بعد أيام من الشدّ والجذب والجدل والاحتجاج، وجهت النيابة العامة الموريتانية في 20 شباط/ فبراير، تهماً لثمانية عناصر من الشرطة، لضلوعهم في قضية قتل الناشط الحقوقي الموريتاني، الصوفي ولد الشين، أثناء احتجازه داخل مفوضية الشرطة بدار النعيم، في العاصمة نواكشوط.
عُرف الصوفي ولد الشين(من مواليد 1984)، بكونه رئيس “تيار اللحمة الاجتماعية”، كان ينظم الأنشطة وينشط على شبكات التواصل الاجتماعي لبث قيم التعايش السلمي بين مكونات الشعب الموريتاني، كما أنه من خصوم “مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية” المعروفة بحركة “إيرا”، التي أسستها في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008 مجموعة من الناشطين المدافعين عن الأرقّاء السابقين، أبرزهم رئيس الحركة يد بيرام ولد الداه العبيد، وهو ناشط حقوقي وسياسي موريتاني مشهور، حلّ في المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في موريتانيا عام 2019.
يتهم خصوم الحركة أفكارها بـ”العنصريّة”، وكان ولد الشين واحداً من هؤلاء الذين رأوا في الحركة تهديداً لوحدة المجتمع الموريتانيّ، وعودة إلى تاريخ من الطبقية والأحقاد، الذي قد لا تُحمد عقباه.
هزت قضية ولد الشين الرأي العام الموريتاني، وتسببت باحتجاجات شعبية كبيرة، وجّهت على إثرها النيابة العامة تهماً الى أربعة من الثمانية بالقتل العمد والتعذيب المؤدي الى الوفاة، والقيام بعمل تحكمي عدواني يمس بالحرية الشخصية للفرد، واستعمال العنف من دون سبب شرعي وطمس آثار الجريمة. أما الباقون، فوُجهت إليهم تهماً بالقبول بهبات مقابل القيام بعمل سهّلته الوظيفة، أو المشاركة في الجريمة أو الارتشاء. كما اتُّهم أحد الأربعة بالقيام عن قصد بإخفاء الجناة ومحاولة إنقاذهم من التوقيف ومساعدتهم على الاختفاء.
تكشف لائحة التهم عما يشبه المؤامرة، إذ إن عناصر الشرطة الثمانية أشبه بفريق وزّع المهمّات بين أفراده. في هذا الإطار، يوضح المحامي والأستاذ الجامعي يعقوب ولد السيف، لـ”درج”، أنه “بعد توجيه التهم الى أفراد الشرطة الـ8، أصبحت القضية في مرحلة أخرى، ولمحامي هؤلاء أساليبهم وخططهم للدفاع عنهم، وهذا حق أصيل، وفي ما يتعلق بالعقوبات المتوقعة في حالة الإدانة بالتعذيب المؤدي إلى الموت، فهي تصل الى السجن المؤبد”.
الداخل إلى مفوضية الشرطة غير آمن
بدأت قصة مقتل الصوفي ولد الشين، حين استدعته الشرطة في 9 شباط، مفوضية الشرطة الثانيّة في دار النعيم، إثر شكوى متعلقة بمبلغ مالي، ليلاقي الموت هناك من دون معرفة الأسباب. نشرت الإدارة العامة للأمن الوطني الموريتاني، بياناً صحافياً قالت فيه إن ولد الشين فارق الحياة نتيجة تعرّضه لوعكة صحية مفاجئة خلال توقيفه في المفوضية، ونُقل على إثرها إلى مستشفى الشيخ زايد، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة.
رفضت عائلة ولد الشين هذا التبرير ولم يقتنع الجمهور به، واعتبرت هذه الخطوة محاولة لطمس الجريمة، إذ رفضت تسلّم جثمانه قبل التشريح، وترافق ذلك مع احتجاجات شعبيّة تطالب بالعدالة للضحية ومعاقبة “القتلة”. بعدها شرّح فريق متخصص جثة الضحية، وخلص التقرير الطبي إلى أن الوفاة قد تكون ناتجة “من اختناق رِضّي بواسطة الخنق”.
بعد صدور التقرير وهدوء الوضع، احتشد آلاف الموريتانيين في 14 شباط، في مسجد ابن عباس في العاصمة الموريتانية نواكشوط، لصلاة الجنازة على ولد الشين وتشييع جثمانه، ووصف بعض المراقبين جنازته بالأضخم في تاريخ موريتانيا، ورجحوا أن يكون السبب هو أهمية ولد شين وخطابه المعتدل.
أوضح المحامي ولد السيف لـ”درج”، أن “ما جعل قضية الصوفي ولد الشين بهذا الزخم هو طبيعة الضحية ونمط علاقاته وماضيه الحقوقي، وهو أيضاً خصم لأبرز معارضي النظام مثل حزب الرك وحركة إيرا (مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقيّة)، ويقدم طرحاً يناقض طرحهم”.
أضاف ولد السيف، “تُظهر حيثيات القضية أن ما حدث كان خطأً فردياً أكثر منه خطيئة جهاز، لكنه خطأ كشف عما يحصل في البلد، فموريتانيا كغيرها من دول العالم، تُطرح فيها بقوة قضية توفير الأمن مع ضمان الحق في الحرية والمواءمة بينهما. تعاني موريتانيا أيضاً من ضعف الإمكانات المتوافرة للشرطة والأجهزة الأمنية (معدات، كوادر بشرية، ميزانية…)، يُصاحب هذا النقص عبء إضافي في نقص الأمن، بسبب انتشار الجريمة والتواطؤ المجتمعي مع ذلك في أحيان كثيرة”.
