يكثر الحديث عن الحروب الكبرى كلما اندلعت مواجهة جديدة في أي بقعة من العالم، فالأحداث السياسية والأمنية المتراكمة لا تبشّر بالخير. لكن الحروب الكبرى لا تحصل لمجرّد الحديث عنها، مهما بلغت حدّة التشنجات. فقد حاولت دول العالم جاهدة، بعد الحرب العالمية الثانية، بالرغم من عدم حلّ التناقضات الأساسية التي تسبّبت باندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، التعايش والتعاون من أجل تحقيق شعار “السلام العالمي”.
لكن هذا التوجّه التعاوني كان قائمًا على تجاهل الأسباب، المتعلقة ببنية النظام العالمي بالذات، والتعامل مع نتائج هذا الخلل البنيوي من خلال تكثيف الأنشطة الدبلوماسية. هذا التوجّه لم يأتِ سوى بالمزيد من الأسباب لتحوّل كوكب الأرض إلى كرة نارٍ ملتهبة. فبدل انهماك دول العالم بالتعامل مع الصراعات المسلّحة بشكل تلقائي بعد تفجّرها بهدف إنهائها عبر الهيئات والقنوات الأممية، تحوّل كل صراعٍ مسلّح مهما بلغ حجمه، بخاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى نقطة استقطاب دولي. واتجهت القوى الدولية القادرة، كالصين واليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وفرنسا، إلى مضاعفة التسلّح. فيما يقترب موعد انتهاء معاهدة “نيو ستارت” بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي للحدّ من الأسلحة النووية في 4 شباط/فبراير 2026، منذراً بعودة سباق التسلح النووي. وكأن ما يحصل شبيه ببدء تحرّك أضخم الصفائح التكتونية حول العالم يرافقه إمكانية عودة أضخم البراكين الخامدة إلى النشاط.
هذا التدهور الدراماتيكي في العلاقات الدولية تصاحبه أرقام مرعبة حول زيادة الإنفاق العسكري في كل أنحاء العالم، أضاء عليها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI في تقرير نشره في 22 نيسان/أبريل 2024. ويشير التقرير إلى أن الإنفاق العسكري العالمي قد بلغ في عام 2023 حوالي 2443 مليار دولار أميركي، بزيادة قدرها 6.8% عن عام 2022، وهي أكبر زيادة تشمل جميع مناطق العالم منذ عام 2009.

وبحسب التقرير الصادر عن SPIRI: سجّل الإنفاق العسكري الروسي زيادة سنوية بنسبة 24% ليصل مجموع الإنفاق إلى حوالي 109 مليارات دولار، فيما سجّلت الزيادة نسبة 57% منذ ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.
أما الإنفاق العسكري الأوكراني فقد سجّل زيادة بنسبة 51% ليصل إلى 64.8 مليار دولار، إضافة إلى تلقّي أوكرانيا لمساعدات عسكرية لا تقل عن 35 مليار دولار خلال عام 2023 وحده.
أما الدول الأعضاء في حلف الناتو (31 دولة) فبلغ إنفاقها العسكري 1341 مليار دولار، أي ما يعادل 55% من الإنفاق العسكري في العالم، مع حدوث زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري لدول الناتو الأوروبية، في الوقت الذي تستمر فيه الولايات المتحدة الأميركية بتصدّر القائمة ليبلغ إنفاقها العسكري 916 مليار دولار. أما الصين، وهي تأتي في المركز الثاني في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة، فبلغ إنفاقها العسكري نحو 296 مليار دولار بزيادة قدرها 6%، ما تسبّب بزيادة الإنفاق العسكري في الدول المجاورة التي تمثّل الصين لها تهديدًا كاليابان وتايوان، حيث خصصت اليابان 50.2 مليار دولار وتايوان 16.6 مليار دولار للإنفاق العسكري عام 2023 بزيادة مماثلة من حيث النسبة قدرها 11%. عودة اليابان إلى التسلّح يضاعف التوتر في شرق آسيا، واتجاه الصين نحو تعزيز الإنفاق العسكري سيدفع حكومتي اليابان وتايوان بدورهما إلى زيادة إنفاقهما العسكري بشكل مستمر.
في منطقة الشرق الأوسط شهد الإنفاق العسكري ارتفاعًا بنسبة 9% ليصل إلى 200 مليار دولار في عام 2023 على وقع الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث شهد الإنفاق العسكري الإسرائيلي نمواً استثنائياً بنسبة 24% ليصل إلى 27.5 مليار دولار في عام 2023، وهو يأتي في المركز الثاني بعد المملكة العربية السعودية.
وفي الهند، وهي رابع أكبر منفق عسكري على مستوى العالم في عام 2023، بلغ الإنفاق العسكري 83.6 مليار دولار بزيادة نسبتها 4.2%. فيما تسببت النزاعات الأهلية في كل من جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان بزيادات كبيرة على الإنفاق العسكرية فاقت نسبتها 105% و78%.
في أميركا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي، فإن السبب المباشر في زيادة نسبة الإنفاق العسكري لتصل إلى 54% منذ العام 2014 هو تصاعد الجريمة وحروب العصابات، لكن ذلك يؤكّد بأن مستويات العنف آخذة بالارتفاع عالميًا وبشكل كبير، وبأن الخلل الذي يشوب بنية النظام العالمي وينتج عنه أشكالٌ متعددة من التدهور على جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية والأمنية، لا تنحصر تداعياته على مناطق محدّدة، ولا يمكن احتواؤها بالنشاط الدبلوماسي الرسمي، كما لا يمكن فصلها بعضها عن بعض. وبحسب ACLED Conflict Index، فإن معدلات العنف المسلّح ارتفعت في العالم بنسبة 12% عام 2023 مقارنة بعام 2022، وبزيادة تفوق 40% عن عام 2020!
ومن الملاحظ حسب الرسم البياني أعلاه (المصدر: Statista) أن الإنفاق العسكري للولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا قد تجاوز أكثر من 50% من مجموع الإنفاق العسكري العالمي. ويشمل سباق التسلح بين هذه القوى البحوث العسكرية وتطوير الأسلحة الذكية، كما يشمل، وللأسف الشديد، زيادة الترسانات النووية وتحديثها! ولكن، بسبب التوازن الاستراتيجي النووي إياه، فإن الصدام بين هذه القوى، وغيرها من القوى المؤثرة في الصراعات الدولية، يتخذ أشكالاً غير مباشرة، من خلال حروب الوكالة، وتأجيج النزاعات الأهلية في أماكن عدة. فالجانب الأكثر خطورة في سباق التسلح ليس محاولة هذه القوة الدولية أو تلك تحقيق تفوّق عسكري حاسم، بل هو عسكرة الاقتصادات الكبرى، وهيمنة رأس المال العسكري على السياسات الخارجية للحكومات، حيث تصير أولويتها إطالة أمد النزاعات المسلّحة، إضافة إلى إشعال فتيل نزاعات جديدة، وهي عادة ما تطال الدول الأكثر فقراً.
إقرأوا أيضاً:
إضافة إلى ما سبق، فإن عسكرة الاقتصادات الكبرى هي إحدى الحلول الممكنة لدى الطبقات الحاكمة للالتفاف على آثار الأزمة الاقتصادية الشاملة التي تسبّبت بها جائحة كورونا عوضًا عن معالجتها. فقد كان تأثير الأزمة حاداً على الطبقات العاملة وأصحاب المهن الحرّة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتعرّضت فئة الشباب تحديداً إلى فقدان مصادر دخلها، وهي الفئة المطلوبة في الوقت نفسه للتجنيد الإجباري في الحروب والنزاعات. إن حجم المكتسبات التي تبخّرت في وقتٍ قياسي لا يمكن تعويضها سوى بإحداث تغييرات بنيوية تطال أساس النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم، وهذا الأمر يتطلّب قتال معظم الناس على جبهة الصراع الاجتماعي بدل التحوّل إلى وقود للصراعات المسلّحة بين الدول أو الحروب بالوكالة، أي قتال الناس ضد حكوماتها بالذات، أو بكلامٍ آخر: إعلان الحرب على الحرب، وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، قبل أن يبلغ مسار العسكرة نقطة اللاعودة.
إقرأوا أيضاً: