّة وتداخل الهويّتين. كانت هناك “منظّمة الجهاد الإسلاميّ” التي نفّذت عمليّات إرهابيّة كبرى تستهدف كلّ ما هو أميركيّ وفرنسيّ، و”المقاومة المؤمنة” التي كانت أهدافها داخليّة أهمّها، في أغلب الظنّ، الشيوعيّون، و”اتّحاد الطلبة المسلمين” ممّن تأثّروا بمحمّد حسين فضل الله وتعاليمه. وبعد الغزو الإسرائيليّ مباشرة، انشقّ عن “أمل” حسين الموسوي، نائب نبيه برّي الذي تولّى نيابته قبل أشهر فقط، لينشىء “أمل الإسلاميّة” التي ما لبثت أن صبّت في حزب ولاية الفقيه.

تظاهرة ضد الولايات المتحدة الأميركية عام 1985 أمام مطار بيروت

هؤلاء، منذ 1982، نفّذوا عملّيّات كبرى أسموها استشهاديّة، وأسماها سواهم إرهابيّة وانتحاريّة. الأهداف الأبرز كانت السفارتين الفرنسيّة والأميركيّة في بيروت، والقوّات الأميركيّة والفرنسيّة العاملة ضمن نطاق متعدّدي الجنسيّة في لبنان. القتلى والجرحى كانوا بالمئات. كذلك اختُطف وقُتل أميركيّون وفرنسيّون وعرب، واختُطف ديبلوماسيّون سوفيات وقنصل سعوديّ وأساتذة جامعيّون وباحثون أجانب.

الضربات لم تقتصر على لبنان. امتدّت إلى بلدان كالكويت وتركيّا، وفي وقت لاحق إلى الأرجنتين. هكذا ولأوّل مرّة أصبح لبنان فعلاً في قلب الكون، لكنْ بغير المعنى الذي قصده الفولكلور المسيحيّ الجبليّ: ثمّة لبنانيّون باتوا يتصدّرون أخبار العالم، بعضهم قاتلٌ وبعضهم قتيلٌ، بعضهم يهرّب وبعضهم يصلّي.

ربطاً بإيران

في تلك العمليّات كان واضحاً، أقلّه حتّى أواسط الثمانينات، أنّ التداخل بين “الحزب” و”الحركة” أقوى من الانفصال. في 1985، خطّط القياديّ الأمليّ عقل حميّة لخطف طائرة تي دبليو أي، كان على متنها المطرب اليونانيّ ديميس روسّوس. الشبّان الذين نفّذوا الخطف كانوا من “حزب الله”، سمّوا أنفسهم “منظّمة المضطهَدين في الأرض”. في 1986، أسرت “أمل” الطيّار الإسرائيليّ رون أراد الذي سقطت طائرته في الجنوب. الرواية التي شاعت تقول إنّ أراد انتهى في إيران…

لوحظ أيضاً أنّ المخطوفين الذين يُطلق سراحهم يبادرون إلى شكر الرئيس السوريّ حافظ الأسد، وأحياناً القيادة الإيرانيّة، تماماً كما أنّ الكثيرين ممّن ينوون تنفيذ عمليّات انتحاريّة يُهدون عمليّاتهم إلى أولئك القادة أنفسهم.

الملاحظة الأهمّ، على أيّة حال، كانت ارتباط الخطف ومعظم التفجيرات الكبرى بالحرب العراقيّة – الإيرانيّة التي وقفت فيها دمشق إلى جانب طهران. من خلال الضغط، بالرهائن وبالتفجيرات، تُدفَع الولايات المتّحدة إلى موقف أقلّ انحيازاً للعراق، أو تُدفع فرنسا إلى التوقّف عن مدّه بالسلاح… في أواخر 1986، مع انكشاف إيران – غيت، تبدّى أنّ المعركة التي تُخاض ذات أغراض إيرانيّة تتقدّم كلّ غرض آخر. ما كان يُحسَم من صورة لبنان وأمنه واقتصاده وسمعته كان يضاف إلى الموقع التفاوضيّ الإيرانيّ.

