ثمة عطل ما في العقل السياسي الإيراني!
فأن تقدم طهران على قصف أهداف داخل باكستان، هي التي تربطها علاقات لا تخلو من المودّة مع إسلام آباد، فهذا يدعو إلى القلق وإلى البحث عن خلل في فهم طهران العلاقات بين الدول، لا سيما الدول القوية منها. فالحرس الثوري الإيراني قصف دولة نووية، وفي الوقت ذاته تفاجأ في أن هذه الدولة ردت على القصف بالقصف! وإيران، وفي أعقاب قصف باكستان مواقع في بلوشستان إيران، بادرت إلى طلب توضيح باكستاني عن أسباب القصف! فهل من سبب أوضح من أن القصف هو مجرد رد على قصف حصل في اليوم الذي سبقه؟!
من أطلق الصواريخ من إيران إلى باكستان، يجهل حقيقة أن الأخيرة لا يمكنها ألا ترد، وإلا اهتزّت صورتها لدى كل جيرانها الذين تربطها معهم علاقات متوتّرة، من الهند إلى بنغلادش ومروراً بدولة طالبان في أفغانستان. الرد هو شرط الوجود وشرط التوازن، وجهل مطلق الصواريخ بهذه الحقيقة يجب أن يبعث القلق لدى أهل النظام في إيران على مستقبل نظامهم.
تقدم طهران على قصف أهداف داخل باكستان، هي التي تربطها علاقات لا تخلو من المودّة مع إسلام آباد، فهذا يدعو إلى القلق وإلى البحث عن خلل في فهم طهران العلاقات بين الدول، لا سيما الدول القوية منها.
فجوة كبيرة
أكثر من ذلك، قصف إيران بلوشستان باكستان جرى عشية لقاء بين رئيس الحكومة الباكستانية شهباز شريف ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في منتدى دافوس. وهذا التزامن يكشف عن فجوة كبيرة بين الديبلوماسية الإيرانية وبين المستويات العسكرية في الجمهورية الإسلامية. القرار بالحرب، أو بخطوة على هذا القدر من الحساسية، التي تتمثل في قصف جارة كبرى، تملك سلاحاً نووياً، هو قرار لا يأخذ بالاعتبار حسابات الحرب بوصفها فعلاً سياسياً. فالحرس الثوري، مثله مثل نسخه في العراق (الحشد الشعبي) وفي لبنان (حزب الله)، يشتغل وفق شروط مستقلة عن السياسة وعن الحسابات التي تربط الدول بعضها ببعض.
يؤكد ما ذهبنا إليه، قصف الحرس الثوري مدينة أربيل العراقية قبل يوم من قصفه باكستان، ذاك أنه جاء ليس فقط من خارج علاقات طهران مع بغداد، وهي علاقة استتباع، إنما أيضاً من خارج علاقة طهران مع التشكيلات العراقية التي أتاحت لها نفوذاً واسعاً في العراق. وإذا كان رد الفعل العراقي على القصف لا يرقى إلى رد الفعل الباكستاني، إلا أنه جاء هذه المرة محملاً بالذهول والإدانة من أقرب حلفاء طهران في بغداد.
ومرة أخرى، أقدم الحرس الثوري الإيراني على قصف دولة حليفة، إذا لم نقل دولة مستتبعة، ضارباً عرض الحائط ما يمكن أن يشكله اعتداؤه على “السيادة” العراقية من حرج لجماعاته العراقية! والعراق إذ لا يملك ترف الرد العسكري راح يتخبط في الذهول وفي الحيرة، ذاك أن الصفعة جاءته هذه المرة من “بيت أبيه”، هو الذي أخذ “قراراً سيادياً” قبل أيام يتمثّل بطلبه من القوات الأميركية الانسحاب من العراق جراء خرقها سيادته وقصفها قواعد للميليشيات المقرّبة من إيران في محيط بغداد.
عجز واختناق
وضع الحرس الثوري الإيراني ربيبه العراقي في حال اختناق بين انتصاره للسيادة في مواجهة القصف الأميركي، وعجزه عن التعامل مع الاعتداء الإيراني على السيادة نفسها!
وفي هذا السياق، يبدو قصف الحرس الثوري الإيراني مواقع لجماعات إسلامية جهادية في محافظة إدلب السورية بصواريخ بالستية انطلقت من القواعد نفسها التي قصفت العراق، غير مندرج في الافتئات على سيادات الدول، ذاك أن النظام السوري شرع الأبواب لمن يرغب في قصف أي هدف في بلده، وهذا في ما يبدو ما دفع الحرس الإيراني إلى سحب نموذج رد فعل النظام السوري على غيره من الدول. فهل يصحّ أن ترد باكستان على قصف مماثل للقصف الذي استهدف سوريا؟ وكيف لحكومة بغداد أن ترسل عتبها لراعيتها، على انتهاك السيادة العراقية؟ وما عليها إلا أن تقتدي بالنموذج السوري لكي تصلح لأن تكون حلقة في منظومة الممانعة.
وهنا يحضر النموذج اللبناني في الفهم المستجد لسيادات الدول، فقد أعلنها وزير الخارجية اللبناني على الهواء عندما قال صراحة أن قرار الحرب في لبنان هو بيد “حزب الله”، وبارك كلامه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي اعتبر أن “حزب الله” يملك من الحكمة ما يرشّحه لأخذ مصلحة لبنان في اعتباراته.
قصف باكستان لا يمكن أن يندرج في مشهد استباحة سيادات الدول المستتبعة. أما الدرس الإسرائيلي الذي أشارت إليه صحافة الممانعة، من وراء هذا القصف، فهو درس هندسي، ذاك أن الصواريخ الإيرانية قطعت لكي تصل إلى أهدافها، أكثر من ألف كيلومتر، وكان من الممكن أن تصل إلى تل أبيب. وعلى الأخيرة أن تتّعظ.