fbpx

الضربات الإسرائيلية على سوريا… “الانهزام الحكيم” و”المأساة الصامتة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سوريا اليوم تعيش حالة الوجود المعلّق، حيث يبدو المستقبل متجمداً والواقع خاضعاً لإرادة قوى لا تقيم وزناً لمعاناة شعبها. ومع كل يوم يمر، يتآكل الإيمان بجدوى السياسة أو الفعل، لتبقى البلاد في مدار لا نهاية له من الجمود والعجز.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يمكنك، كسوري، متابعة تويتر، ولا حتى التفكير في متابعة حساب أفيخاي أدرعي لمعرفة موعد الضربة الإسرائيلية التالية. عليك بدلًا من ذلك متابعة القنوات التي يصفها النظام بأنها “قنوات الفتنة” لتحاول فهم نوايا إسرائيل تجاه سوريا قبل أن تأوي إلى فراشك. السبب بسيط: قد يكون القصف قريباً جداً منك.

بل أكثر من ذلك، عليك أن تميز فور سماع صوت انفجار قوي: هل هو صاروخ أميركي؟ أم إسرائيلي؟ أم زلزال؟.

 منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، يعيش السوريون حالة ترقب وقلق دائمين، تشبه ما يعيشه الفلسطينيون واللبنانيون تحت وطأة الأحداث المتسارعة في المنطقة. خلال هذه الفترة، تجاوز عدد الضربات الإسرائيلية للأراضي السورية مئة ضربة، وهو رقم يعكس حجم التصعيد. لكن، هذه الضربات ليست بجديدة؛ فقد بدأت إسرائيل والولايات المتحدة استهداف سوريا منذ بداية الثورة.

آنذاك، روّج النظام لسردية مفادها أن هذه الضربات كانت دعماً للمعارضة المسلحة التي تقاتله، ومع انتهاء كبرى المعارك في سوريا، وتدهور الاقتصاد إلى مستويات كارثية بسبب الحصار والإفلاس، شهدت البلاد انهياراً كاملاً في معايير الحياة اليومية. في ظل هذا الانهيار، ومع وصول القوات الروسية وإقامة قواعدها العسكرية، أصبحت الضربات الإسرائيلية مجرد “مأساة صامتة” لا يتحدث عنها إعلام النظام.

هذه الضربات وضعت النظام في موقف محرج أمام حليفه الروسي، الذي فضّل تجاهلها، أمام جيش “وطني” تحول إلى مجرد متفرج عاجز، بل إن صواريخ الدفاع الجوي للنظام، التي يُفترض أن تحمي البلاد، أصبحت تهديداً داخلياً، تصيب المدنيين أكثر مما “تصدّ العدوان”.

في هذا المشهد القاتم، انهارت السردية الرمزية للنظام، تلك التي طالما اعتمد عليها في ترويج قوته ومقاومته. اليوم، لم يعد للسيادة السورية أي معنى، لا في الخطاب الرسمي ولا على أرض الواقع.

يحضر في سوريا غيابٌ تام لأي مفهوم أخلاقي يُمكن أن يشكل أساساً للسردية الوطنية أو موقفاً مبدئياً تجاه الأحداث. النظام، الذي كان يكرر سابقاً عبارته الشهيرة “نحتفظ بحق الرد” عقب كل ضربة إسرائيلية، تراجع عنها بعدما أصبحت مثاراً للسخرية، في محاولة لتبرير سقوطه الأخلاقي وانهيار سرديته الوطنية، لجأ النظام إلى إنكار الواقع والادعاء بأن الضربات الإسرائيلية تستهدف إيران وليس سوريا. 

يروّج هذا الخطاب بين المحللين والفئات الاجتماعية الأقرب إلى النظام، مشدداً على أن هذه الهجمات ليست موجهة ضد الجيش السوري أو البلاد نفسها، بل ضد “تعقيدات الوضع الإقليمي”.

في السياق ذاته، لم يعد يبرز على وسائل التواصل الاجتماعي خطاب عنيف من موالي النظام كما كان في السابق، فقد أصبح النظام يفتقد لأي معيار أخلاقي أو رمزي يمكّنه من تفسير ما يحدث، خاصة أن الضربات الإسرائيلية المتتالية بدأت تنكشف أكثر فأكثر على السطح الاجتماعي والسياسي، ليُنظر إليها بوصفها علامة على نهاية النظام وانفصاله التام عن خطاباته ورمزيته تجاه المجتمع.

المأساة الأعمق تكمن في عملية “تشيئة” سوريا، حيث يعامل النظام الوطن كأنه مجرد كيان مادي منفصل عنه وعن مواطنيه. بالنسبة للنظام ومحلليه، سوريا ليست سوى قطعة أرض يمكن لأي طرف أن يدافع عنها أو يحتلها، معرضاً بذلك أدنى شروط الوطنية والانتماء لخطر البيع والشراء.

هذا الخطاب ترافق مع انهيار شامل للسردية الوطنية، حيث لم تعد هناك أي رمزية تُذكر لسيادة البلاد أو كرامتها. في المقابل، يواجه المجتمع السوري عجزاً سياسياً مستمراً، بينما تحوّلت البلاد على مدار أكثر من عقد إلى مدار دائم من الحرب والعنف الذي لا ينتهي.

في ظل هذا السياق، يعمّ برود سلبي ولا مبالاة في أوساط المجتمع السوري، تجلّت في انتشار تعليقات شفوية مريرة ومخيفة تعكس الانكسار النفسي والشعور بالعجز: “فخار يكسر بعضه”، “المهم ما يضربونا”، “إنشالله بيقصفوا كل يوم ليرحونا من إيران”، “إنشالله بيضربوا النظام”، ضربوه عم يربوه ( بإشارة شامتة للنظام) هذه الأقاويل تعبر عن حالة جماعية من التكيف السلبي مع واقع الانهيار، حيث باتت الضربات الإسرائيلية وكأنها مجرد تفاصيل في يوميات شعب يفتقد الأمل والمعنى.

سيادة غائبة وخطاب متناقض: سوريا بين “الانهزام الحكيم” و”التلاعب الرمزي”

ارتاح السوريون من عبء ثقيل أيديولوجي كان النظام يضعه على صدور مواليه ومعارضيه على حد سواء. سردية فرادة قوته، وقولبته الثقافية للبلاد بوصفها تقاوم وتناضل ضد إسرائيل، بدأت تتلاشى مع تملّص النظام المتسارع من إرثه العقائدي المرتبط بالمقاومة.

 الضربات الإسرائيلية المتلاحقة، وتهديد رأس النظام السوري بشكل مباشر، شكّلا بالنسبة للسوريين تسوية صفرية لبدء سرد جديد موازٍ، سرد ينبع من انكسار البلاد ودمارها، ويمتد إلى الفشل السياسي المريع الذي أصاب الجميع في الداخل السوري، فالجميع، في نظر السوريين، باتوا يتلقّون الضربات بالتساوي ويتقاسمون المعنى ذاته للفشل وانتفاء السيادة.

بعيداً عن هشاشة فكرة السيادة التي أصبحت أكثر وضوحاً منذ اندلاع الثورة السورية، وتجاوزاً للامبالاة التي باتت صفة مكتسبة لدى السوريين تجاه قضايا السيادة، لا يبدو القلق سمة عامة تجاه الواقع المتردي. السوريون يقرأون المشهد الحالي من خلال ما يمكن وصفه بـ”حكمة مفترضة” ينسبها مريدو النظام له. 

يُروّج هذا الخطاب لفكرة أن النظام “حجب نفسه عن الحرب”، في محاولة لإشاعة مفهوم “الانهزام الحكيم”، حيث يُقدَّم التراجع والعجز كقرارات استراتيجية مدروسة تعكس بُعد نظر وعمقاً في التفكير.

بالتوازي، يضيف المحللون اللبنانيون والسوريون الموالون للنظام بعداً آخر لهذه السردية، من خلال تبرير العجز بمفهوم “العجز المؤدلج”، الذي يُسوَّق على أنه نتيجة حتمية لتعقيدات سياسية واقتصادية تفوق قدرة النظام وإرادته. هذا التبرير يُعفي النظام من المسؤولية المباشرة عن الأوضاع، ويدفع باتجاه قبول العجز كأمر واقع لا بديل عنه.

الخطاب الرسمي يتأرجح بين التلاعب الرمزي، الذي يدمج بين “المقاومة الحكيمة” و”الانهزام المبرر”، وبين استغلال فرح ضمني لدى السوريين بالتقارب الأخير مع السعودية والإمارات. يُقدَّم هذا التقارب كنافذة أمل، يُروج لها على أنها خطوة نحو الخلاص من آثار الحرب والتغيرات الجيوسياسية التي تفرضها إسرائيل في المنطقة.

ومع ذلك، في عمق هذا السرد، يواجه النظام تناقضاً واضحاً: فمن جهة يسوّق نفسه كبطل مقاوم يحمي البلاد من الأخطار، ومن جهة أخرى يُقرّ ضمنياً بأنه نظام متعب، يتجنب الصدامات المباشرة حفاظاً على بقائه. هذا التناقض لا يمر من دون أثر، بل يرسّخ حالة اللامبالاة الجمعية، حيث بات السوريون يتقبلون هذا الخطاب المتناقض كجزء من واقع لا يمكن تغييره، وفي ظل هذا القبول، تتعمق أزمة فقدان الثقة، ويترسخ العجز السياسي والاجتماعي في مواجهة الانهيار المستمر.

ازاح النظام الشعب السوري كلياً عن السياسة، محولاً إياهم إلى مجرد متلقّين لخطاباته الرتيبة التي تتكرر من دون جديد، حتى أصبحت تلك الخطابات موضوعاً للسخرية. ومع استمرار الإذلال والخوف كحالة يومية، بات السوريون يتجنبون التعبير العاطفي عن القهر أو الحزن، إما بتأويل الألم ليبدو وكأنه موجه إلى إيران أو قوى أخرى، وإما بسبب العجز المكتسب الذي زرعه النظام في نفوسهم عبر سنوات من القمع والصدمات المتكررة.

لا يكتب السوريون في غالبيتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن الضربات، يكتفون بالتعبير عن الخوف أو التساؤل عن مصدر الأصوات، من دون أي محاولة لصياغة خطاب سياسي يعبر عن موقف وطني تجاه عدوان خارجي على بلادهم، يبدو أن هناك تسوية مع حالة النظام وحالة البلاد بأكملها، تقوم على الخضوع والاستسلام، إنها أشبه بحالة صوفية تنعزل عن الواقع لتبحث عن ملاذ في فكرة مجردة، بعيداً عن الفعل أو المواجهة.

لكن الأكثر بؤساً هو انحدار سوريا إلى حالة من السلبية التاريخية، حيث لا إيمان بإمكانية الفعل أو جدواه، ولا إحساس بالقدرة على إحداث تغيير حقيقي. هذه السلبية لا تعبر فقط عن انعدام الأمل، بل هي نتيجة انهيار العقد الاجتماعي وتحول الشعب إلى شاهد صامت على وطن يتمزق أمام أعينهم.

رسّخ النظام مفهوم الخدر العاطفي لدى السوريين، حيث أصبح التجنّب العاطفي وسيلة بقاء نفسية، واستبدلت الإرادة بالتكيّف القهري مع واقع يتهاوى، كل ضربة جديدة أو مأساة إضافية لم تعد تُشعل غضباً أو حزناً جماعياً، بل تُقابل بلا مبالاة مكتسبة، وكأن الزمن توقف عند دائرة مغلقة من القهر والاستكانة.

سوريا اليوم تعيش حالة الوجود المعلّق، حيث يبدو المستقبل متجمداً والواقع خاضعاً لإرادة قوى لا تقيم وزناً لمعاناة شعبها. ومع كل يوم يمر، يتآكل الإيمان بجدوى السياسة أو الفعل، لتبقى البلاد في مدار لا نهاية له من الجمود والعجز.

27.11.2024
زمن القراءة: 6 minutes

سوريا اليوم تعيش حالة الوجود المعلّق، حيث يبدو المستقبل متجمداً والواقع خاضعاً لإرادة قوى لا تقيم وزناً لمعاناة شعبها. ومع كل يوم يمر، يتآكل الإيمان بجدوى السياسة أو الفعل، لتبقى البلاد في مدار لا نهاية له من الجمود والعجز.

لا يمكنك، كسوري، متابعة تويتر، ولا حتى التفكير في متابعة حساب أفيخاي أدرعي لمعرفة موعد الضربة الإسرائيلية التالية. عليك بدلًا من ذلك متابعة القنوات التي يصفها النظام بأنها “قنوات الفتنة” لتحاول فهم نوايا إسرائيل تجاه سوريا قبل أن تأوي إلى فراشك. السبب بسيط: قد يكون القصف قريباً جداً منك.

بل أكثر من ذلك، عليك أن تميز فور سماع صوت انفجار قوي: هل هو صاروخ أميركي؟ أم إسرائيلي؟ أم زلزال؟.

 منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، يعيش السوريون حالة ترقب وقلق دائمين، تشبه ما يعيشه الفلسطينيون واللبنانيون تحت وطأة الأحداث المتسارعة في المنطقة. خلال هذه الفترة، تجاوز عدد الضربات الإسرائيلية للأراضي السورية مئة ضربة، وهو رقم يعكس حجم التصعيد. لكن، هذه الضربات ليست بجديدة؛ فقد بدأت إسرائيل والولايات المتحدة استهداف سوريا منذ بداية الثورة.

آنذاك، روّج النظام لسردية مفادها أن هذه الضربات كانت دعماً للمعارضة المسلحة التي تقاتله، ومع انتهاء كبرى المعارك في سوريا، وتدهور الاقتصاد إلى مستويات كارثية بسبب الحصار والإفلاس، شهدت البلاد انهياراً كاملاً في معايير الحياة اليومية. في ظل هذا الانهيار، ومع وصول القوات الروسية وإقامة قواعدها العسكرية، أصبحت الضربات الإسرائيلية مجرد “مأساة صامتة” لا يتحدث عنها إعلام النظام.

هذه الضربات وضعت النظام في موقف محرج أمام حليفه الروسي، الذي فضّل تجاهلها، أمام جيش “وطني” تحول إلى مجرد متفرج عاجز، بل إن صواريخ الدفاع الجوي للنظام، التي يُفترض أن تحمي البلاد، أصبحت تهديداً داخلياً، تصيب المدنيين أكثر مما “تصدّ العدوان”.

في هذا المشهد القاتم، انهارت السردية الرمزية للنظام، تلك التي طالما اعتمد عليها في ترويج قوته ومقاومته. اليوم، لم يعد للسيادة السورية أي معنى، لا في الخطاب الرسمي ولا على أرض الواقع.

يحضر في سوريا غيابٌ تام لأي مفهوم أخلاقي يُمكن أن يشكل أساساً للسردية الوطنية أو موقفاً مبدئياً تجاه الأحداث. النظام، الذي كان يكرر سابقاً عبارته الشهيرة “نحتفظ بحق الرد” عقب كل ضربة إسرائيلية، تراجع عنها بعدما أصبحت مثاراً للسخرية، في محاولة لتبرير سقوطه الأخلاقي وانهيار سرديته الوطنية، لجأ النظام إلى إنكار الواقع والادعاء بأن الضربات الإسرائيلية تستهدف إيران وليس سوريا. 

يروّج هذا الخطاب بين المحللين والفئات الاجتماعية الأقرب إلى النظام، مشدداً على أن هذه الهجمات ليست موجهة ضد الجيش السوري أو البلاد نفسها، بل ضد “تعقيدات الوضع الإقليمي”.

في السياق ذاته، لم يعد يبرز على وسائل التواصل الاجتماعي خطاب عنيف من موالي النظام كما كان في السابق، فقد أصبح النظام يفتقد لأي معيار أخلاقي أو رمزي يمكّنه من تفسير ما يحدث، خاصة أن الضربات الإسرائيلية المتتالية بدأت تنكشف أكثر فأكثر على السطح الاجتماعي والسياسي، ليُنظر إليها بوصفها علامة على نهاية النظام وانفصاله التام عن خطاباته ورمزيته تجاه المجتمع.

المأساة الأعمق تكمن في عملية “تشيئة” سوريا، حيث يعامل النظام الوطن كأنه مجرد كيان مادي منفصل عنه وعن مواطنيه. بالنسبة للنظام ومحلليه، سوريا ليست سوى قطعة أرض يمكن لأي طرف أن يدافع عنها أو يحتلها، معرضاً بذلك أدنى شروط الوطنية والانتماء لخطر البيع والشراء.

هذا الخطاب ترافق مع انهيار شامل للسردية الوطنية، حيث لم تعد هناك أي رمزية تُذكر لسيادة البلاد أو كرامتها. في المقابل، يواجه المجتمع السوري عجزاً سياسياً مستمراً، بينما تحوّلت البلاد على مدار أكثر من عقد إلى مدار دائم من الحرب والعنف الذي لا ينتهي.

في ظل هذا السياق، يعمّ برود سلبي ولا مبالاة في أوساط المجتمع السوري، تجلّت في انتشار تعليقات شفوية مريرة ومخيفة تعكس الانكسار النفسي والشعور بالعجز: “فخار يكسر بعضه”، “المهم ما يضربونا”، “إنشالله بيقصفوا كل يوم ليرحونا من إيران”، “إنشالله بيضربوا النظام”، ضربوه عم يربوه ( بإشارة شامتة للنظام) هذه الأقاويل تعبر عن حالة جماعية من التكيف السلبي مع واقع الانهيار، حيث باتت الضربات الإسرائيلية وكأنها مجرد تفاصيل في يوميات شعب يفتقد الأمل والمعنى.

سيادة غائبة وخطاب متناقض: سوريا بين “الانهزام الحكيم” و”التلاعب الرمزي”

ارتاح السوريون من عبء ثقيل أيديولوجي كان النظام يضعه على صدور مواليه ومعارضيه على حد سواء. سردية فرادة قوته، وقولبته الثقافية للبلاد بوصفها تقاوم وتناضل ضد إسرائيل، بدأت تتلاشى مع تملّص النظام المتسارع من إرثه العقائدي المرتبط بالمقاومة.

 الضربات الإسرائيلية المتلاحقة، وتهديد رأس النظام السوري بشكل مباشر، شكّلا بالنسبة للسوريين تسوية صفرية لبدء سرد جديد موازٍ، سرد ينبع من انكسار البلاد ودمارها، ويمتد إلى الفشل السياسي المريع الذي أصاب الجميع في الداخل السوري، فالجميع، في نظر السوريين، باتوا يتلقّون الضربات بالتساوي ويتقاسمون المعنى ذاته للفشل وانتفاء السيادة.

بعيداً عن هشاشة فكرة السيادة التي أصبحت أكثر وضوحاً منذ اندلاع الثورة السورية، وتجاوزاً للامبالاة التي باتت صفة مكتسبة لدى السوريين تجاه قضايا السيادة، لا يبدو القلق سمة عامة تجاه الواقع المتردي. السوريون يقرأون المشهد الحالي من خلال ما يمكن وصفه بـ”حكمة مفترضة” ينسبها مريدو النظام له. 

يُروّج هذا الخطاب لفكرة أن النظام “حجب نفسه عن الحرب”، في محاولة لإشاعة مفهوم “الانهزام الحكيم”، حيث يُقدَّم التراجع والعجز كقرارات استراتيجية مدروسة تعكس بُعد نظر وعمقاً في التفكير.

بالتوازي، يضيف المحللون اللبنانيون والسوريون الموالون للنظام بعداً آخر لهذه السردية، من خلال تبرير العجز بمفهوم “العجز المؤدلج”، الذي يُسوَّق على أنه نتيجة حتمية لتعقيدات سياسية واقتصادية تفوق قدرة النظام وإرادته. هذا التبرير يُعفي النظام من المسؤولية المباشرة عن الأوضاع، ويدفع باتجاه قبول العجز كأمر واقع لا بديل عنه.

الخطاب الرسمي يتأرجح بين التلاعب الرمزي، الذي يدمج بين “المقاومة الحكيمة” و”الانهزام المبرر”، وبين استغلال فرح ضمني لدى السوريين بالتقارب الأخير مع السعودية والإمارات. يُقدَّم هذا التقارب كنافذة أمل، يُروج لها على أنها خطوة نحو الخلاص من آثار الحرب والتغيرات الجيوسياسية التي تفرضها إسرائيل في المنطقة.

ومع ذلك، في عمق هذا السرد، يواجه النظام تناقضاً واضحاً: فمن جهة يسوّق نفسه كبطل مقاوم يحمي البلاد من الأخطار، ومن جهة أخرى يُقرّ ضمنياً بأنه نظام متعب، يتجنب الصدامات المباشرة حفاظاً على بقائه. هذا التناقض لا يمر من دون أثر، بل يرسّخ حالة اللامبالاة الجمعية، حيث بات السوريون يتقبلون هذا الخطاب المتناقض كجزء من واقع لا يمكن تغييره، وفي ظل هذا القبول، تتعمق أزمة فقدان الثقة، ويترسخ العجز السياسي والاجتماعي في مواجهة الانهيار المستمر.

ازاح النظام الشعب السوري كلياً عن السياسة، محولاً إياهم إلى مجرد متلقّين لخطاباته الرتيبة التي تتكرر من دون جديد، حتى أصبحت تلك الخطابات موضوعاً للسخرية. ومع استمرار الإذلال والخوف كحالة يومية، بات السوريون يتجنبون التعبير العاطفي عن القهر أو الحزن، إما بتأويل الألم ليبدو وكأنه موجه إلى إيران أو قوى أخرى، وإما بسبب العجز المكتسب الذي زرعه النظام في نفوسهم عبر سنوات من القمع والصدمات المتكررة.

لا يكتب السوريون في غالبيتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن الضربات، يكتفون بالتعبير عن الخوف أو التساؤل عن مصدر الأصوات، من دون أي محاولة لصياغة خطاب سياسي يعبر عن موقف وطني تجاه عدوان خارجي على بلادهم، يبدو أن هناك تسوية مع حالة النظام وحالة البلاد بأكملها، تقوم على الخضوع والاستسلام، إنها أشبه بحالة صوفية تنعزل عن الواقع لتبحث عن ملاذ في فكرة مجردة، بعيداً عن الفعل أو المواجهة.

لكن الأكثر بؤساً هو انحدار سوريا إلى حالة من السلبية التاريخية، حيث لا إيمان بإمكانية الفعل أو جدواه، ولا إحساس بالقدرة على إحداث تغيير حقيقي. هذه السلبية لا تعبر فقط عن انعدام الأمل، بل هي نتيجة انهيار العقد الاجتماعي وتحول الشعب إلى شاهد صامت على وطن يتمزق أمام أعينهم.

رسّخ النظام مفهوم الخدر العاطفي لدى السوريين، حيث أصبح التجنّب العاطفي وسيلة بقاء نفسية، واستبدلت الإرادة بالتكيّف القهري مع واقع يتهاوى، كل ضربة جديدة أو مأساة إضافية لم تعد تُشعل غضباً أو حزناً جماعياً، بل تُقابل بلا مبالاة مكتسبة، وكأن الزمن توقف عند دائرة مغلقة من القهر والاستكانة.

سوريا اليوم تعيش حالة الوجود المعلّق، حيث يبدو المستقبل متجمداً والواقع خاضعاً لإرادة قوى لا تقيم وزناً لمعاناة شعبها. ومع كل يوم يمر، يتآكل الإيمان بجدوى السياسة أو الفعل، لتبقى البلاد في مدار لا نهاية له من الجمود والعجز.