تُحركُ نبأ (18 سنة) أصابع يديها بمهارة وفي عينيها بريق، فيما تترجم مديرة “جمعية أنوار الفلوجة” (محافظة الأنبار) لرعاية الصم حركاتها بكثير من التركيز: “لدي ثلاثُ شقيقات يكبرنني ويعانين من الصمم مثلي، كنا معزولاتٍ عن المجتمع حتى بلغت عامي الرابع، حينها قابل والدي مشرفين على الجمعية وأعجب بالخدمات التي تقدمها وجعلني ألتحق بها لأندمج بالمجتمع وأتعلم كيفية التواصل مع الآخرين والتعبير عما يدور بداخلي”.
تنتظر نبأ حتى تفرغ مديرتها من إكمال الترجمة ثم تعود لتحريك يديها برشاقة مجدداً: “تعلمت القراءة والكتابة وأتقنت لغة الإشارة. بلغتُ الصف الابتدائي الرابع وكنت أتشوق لإكمال تعليمي لكن دخول داعش إلى الفلوجة ونزوحنا حالا دون ذلك”.
يخيمُ الحُزن على ملامِحها وهي تستذكر كيف أن وزارة التربية لم تعترف بشهادتها الابتدائية من الجمعية، لأنها لا تعترف بها، لكن هذا لم يثني عزيمتها، فقد واصلت دراستها وأكملت منهاج المرحلة المتوسطة غير آبهة بعدم اعتراف الوزارة، وتحولت لاحقاً من تلميذة في الجمعية إلى معلمة فيها.
يتردد صوت مديرة الجمعية بفخر وهي تترجم إشارات يدي نبأ: “أصررت على إثبات وجودي في المجتمع، ففقدان أحد الحواس لا يعني فقدان الحياة، أملكُ علماً يؤهلني لاجتياز المرحلة المتوسطة، لكن لا أحد يعترف بعلمي بشكل رسمي. أصبحت معلمة واندمجتُ بنحو طبيعي مع المجتمع للمساهمة بعدم تكرار معاناتي ومعاناة شقيقاتي مع بقية النساء”.
“لدي ثلاثُ شقيقات يكبرنني ويعانين من الصمم مثلي، كنا معزولاتٍ عن المجتمع حتى بلغت عامي الرابع”.
إهمال حكومي
نبأ واحدة من بين 157 ألف مصابٍ بالصمم في العراق، وفقاً لإحصاءات وزارة التخطيط، فضلاً عن 115 ألفاً من ذوي الإعاقة بالنطق والتواصل، ويشكلون معاً 16 في المئة من مجموع ذوي الاحتياجات الخاصة في البلاد.
هذه الشريحة الكبيرة تقابلُ وفقاً لمصادر مطلعة تواصلنا معها بإهمال من الحكومة العراقية، لا سيما الذين تظهر لديهم الإعاقة في سن مبكرة، فالمؤسسات التعليمية الرسمية عاجزة عن استيعاب الجميع، كما أنهم لا يحصلون على ضمان اجتماعي في مراحل أخرى من حياتهم.
تواجه هذه الشريحة، مشكلة عدم تمكن أفرادها من التدرج بالدراسة الابتدائية نحو المتوسطة والإعدادية، فالمعاهد الحكومية تمنحهم شهادة التعليم الابتدائي التي لا تؤهلهم سوى لدخول معهد التأهيل المهني، وفقاً لما نصت عليه معاهدة رعاية المعوقين وتعليمهم في العراق.
وانضوت معاهد الصم والبكم ادارياً تحت إدارة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لكنها تحولت الى صلاحيات المحافظات حسب قانون نقل الصلاحيات رقم 21 لسنة 2008 وفقاً للمتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نجم العقابي.
وقد بلغت أعداد المستفيدين من معاھد الصم والبكم (رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية) لسنة 2015، 4801 مستفيداً وتناقصت حتى وصلت الى 1383 عام 2018 بحسب احصاءات وزارة التخطيط العراقية.
يشير المتحدث باسم وزارة التربية كريم السيد إلى نقص في كوادر التربية الخاصة عموماً، مؤكداً أن دور وزارة التربية هو الدعم الفني لمعاهد الصم والبكم “وهذا فقط ما تستطيع الوزارة تقديمه ضمن صلاحياتها” حسب قوله.
وفي مبادرات محلية، استحدثت بعض المحافظات الدراسة المتوسطة لفئة الصم والبكم ومنها محافظة بابل التي فتحت الصفين الأول والثاني المتوسط في العامين 2021 و2022 تباعاً، اما محافظة الأنبار فقد افتتحت الصف الأول متوسط.