نبيه برّي كان لا بدّ أن يرسّم الحدود بينه وبين “حزب الله”، خصوصاً أنّ سوريّا، في ظلّ حافظ الأسد، شاءت أن تستضيف الإيرانيّين في لبنان، لا أن تكون رهينتهم فيه.

والحال أنّ رئيس “أمل”، المولع بـ “الحِكَم” والأمثال الريفيّة، يحبّ أن يأكل العنب، لا أن يقتل الناطور. والعنب لبنانيّ تعريفاً، فإذا زال لبنان زال العنب. أمّا “حزب الله” فيذهب بعيداً في دينيّته وبعيداً في إيرانيّته، ما قد لا يُبقي عنباً يؤكل. ولئن كان الحزب، منذ إبصاره النور، مشروعاً إيديولوجيّاً متطرّفاً، فإنّ براغماتيّة برّي يمكن أن تتطرّف في اتّجاه معاكس وتجعل صاحبها رجلاً من طبيعتين. فهو حتّى هواه السوريّ شابَهُ بعض الفتور حين بدا، مع الاجتياح الإسرائيليّ، أنّ دمشق قد لا تستطيع إعطاءه الكثير. هكذا جاءت مشاركته في “هيئة الإنقاذ”، التي شكّلها الرئيس الياس سركيس وضمّت بشير الجميّل في مَن ضمّت، نوعاً من استكشاف طَموح للاحتمالات كلّها. هذا التطوّر جاء مرفقاً بتكهّنات عن “حلف مارونيّ – شيعيّ” يكون رمزاه الجميّل وبرّي “الشابّان”، كما يكون بديلاً عن الثنائيّة القديمة المارونيّة – السنّيّة الموصوفة بالهرم.

انشقاق الموسوي عنه، اعتراضاً على مشاركته تلك في “هيئة الإنقاذ”، لم يكن غير إيذان مبكر بتضارب المنطلقات بين التنظيمين. فالحزب قدّم نفسه، منذ نعومة أظفاره، رديفاً لـ “المقاومة” وقدّم “المقاومة” رديفاً له. أمّا قيادة “أمل” فأصيبت بشيء من الضياع والارتباك حيال الغزو الإسرائيليّ، تاركةً للظروف والمناطق والاعتبارات الأهليّة أن تتحكّم بالقرار: هنا نقاوم وهناك نرفع أعلاماً بيضاء. هنا نبارك الأهالي وهم يرشّون زهراً وأرُزّاً على الإسرائيليّين، معبّرين عن فرحهم بالخلاص من السلطة الفلسطينيّة السابقة، وهناك نباركهم وهم يبادرونهم بالرصاص والزيت المغليّ والعمليّات الانتحاريّة، تعبيراً عن مقاومتهم للغزاة. ولئن وُلد الحزب إيرانيّاً خالصاً، فإنّ سوريّةَ الحركة لم ترتقِ إلى تطابق كامل إلاّ بعد أحداث وتطوّرات بعينها: فوهمُ الخلاص الجنوبيّ قلّصته العنجهيّة الإسرائيليّة التي تُذلّ قرية بكاملها كي لا تعرّض أحد جنودها للخطر، تماماً كما قضى اغتيال بشير على وهم الخلاص المسيحيّ. وإذ ضغطت المزايدات الإسلاميّة والراديكاليّة، خصوصاً منها تلك الإيرانيّة المصدر، فإنّ سوريّا ضغطت بدورها، خصوصاً بعد 17 أيّار. لسان حالها كان يقول: إمّا معنا أو ضدّنا.

على العموم، اختلف التنظيمان في النشأة والمسار والهدف، ووُضع حصر الإرث وفرز الأملاك على جدول الأعمال.

إقرأ أيضاً:
الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (6)
الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (5)

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!