فتحت القضية أبواب النقاش حول الانتهاكات التي تعرض لها ولد الشين منذ لحظة توقيفه حتى اليوم.
الناشط السياسي أعل الشيخ ولد الصابر، قال لـ”درج”: “صُدم الرأي العام الوطني من هذه الجريمة النكراء، خصوصاً الناشطين السياسيين والحقوقيين، الذين يعملون على تماس مباشر معه بسبب نشاطهم مع الشرطة بشكل يومي، واليوم وصل الملف إلى نقطة النيابة العامة بسرعة بالمقارنة مع حالات القتل المشابهة، ربما بسبب التآزر الشعبي والتضامن الذي تلا الحادثة”.
أضاف ولد الصابر، “أعتقد أن مسار القضية لم يكن مطمئناً، إذ كان يجب أن يُسند التحقيق إلى جهة محايدة، وإنشاء لجنة تحقيق خاصة بإشراف من النيابة العامة، ووجود ضباط من الشرطة من ضمن المحققين يثير الشكوك حول شبهة التضامن المهني، خصوصاً أن الجريمة ارتكبها عناصر من الشرطة، كما أصدرت إدارة الأمن بياناً قُرئ على أنه محاولة لتضليل الرأي العام والتستر على الجناة”.
وانتقد المحامي أحمد ولد أعلي، عضو دفاع الطرف المدني في ملف الصوفي ولد الشين، التهم التي وُجهت الى عناصر الشرطة، مُشيراً إلى أن الاتهام الذي يجب أن يطاول المتهمين في الملف، هو الاغتيال بدل القتل العمد. كما دعت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان (هيئة رسمية) عبر تقرير أصدرته حول الحادثة، إلى التأكد من نزاهة اللجنة التي شكلتها الدولة للتحقيق في مقتل الصوفي ولد الشين. وشددت على ضرورة “ضمان محاكمة عادلة وسريعة تكون فيها العقوبات الصادرة في حق الضالعين موافقة للعقوبات المنصوص عليها في القانون رقم 033/2015 لمناهضة التعذيب”.
خروقات لا يمكن تجاهلها
فتحت القضية أبواب النقاش حول الانتهاكات التي تعرض لها ولد الشين منذ لحظة توقيفه حتى اليوم، وقد تحدث المحامي والأستاذ الجامعي الدكتور محمد صالح آبيه لـ”درج”، عن “خروقات قانونية طاولت الملف منذ بداية توقيف الصوفي، إلى تجاوزات إجرائية في مبدأ الاختصاص الترابي ومنافية للقانون الموريتاني، فالوحدة الشرطية (مفوضية دار النعيم 2) التي استُدعي إليها المناضل لا تتبع إدارياً لمقر سكنه في العاصمة نواكشوط”.
وأضاف محمد صالح: “لم يسلم الاختصاص الحكمي هو الآخر من الخروقات، فالصوفي استُدعي بحجة شكوى تتعلق بدين، والدين هو مسألة مدنية بحتة وتعود اختصاصاً إلى القضاء المدني، ولا تستدعي التدخل الفوري للشرطة، لكونها ليست بالأمر الطارئ أو ذات خطورة، وبالتالي كان بإمكان الملف انتظار بداية الأسبوع لتقديمه الىى المحكمة المختصة”.
تابع محمد صالح: “أما عن تسلسل إجراءات المحاكمة، فيمكن الاستبشار بما حدث حتى الآن، من احتجاز المتهمين الأساسيين السبعة ووضع الرقابة القضائية على المتهم الثامن، إضافة إلى حرص المحكمة على علنية الجلسات والشفافية أثناء المرافعات، وكذلك إطلاع الرأي العام عبر السماح بالتغطية الإعلامية”.
في ضرورة إصلاح الشرطة
وختم محمد صالح قائلاً: “في ما يتعلق بميزان العقوبات المنتظرة، فقد تتأرجح من الإعدام إلى السجن مدى الحياة، ومهما اختلفت تلك العقوبات من شخص إلى آخر، لكن العامل المشترك بينها هو تصنيفها كعقوبات مخلّة بالشرف، إذ تجرد صاحبها من كل حقوقه الوطنية وتقيله من منصبه، إضافة إلى منعه من ولوج الوظيفة العمومية مدى الحياة”.
أحدثت القضية جدلاً حول واقع الشرطة والقوى الأمنية بشكل عام في موريتانيا وضرورة إصلاحه، ووُجهت انتقادات إليها والى ممارساتها، وتم تحميل قطاع الشرطة وإدارة الأمن ما حدث، وعلت المطالب باستقالة أو إقالة قيادات أمنية وسياسية بسبب الحادثة، كونها تتحمل المسؤولية الأخلاقية على الأقل، وقال ولد الصابر: “تاريخ انتهاكات حقوق الإنسان في موريتانيا هو التاريخ الطبيعي للشرطة، ورثنا هذا الجهاز عن المستعمر، وقد ورثت الشرطة عقيدتها عن سلطات الاحتلال، وهذه العقيدة يمكن اختصارها في (الخوف)”.
وأضاف: “الإرهاب هو الوسيلة المثالية بالنسبة إلى جهاز الدولة للسيطرة على المواطنين، والشرطة بصفتها من أذرع السلطة الفعالة. أعادت هذه الحادثة النقاش حول هذا الجهاز، ومسألة الثقة، خصوصاً أن الضحية الصوفي ولد الشين قدم بنفسه إلى الشرطة بناء على استدعاء، ودخل إلى مباني المفوضية بصفتها مكاناً آمناً، وخرج منها جثة هامدة بعد ساعات من التعذيب”.