وتعترف وزارة التربية بالشهادة التي تمنحها معاهد الصم والبكم وهي في الغالب الابتدائية، غير أن ذلك غير مؤكد بالنسبة إلى المتوسطة، مع أن مصدراً في الوزارة تحدث عن وجود خطط لاستحداث صفوف خاصة بالدراسة المتوسطة في أيلول/ سبتمبر المقبل.
ويؤكد سامر العاني (مترجم لغة الإشارة في جمعية انوار الفلوجة لرعاية الصم) أن معظم الكوادر التدريسية في المؤسسات التعليمية الحكومية الخاصة بالصم والبكم، لا تجيد لغة الإشارة بصورة جيدة، ويضيف “اضطررنا الى إقامة دورات تقوية للمناهج الدراسية لنضمن استيعاب الطلبة ما يدرسونه في المدارس الحكومية”.
يشاطره الرأي علي الشمري، مدير معهد الأمل (حكومي )الخاص بتعليم الصم والبكم في محافظة بابل (100 كلم جنوب بغداد) ويعزو ضعف الكوادر التدريسية في لغة الإشارة الى غياب الدورات التطويرية من الجهات المختصة في وزارتي التربية العمل والشؤون الاجتماعية.
ويضيف “يكتسب المدرس خبرة في لغة الإشارة عبر الممارسة، والمدرسون الجدد لا يمتلكون الخبرة الكافية ولا يُزودون سوى بالدليل الإرشادي”. ويصف وضع طلاب معهد الأمل قائلاً “في كل عام يتبرع لهم المدرسون بوسائل تعليمية على حسابهم الخاص فالصم خصوصاً يكون تعليمهم مرئياً، أما بالنسبة لبناية المعهد فهي متهالكة، ووصل الحال بنا الى تحويل غرفة راحة المدرسين الى صف تدريسي لأن البناية لا تتسع لجميع الطلبة”. يقع معهد الامل وسط مدينة الحلة(مركز محافظة بابل)، وهو المعهد الحكومي الوحيد المختص بتعليم الصم والبكم في المحافظة، ويضم نحو 55 طالباً وطالبةً، يمتلك اغلبهم مواهب عدة كالرسم والتمثيل الصامت والرياضة لكن “الدعم الحكومي لا يشملهم” وفقاً للشمري.
الشقيقتان رقية (13 سنوات) وهاجر (8 سنوات) مصابتان بفقدان السمع والنطق، وهما في معهد الأمل، رقية موهوبة في الرسم، بينما تجيد هاجر الخياطة وتجتهد للتميز، لكن وضع العائلة الاقتصادي الضعيف يقف عائقاً أمام تطوير مواهبهما.
يقول والدهما “لدي سبعة أبناء وأعمل في البناء، ومدخولي لا يسمح لي بتوفير مستلزمات الرسم والخياطة باستمرار، ما يحد من تقدمهما، وعلى رغم تفوق ابنتيّ في الدراسة، إلا أن مستقبلهما مجهول، لا سيما إذا لم تُستحدث مراحل دراسية أعلى من الثاني المتوسط”. ويضيف بشيء من الحزن: “أسعى الى تعليمهما وضمان حصولهما على شهادة أكاديمية تسندهما بعد وفاتي، أمنيتي الوحيدة هي أن أراهما تحققان رغبتيهما، رقية تحلم بأن تصبح ممرضة وهاجر كثيراً ما تتحدث لي عن تصميم الأزياء”.
يحصل الوالد على راتب من دائرة الرعاية الاجتماعية لا يتجاوز الـ 100 دولار لكل منهما، وهو لا يكفي لسداد تكاليف نقلهما إلى المدرسة وشراء المستلزمات الدراسية بحسب قوله.
تختلف قيمة ما يتقاضاه ذوو الإعاقة، فوزارة العمل والشؤون الاجتماعية تتعامل مع أسر ذوي الإعاقة وليس معهم كأفراد أو بحسب درجة إعاقة كل واحد. فتتفاوت مرتباتهم بحسب عدد الأفراد الذين يعانون من إعاقة في الأسرة الواحدة.
يوضح الجدول التالي آلية توزيع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية رواتب أسر المستفيدين من شبكة الحماية الاجتماعية عموماً، والتي يبلغ عددها مليون و800 الف أسرة بحسب ما أفاد المتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نجم العقابي
6 فأكثر | 5 | 4 | 3 | 2 | 1 | عدد افراد |
120 | 110 | 100 | 90 | 70 | 50 | مبلغ الاعانة الشهرية |
مواهب بحاجة إلى دعم
يلجأ مهند ميثم (27 سنة) من كربلاء الى فرشاته وألوانه ليرسم العالم كما يراه. لم يعقه فقدانه حاستي السمع والنطق عن شق طريقه الخاص في عالم الرسم والعمل بصفة معلم رسم للأطفال في دار إيواء المشردين بمحافظته، يتواصل معهم عن طريق الكتابة على سبورة صغيرة يحملها معه. كتب لنا على سبورته: “استعضت بالرسم عن الكلام فأصبحت لغتي هي ما أرسمه”.
يشطب بإسفنجة ما كتبه بحماسة، ثم يعود ليكتب: “في الرابعة من عمري اكتشف والداي عدم قدرتي على السمع فبدأتُ رحلتي مع الرسم الذي ورثته عن جدي. أدخلوني مدرسة حكومية خاصة بالصم والبكم، اكملتُ الخامس الابتدائي عام 2010 ولم أستطع المضي قدماً في دراستي لأن الخامس الابتدائي كان آخر صف يمكن تجاوزه هناك”.
لم تكن وزارة التربية في ذلك الوقت تعترف بالشهادات التي تمنحها معاهد الصم والبكم التي كانت تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية حينها، فاستمر مهند بتطوير موهبته في الرسم حتى أصبح محترفاً وبدأ بالرسم على الجدران وواجهات المباني واستطاع الحصول على وظيفة تناسب مهاراته.
“لم يُعقني عدم حصولي على شهادة أكاديمية عن النجاح، فأنا موهوب، وموهبتي ساعدتني في صنع كياني، أما بخصوص بقية أقراني، فينبغي تخصيص مقاعد دراسية لهم حتى في الجامعات لكي يحصلوا على عمل يناسب مهاراتهم ومؤهلاتهم العلمية”.
الناشط في مجال التعليم علي حاكم يشير إلى أهمية التوعية بلغة الإشارة للمجتمع المحيط بالمصابين بفقدان النطق والسمع مما يسهم في توفير البيئة الآمنة لتعليمهم. ويضيف “تراعي أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالتعليم حقوق الإنسان، ولذوي الاحتياجات الخاصة بنحو خاص من خلال توفير متطلبات تعليمهم ومحاولة دمجهم بالمجتمع، إلا أن ذلك لا يتحقق في العراق بسبب عدم توفير المراكز الخاصة بهم واقتصارها على عدد محدد في عموم العراق فضلاً عن عدم تلبيتها متطلبات اكمال التعليم وتنوعه”.
ويستدرك قائلاً “من اللافت قدرة فئة الصم البكم على التعلم والنجاح في مجالات عدة وسيشكلون ثروة وطنية إذا ما تم استثمار قدراتهم بصورة صحيحة، أعرف أحدهم رساما محترفاً وآخر لاعب كرة قدم وأحدهم يدير عملاً خاصاً به، فمن المهم العمل على مناصرتهم من قبل الناشطين والمنظمات من أجل العمل على منحهم حق اكمال التعليم وتنوعه أسوة بالآخرين عبر برامج الإعداد ومن ثم الادماج”.
في إقليم كردستان يختلف الوضع قليلاً، فالمعاهد الحكومية لرعاية الصم والبكم تمنح شهادة أكاديمية تعادل شهادة الثالث متوسط. ويؤكد مدير دائرة الرعاية الاجتماعية نهرو عبد الله أن معهد الكومبيوتر في السليمانية التابع لوزارة التربية يمنح شهادة الدبلوم التي تؤهل ذوي الإعاقة عموماً لدخول الجامعات الأهلية في الإقليم.
كما أن المدارس الإعدادية التابعة لوزارة التربية في الإقليم تستقبل الصم والبكم شريطة توفير مترجم على حساب الطالب. ويذكر أن اثنين فقط من الصم في السليمانية قد اجتازا معهد الكومبيوتر بحسب دائرة الرعاية الاجتماعية.
زينب (اسم مستعار 14 سنة) تدرس في معهد مخصص لرعاية الصم والبكم في السليمانية واجتازت المرحلة الابتدائية بتفوق، وفي العام الدراسي المقبل 2023-2024 ستكون في الصف المتوسط الثالث. يروي والدها معاناتها: “ولدت ابنتي ضمن توأم ثلاثي لكننا اكتشفنا أنها تعاني من فقدان السمع والنطق معاً، فكرتُ بإدخالها الى مدارس الصم والبكم في بغداد لكن مصيرها سيؤول الى المعهد الفني فأدخلتها مدرسة الصم والبكم في السليمانية والتي تنتهي بمعهد الكومبيوتر”.
غير أن مشكلة أخرى تواجه زينب، وهي أنها تكتب وتقرأ باللغة الكردية، ووالدها لا يعلم إن كانت هنالك جامعة ما ستستقبلها إن أرادت الحصول على شهادة أعلى، يقول بحيرة: “أخبروني في بغداد أن بوسعها الحصول على شهادة الإعدادية عن طريق الامتحانات الخارجية، لكن الامتحانات هناك باللغة العربية وهذا ما لا تستطيع ابنتي اجتيازه، لأنها لا تتقن سوى الكردية”.
أنجز التقرير بإشراف شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية.
إقرأوا أيضاً: