الجغرافيا السورية في غالبيتها العظمى، تتعرض للقضم والفوضى والقتل على الهوية، والتغيير الديمغرافي، ولا يقتصر الأمر على الكرد فقط. لكن المشكلة والكارثة المجتمعية والإنسانية والجمعية، أن تشعر جماعة ما بأن قسماً من شركائها في الوطن والمستقبل، يستهدفونها على خلفيات قومية وهوياتية، لنكون أمام ذاكرة كردية سورية، مُتخمة ومُرهقة من مآسي الويلات والحروب، زاد عليها شتات الهجرة والتهجير.
وفي كل معركة تحصل في سوريا، وحيث يوجد الكرد، فإن العقل الجمعي الكردي يختلف عن نظيره السوري. وهذا الأخير يبحث عن نصره المؤزر في الحرب، لكن وفقاً للأحداث والسياق العام خلال عمر الأزمة السورية، فإنهم غالباً ما ينقسمون إلى ملل وشرائح، أحدهم يبحث عن الاستقرار والحوكمة، وآخر يُفتش عن الغنائم، وثالث يتحضّر لمعركة توسيع المكاسب. في حين يبدأ العقل الكردي بالتفكير عن مكانٍ للجوء والهرب وإنقاذ النفس؛ إذ لا ثقة ولا راحة بعد سيل التجارب المريرة للكُرد في سوريا، مع قسم ليس بالقليل لتلك الفصائل.
فحلب على سبيل المثال، التي شهدت خلال الأيام الأخيرة، تحولاً واضحاً في معادلة السيطرة على المحافظة، وما يلحق بها من تغيرات سياسية وجغرافية، وتداعيات ذلك على مسارات الحل السياسي في سوريا، أو الوضع المستقبلي للجغرافيا والحدود المرسومة، التي بقيت راسخة بفضل تجميد الصراع ووقف إطلاق النار، لكن بشكل أمني وهشّ، من دون تحوّلها إلى حدود سياسية رصينة؛ فعملية وقف إطلاق النار منذ أربع سنوات، لم يستتبعها أي تغيرات سياسية مُساندة لها. لكن والحال مع الراهن الجديد، فإن الوضع برمته تغير، على أقل تقدير بالنسبة إلى مناطق وسط سوريا. ومن ضمن تلك التغيرات، اعتقاد الكرد أن الانتماء والهوية تعرضا مجدداً لأشكال مختلفة من الخطر والتهديد. ورغم حجم التطمينات التي قدّمتها أطراف سياسية وعسكرية للمدنيين الكرد، لكن الممارسات السابقة لبعض تلك الفصائل وحجم انتهاكاتها ضد الكرد في عفرين، إضافة إلى حجم الخوف والفزع الذي رعته أطراف كردية نفسها، ذلك كله كفيل بإحداث قلق ومخاوف حول مصيرهم.
حلب التي تضم مزيجاً من الإثنيات والمذاهب، يعيش فيها مئات الآلاف من الكرد المنحدرين من عفرين وكوباني، منذ بدايات الإعمار والاستقرار السكاني فيها، وباتوا يُشكلون جزءاً مهماً من النسيج الاجتماعي في المدينة، وسعوا الى لعب أدوار عميقة في الاقتصاد والحياة اليومية للمدينة وسياقاتها الاجتماعية والمعيشية والتعليمية، لكنهم أيضاً، بقيوا بعيدين من التمثيل السياسي، سواء في البرلمان، أو البلديات الرئيسية، أو التشكيلات الوزارية، رغم كمّ التكنوقراط الكردي فيها ونوعه، بحكم الانخراط الكثيف للجيل الكردي في التعليم والاستفادة من جامعة حلب ودراستها العليا، وهو ما شكّل سبباً كافياً في خلق صراع هوياتي، كجزء من الصراع السياسي بين الكرد والسلطة من جهة، وبينهم وبين جزء من المكونات التي كانت دمشق تتحكم بها وتحركها ضد الكرد من جهة ثانية.
إقرأوا أيضاً:
بقيت لوحة الصراع على حالها، سحق هوياتي للكرد، قابله ترسيخ قومي- فكري- سياسي كردي، فشكّلت حلقة مغلقة، تداخلت مع الأحداث السياسية الكبرى التي شهدتها سوريا عموماً، وحلب خصوصاً، مثل الصراع مع تركيا، والنظام السوري، والقوى المعارضة بما فيها الكرد أنفسهم. ليقود ذلك إلى تصاعد أدوار مواجهة جديدة بين “الاتحاد الديمقراطي” وأجنحته العسكرية من طرف، ومن طرف أخر المعارضة السورية وتركيا، خاصة بعد سيطرة المعارضة على حلب حتى عام 2016، إضافة إلى الواقع الملتبس والمتغير الذي فرضته القوى العسكرية والأمنية، التي سيطرت على المدينة بعد 2016. وخلال عمر الأزمة السورية، شهدت حلب تحولات كبيرة في ما يتعلق بالتمثيل السياسي الكردي، حيث المساعي الكردية لتعزيز الحضور السياسي، عبر وجودهم في المعارضة السورية، أو المواجهات العسكرية المتمثلة بقوات “الحماية الشعبية” أو (ypg). لكن بالرغم من كل ذلك، لم يتم كسر طوق العزلة عن الهوية الكردية، ولا مؤشرات لكسره حالياً أيضاً.
كما تستمر المخاطر التي كانت موجودة مسبقاً، مثل التحديدات الاقتصادية، والتهميش في سوق العمل، وارتفاع نسبة البطالة في الأحياء الكردية، وقلة الفرص الاقتصادية مقارنة بباقي المكونات، أو وفقاً لسياسات التمييز التي استمرت منذ عقود، حتى تاريخ سيطرة المعارضة على حلب مُجدداً قبل أيام.
ورغم الوزن الثقافي والتعليمي لحلب، سواء عبر جامعتها الحكومية التي تأسست منذ عام 1946، أو كثافة الجامعات الخاصة، و المراكز البحثية الخاصة والحكومية، والوزن الثقافي والاجتماعي الذي لعبته المدينة، يُضاف إليها أن حلب كمركز للأيديولوجيا السياسية السنية، مع كل ذلك، استمرت معاناة الكرد وتحدياتهم في الحفاظ على اللغة والثقافة داخل المجتمع السوري عامة، وعدم الاستفادة من زخم المراكز، إذ كانت جامعة حلب كغيرها من الجامعات السورية، وضمن أقسام اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، يحق للطالب اختيار لغة إضافية ضمن دارسته، وكانت جميع اللغات متاحة للتسجيل، بما فيها العبرية لغة “الكيان الصهيوني المعادي” وفقاً للتوصيف الحكومي السوري الرسمي، لكن اللغة الكردية كانت ولا تزال ممنوعة من التعليم والتداول في الجامعات والمدارس، بما فيها الخاصة منها، وخلال عمر الأزمة السورية أيضاً، لم تهتم أطراف النزاع بهذه القضية المهمة والعميقة، والهدف الوحيد وراء ذلك كان إجهاض الهوية القومية الكردية.
وعادة ما يكون الهدف من الثورات/ النزاعات/ الأحداث… إلخ من التسميات التي رافقت سنوات التيه والشتات والحرب في سوريا، إعادة ترسيم الهندسة الاجتماعية، والخروج بنظام سوسيوثقافي جديد، مُغاير لما سبقه، خاصة في مجالات حقوق الأفراد، والقوميات والإطار العام لشراكة المكونات ضمن البلد الواحد، لكن في الحالة الكردية في سوريا، فإن الحاصل هو المعاكس تماماً لكل ذلك؛ فالنزاع السوري كان له تأثير كبير على الكرد في حلب من حيث التشرد والنزوح، واستمرار عقلية الإنكار ذاتها، واضطر العديد من العائلات الكردية للنزوح والهرب من الأطراف المسيطرة بسبب المعارك، وتعدّيات الجهات المسيطرة وتغير سياساتها مزاجياً ووفقاً لمصالحها. فمع سيطرة قوات “الحماية الشعبية” على الأحياء الكردية، تزايدت الصراعات للسيطرة على تلك الأحياء بين الأطراف العسكرية المختلفة مثل المعارضة، و”جبهة النصرة” قبل تغيير اسمها، والجيش السوري.
ومع التشديد على الجذر العنفي والإلغائي في التعامل مع الكرد في عموم الجغرافية السورية، لكن طرح مشروع الإدارة الذاتية، بعيداً عن التوافق الوطني السوري العام والجامع، وانتعاش الفكرة النمطية السائدة في المخيال السوري حول التهمة المشروخة “الانفصال وتقسيم سوريا”، أجج الصراع أكثر بين الفصائل المعارضة والنظام السوري ضد الهوية الكردية، إضافة إلى جذر الصراع مع تركيا، وكل تلك التحديات، كانت في وقت عاش فيه الكرد انقساماً وتشرذماً، خاصة مع سياسات الإدارة الذاتية الإلغائية ضد معارضيها. وهي بالمجمل عوامل عمّقت الشرخ بين الكرد والسوريين من جهة، ومن جهة ثانية، ساهمت في تقويض الوجود الكردي، وزيادة الضربات ضد الهوية الكردية، وذلك الصراع على الهوية الكردية في حلب، تضمن أيضاً كيفية وآلية التفاعل بين الكرد وباقي المكونات مثل العرب والتركمان والمسيحيين، ومستويات تأثير هذه العلاقات وطبيعتها ونوعيتها، في الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي داخل المدينة.
ختاماً، بعد عقود من التهميش، وفشل إيجاد صيغة للعلاقة مع الكرد في حلب، ومع تبدل الجهات المسيطرة على المدينة، وأخيرها، عودة قوة المعارضة لإدارة البلاد، وما بدا واضحاً عبر وسائط التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية، أنهم بدأوا بضبط المدينة وفرض نوع من الانضباط عبر تشكيل قوى أمن داخلي، وشرطة مرور، والطلب من الموظفين والمسؤولين المدنيين العودة إلى دوائرهم، خاصة القضاء والتعليم والبلديات، فإن تلك الأطراف ربما تسعى إلى تقديم نموذج حوكمي جديد، مُغاير لما فرضته من انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية في عفرين وسري كانيه/ رأس العين، وهو ما يتطلب إيجاد صيغة جديدة للعلاقة تضمن حقوق الكرد في حلب، ويقدّم ضمانات بمنع أي تصعيد بين المكونات المختلفة، والواضح أيضاً أنه بغياب الدعم الدولي، خاصة أميركا، سيكون من الصعب إيجاد ذلك التعاون والنسق المعيشي المشترك، على الأقل إيجاد توازن بين الحفاظ على الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية للكرد، وبين العمل على الدمج بين الكرد والمجتمع السوري، علماً أن سوريا لم تشهد أساساً أي دمج مجتمعي طيلة قرن من الزمن، وتعمّق الشرخ أكثر في سنوات الحرب السورية.
إقرأوا أيضاً: