fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

الطريق إلى حفل “كايروكي”: من دمشق إلى جبيل محشوراً بين 20 هارباً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عجزت عن دخول لبنان بطريقة شرعية، فاخترت “المغامرة” لحضور حفل “كايروكي” في جبيل، وعبرت الحدود “تهريب”، ركبت سيارة تتسع لـ7 أشخاص حُشر فيها 20 هارباً من سوريا، يعانون تحت ضغط الطريق القاسي والسماسرة والأمل بالوصول.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنت في دمشق عندما أعلنت فرقة الروك المصرية “كايروكي” عن حفلها الأول في لبنان ضمن مهرجانات بيبلوس، يومها  استيقظت على كم كبير من الرسائل التي وصلتني، لتخبرني بأن الفرقة قادمة إلى جبيل، وبالطبع لا بد من حضور الحفل.

 أعتبر نفسي من أشد معجبي “كايروكي” أو واحداً من سكان “جمهورية كايروكي” كما تطلق الفرقة على جمهورها،  تتمتع الفرقة التي مضى على تأسيسها أكثر من 20 عاماً،  بانتشار كبير لدى الجمهور العربي،  وقد أحيت حفلات في أوروبا وفي عدد من الدول العربية، عدا سوريا طبعاً.

بدأت بالاستماع إلى  أغاني الفرقة عام  2011،  وهي من الأشياء القليلة التي بقيت ثابتة في حياتي، ضمن كل التقلّبات والتغييرات التي حدثت معي، ومع من حولي، لذلك، ما إن سمعت بالإعلان، حتى بدأت باسترجاع لحظاتي السعيدة التي مرت خلال السنين الماضية، أبرزها عندما تمكنت من حضور حفل الفرقة في مصر، والسهرة بعدها  مع مغنيها الرئيسي أمير عيد، وهنا بدأت أسأل أو أتخيل، هل تُعاد هذه اللحظة؟ إنها هنا في بلد لا يبعد عني أكثر من ساعتين بالسيارة!.

ما السبيل إلى لبنان؟

تعتبر الحدود اللبنانية السورية من أكثر الحدود التي يشعر فيها السوري بأنه تحت رحمة “الجميع”، يتخلى كل فرد سوري عن جزء من كرامته ليعبر نقطة المصنع (الحدود اللبنانية) هناك، يصبح الانتظار جوهر وجوده في مساحة اللا مكان، أي بين أن يطرد عائداً أو يعبر منتصراً على الانتظار نفسه.

ينتظر الواحد منا على الحدود مترقباً رأي الجانب اللبناني فيه، وكأنه ينتظر نتيجة قبوله في أهم الجامعات في العالم أو في أهم الوظائف فيه، يُسأل عن سبب الدخول وموعده، ويوم الخروج أو “العودة”، تلك الكلمة المريبة…لكننا اعتدنا صعوبة الوصول إلى أي مكان، طمعاً بساعة من الفرح.

عندما أعلنت الفرقة عن حفلتها في جبيل، كان الأمر أشبه بإعلان عنها في دمشق، لكونه، أي لبنان، المكان الأقرب الذي يستطيع السوريون فيه حضور الحفل، بسبب استحالة قدوم الفرقة إلى سوريا، لأن سقف الحرية يختلف ارتفاعه بين ما تقدمه الفرقة، وبين ما تستطيع سوريا استيعابه في ظل “الوضع القائم”.

 لم أفكر في الطريق  إلى جبيل عندما حجزت تذاكر لي ولأصدقائي،  كنت أشبه بسفير للفرقة، أساعد من يرغب في حضور الحفلة بحجز تذكرة، عبر وسيط خارجي، لعدم قدرتنا كسوريين على الدفع “أونلاين”، وأشجّع أي شخص يستمع لهم بأن يحضرها.

بدأت بعد ضبط عدد البطاقات أبحث عن الطرق التي يمكننا من خلالها دخول لبنان، مواعيد سفارات، برقيات، حجز فندق وهمي، بطاقة نقابة الفنانين، وغيرها من أساليب لي عنق القانون،  أو التحايل عليه في سبيل عبور الحدود، شأن اعتدت عليه وكثيرون في سوريا، حد أن البعض حوله إلى تجارة!

نجح البعض في دخول لبنان، لكني أنا؛ سفير الفرقة، فشلت، وهنا  اخترت للمرة الأولى المغامرة بشكل لم أتوقع أن أقوم به طوال حياتي، سأدخل إلى لبنان بشكل غير شرعي أي تهريب.

نال مني الاكتئاب طويلاً، وصار الحصول على بعض الراحة مطلباً موقتاً، لكن “كايروكي” رافقتني في كل هذا، وساعدتني كلمات أغانيها في إعادة اكتشاف نفسي مرات عديدة، وكانت هذه المرة محاولة اكتشاف القدرة على الوصول على رغم صعوبة الطريق.

 عشت أقسى تجربة في حياتي في مغامرة الطريق، وكلمة مغامرة هنا قد تحمل إهانة، ليست مرتبطة بما مررت به على الصعيد الشخصي، كوني كنت أتوقع أن طريق التهريب ليس بالرفاهية التي أريد، ولكن  اتساع المساحة بين الهدف الخاص بي والهدف الخاص بالأشخاص، الذين اختاروا هذا الطريق شاسع جداً، كانوا 20 شخصاً، وكنت محشوراً بين أنفاسهم الخائفة والهاربة الباحثة عن ملجأ، بينما أعد أنفاسي كي أصل إلى حفلة!.

كان الطريق سلسلة من انهيارات وقصص سمعتها من قبل عن الهاربين وعابري سُبل التهريب والفرار من سوريا، لكني الآن، أحدق في وجوه أصحابها وملامحهم، فالتزمت الصمت لتسع ساعات، أختلس النظر إلى وجوه الشباب والأطفال والكبار، وأرى التعب والضعف ينزّ منها بشكل واضح، أسمع أحاديث الهاربين وأسباب خروجهم، وأحاول ألا أخوض في أي منها، أبادلهم ابتسامات التعاطف تحت ضغط العبور غير الآمن والأخطار التي تحاصرنا وتحكم التجار والسماسرة بنا، أحاديث وقصص لا يمكن أن تكون إلا أجزاء من روايات وأفلام، وليست قصصاً تُروى في سيارة تتسع لسبعة أشخاص حُشر فيها عشرون!.

كانت النقلة الأخيرة هي بمثابة الخروج من عنق الزجاجة، سيارة نظامية للمرة الأولى، “سرفيس” يعمل على خط بعلبك بيروت، تم اختيار 9 أشخاص يبدون أقل تعباً وتأثراً بقسوة الرحلة، كنت من بينهم، وللمرة الأولى منذ بداية المغامرة، نتكوم في مركبة تسير بنا على طريق غير ترابي، في “السرفيس” كان كل ما يجب علينا فعله هو أن نكون طبيعيين!.

 من أصعب الاختبارات، أن تكون طبيعياً بعد تسع ساعات من طريق التهريب،  طلبت من السائق أن يوصلني إلى جبيل، فاتصل بالسمسار الخاص بي ليأخذ منه الضوء الأخضر، ويستلم المبلغ المادي المتفق عليه ثمن خدمة التوصيل.

 ساعدني أحد رفاق الطريق في الوصول إلى المنزل الذي قمنا باستئجاره في جبيل، وأثناء الطريق وصلتني رسالة من أصدقائي الذين قرروا حضور الحفل، بأنهم أصبحوا على الشاطئ، وعلي اللحاق بهم. 

 أتخيل لو أن كل من كان معي يتمتع بهذه الرفاهية التي أتيت من أجلها إلى لبنان!.

“الحرية” لساعة ونصف!

وصلنا الحفل قبل ساعة من بدايته، بدأت الوجوه المألوفة بالظهور، أرى أصدقائي السوريين ونتبادل نظرات يملأها الفرح الممزوج بصعوبة الوصول، تنتشر الكوفية الفلسطينية بكثرة بين الجمهور، هنا وبعد أكثر من 10 أعوام من رحلتي مع الفرقة، أظن أنه من أصعب المهام في عالم الفن أن تكون رسالة الفنان ثابتة طوال رحلته الإبداعية.

أستمع إلى “كايروكي” منذ عام 2011، وكانت أغنية “مطلوب زعيم” التي تلت ثورة 25 يناير، أول أغنية تصل إلى مسامعي، كان أعضاء “كايروكي” منذ انطلاقتهم يأخذون على عاتقهم عرض القضايا، التي من الممكن أن تهم أي مجتمع، بدءاً من إيمانهم بأحقية مطالبهم كشعب مصري، وسعيهم نحو الحرية، وصولاً إلى تحليل الحالات النفسية الإنسانية في أغانيهم، كل هذا من دون أن يُهملوا أية قضية يمكن الإضاءة عليها والحديث عنها. 

استمعنا واستمتعنا بأغاني الحفل كلها، حتى وصلنا  إلى “تلك قضية”، الأغنية التي أصدرتها الفرقة بعد الحرب على غزة، قليلة هي الأغاني التي بإمكانك أن تقول عنها تحفة فنية، وعلى وجه الخصوص عندما تكون الأغنية تناقش قضية شعب بأكمله، وقف ضده كل قوى العالم.

 استطاعت “كايروكي” في “تلك قضية”طرح مفاهيم وتفاصيل ترتبط بما يشعر به سكّان تلك البلاد، من دون أن يكونوا من سكّان تلك البلاد، ولكن أن تؤمن بما تشعر به وتتبناه، هو رسالة أظن أنه يجب على أي فنان أن يحافظ عليها، والفرقة من “مطلوب زعيم” إلى “تلك قضية” انطلقت في مسيرة لم تعرف الانحدار؛ حسب تقديري الشخصي، وأبدت احتراماً للمهنة وتمسكاً بالرسالة من دون أي تراجع.

رفرفت الكوفية الفلسطينية وهتفت الحناجر وانهالت الدموع لتسأل: “كيف يسير قانون الغابة؟ من أين طريق الحرية؟ ومن أين تؤتى الدبابة؟”، لننهي الأغنية بصراخنا بأن تلك قضية وهذا كفاح، ونتبادل النظرات مرة أخرى والعيون تطفح بالدموع، نحن لا نعرف كم الخذلان الذي عشناه، وعدد الحروب التي تحتسب من سنين أعمارنا، لكننا وصلنا إلى اللحظة التي تستطيع فيها أغنية تعبر عن قضية تخصنا، أن تبكينا.

عرفت معنى كلمة الحرية في حفل مصر، لأعود وأعيشه مرة أخرى لساعة ونصف في البلد، الذي يتمتع بأعلى سقف للحرية (نظرياً) خرجت من الحفل لألتقي الوجوه السورية التي أعرفها، ونحن للمرة الأولى نتشارك هذه الأغاني بشكل مباشر من الفرقة، وليس من اليوتيوب في سهراتنا.

نرغب في الوصول دوماً، نسعى نحوه دوماً، وكأنه أحد الأشياء الثابتة التي نريدها طوال حياتنا، نسعى نحو سرقة لحظات الفرح على الرغم من صعوبتها، قليلة هي اللحظات التي نتذكرها مجموعين في مكان خارج سوريا، ولكن “كايروكي” استطاعوا منحنا هذه الحق للمرة الأولى منذ زمن بعيد، وهم يحاولون الوصول إلى جمهورهم في كافة أنحاء العالم، ليخلقوا لنا ذكريات جديدة، نسرح معها في أوقاتنا العصيبة لتهون علينا رحلة الطريق.

27.07.2024
زمن القراءة: 6 minutes

عجزت عن دخول لبنان بطريقة شرعية، فاخترت “المغامرة” لحضور حفل “كايروكي” في جبيل، وعبرت الحدود “تهريب”، ركبت سيارة تتسع لـ7 أشخاص حُشر فيها 20 هارباً من سوريا، يعانون تحت ضغط الطريق القاسي والسماسرة والأمل بالوصول.

كنت في دمشق عندما أعلنت فرقة الروك المصرية “كايروكي” عن حفلها الأول في لبنان ضمن مهرجانات بيبلوس، يومها  استيقظت على كم كبير من الرسائل التي وصلتني، لتخبرني بأن الفرقة قادمة إلى جبيل، وبالطبع لا بد من حضور الحفل.

 أعتبر نفسي من أشد معجبي “كايروكي” أو واحداً من سكان “جمهورية كايروكي” كما تطلق الفرقة على جمهورها،  تتمتع الفرقة التي مضى على تأسيسها أكثر من 20 عاماً،  بانتشار كبير لدى الجمهور العربي،  وقد أحيت حفلات في أوروبا وفي عدد من الدول العربية، عدا سوريا طبعاً.

بدأت بالاستماع إلى  أغاني الفرقة عام  2011،  وهي من الأشياء القليلة التي بقيت ثابتة في حياتي، ضمن كل التقلّبات والتغييرات التي حدثت معي، ومع من حولي، لذلك، ما إن سمعت بالإعلان، حتى بدأت باسترجاع لحظاتي السعيدة التي مرت خلال السنين الماضية، أبرزها عندما تمكنت من حضور حفل الفرقة في مصر، والسهرة بعدها  مع مغنيها الرئيسي أمير عيد، وهنا بدأت أسأل أو أتخيل، هل تُعاد هذه اللحظة؟ إنها هنا في بلد لا يبعد عني أكثر من ساعتين بالسيارة!.

ما السبيل إلى لبنان؟

تعتبر الحدود اللبنانية السورية من أكثر الحدود التي يشعر فيها السوري بأنه تحت رحمة “الجميع”، يتخلى كل فرد سوري عن جزء من كرامته ليعبر نقطة المصنع (الحدود اللبنانية) هناك، يصبح الانتظار جوهر وجوده في مساحة اللا مكان، أي بين أن يطرد عائداً أو يعبر منتصراً على الانتظار نفسه.

ينتظر الواحد منا على الحدود مترقباً رأي الجانب اللبناني فيه، وكأنه ينتظر نتيجة قبوله في أهم الجامعات في العالم أو في أهم الوظائف فيه، يُسأل عن سبب الدخول وموعده، ويوم الخروج أو “العودة”، تلك الكلمة المريبة…لكننا اعتدنا صعوبة الوصول إلى أي مكان، طمعاً بساعة من الفرح.

عندما أعلنت الفرقة عن حفلتها في جبيل، كان الأمر أشبه بإعلان عنها في دمشق، لكونه، أي لبنان، المكان الأقرب الذي يستطيع السوريون فيه حضور الحفل، بسبب استحالة قدوم الفرقة إلى سوريا، لأن سقف الحرية يختلف ارتفاعه بين ما تقدمه الفرقة، وبين ما تستطيع سوريا استيعابه في ظل “الوضع القائم”.

 لم أفكر في الطريق  إلى جبيل عندما حجزت تذاكر لي ولأصدقائي،  كنت أشبه بسفير للفرقة، أساعد من يرغب في حضور الحفلة بحجز تذكرة، عبر وسيط خارجي، لعدم قدرتنا كسوريين على الدفع “أونلاين”، وأشجّع أي شخص يستمع لهم بأن يحضرها.

بدأت بعد ضبط عدد البطاقات أبحث عن الطرق التي يمكننا من خلالها دخول لبنان، مواعيد سفارات، برقيات، حجز فندق وهمي، بطاقة نقابة الفنانين، وغيرها من أساليب لي عنق القانون،  أو التحايل عليه في سبيل عبور الحدود، شأن اعتدت عليه وكثيرون في سوريا، حد أن البعض حوله إلى تجارة!

نجح البعض في دخول لبنان، لكني أنا؛ سفير الفرقة، فشلت، وهنا  اخترت للمرة الأولى المغامرة بشكل لم أتوقع أن أقوم به طوال حياتي، سأدخل إلى لبنان بشكل غير شرعي أي تهريب.

نال مني الاكتئاب طويلاً، وصار الحصول على بعض الراحة مطلباً موقتاً، لكن “كايروكي” رافقتني في كل هذا، وساعدتني كلمات أغانيها في إعادة اكتشاف نفسي مرات عديدة، وكانت هذه المرة محاولة اكتشاف القدرة على الوصول على رغم صعوبة الطريق.

 عشت أقسى تجربة في حياتي في مغامرة الطريق، وكلمة مغامرة هنا قد تحمل إهانة، ليست مرتبطة بما مررت به على الصعيد الشخصي، كوني كنت أتوقع أن طريق التهريب ليس بالرفاهية التي أريد، ولكن  اتساع المساحة بين الهدف الخاص بي والهدف الخاص بالأشخاص، الذين اختاروا هذا الطريق شاسع جداً، كانوا 20 شخصاً، وكنت محشوراً بين أنفاسهم الخائفة والهاربة الباحثة عن ملجأ، بينما أعد أنفاسي كي أصل إلى حفلة!.

كان الطريق سلسلة من انهيارات وقصص سمعتها من قبل عن الهاربين وعابري سُبل التهريب والفرار من سوريا، لكني الآن، أحدق في وجوه أصحابها وملامحهم، فالتزمت الصمت لتسع ساعات، أختلس النظر إلى وجوه الشباب والأطفال والكبار، وأرى التعب والضعف ينزّ منها بشكل واضح، أسمع أحاديث الهاربين وأسباب خروجهم، وأحاول ألا أخوض في أي منها، أبادلهم ابتسامات التعاطف تحت ضغط العبور غير الآمن والأخطار التي تحاصرنا وتحكم التجار والسماسرة بنا، أحاديث وقصص لا يمكن أن تكون إلا أجزاء من روايات وأفلام، وليست قصصاً تُروى في سيارة تتسع لسبعة أشخاص حُشر فيها عشرون!.

كانت النقلة الأخيرة هي بمثابة الخروج من عنق الزجاجة، سيارة نظامية للمرة الأولى، “سرفيس” يعمل على خط بعلبك بيروت، تم اختيار 9 أشخاص يبدون أقل تعباً وتأثراً بقسوة الرحلة، كنت من بينهم، وللمرة الأولى منذ بداية المغامرة، نتكوم في مركبة تسير بنا على طريق غير ترابي، في “السرفيس” كان كل ما يجب علينا فعله هو أن نكون طبيعيين!.

 من أصعب الاختبارات، أن تكون طبيعياً بعد تسع ساعات من طريق التهريب،  طلبت من السائق أن يوصلني إلى جبيل، فاتصل بالسمسار الخاص بي ليأخذ منه الضوء الأخضر، ويستلم المبلغ المادي المتفق عليه ثمن خدمة التوصيل.

 ساعدني أحد رفاق الطريق في الوصول إلى المنزل الذي قمنا باستئجاره في جبيل، وأثناء الطريق وصلتني رسالة من أصدقائي الذين قرروا حضور الحفل، بأنهم أصبحوا على الشاطئ، وعلي اللحاق بهم. 

 أتخيل لو أن كل من كان معي يتمتع بهذه الرفاهية التي أتيت من أجلها إلى لبنان!.

“الحرية” لساعة ونصف!

وصلنا الحفل قبل ساعة من بدايته، بدأت الوجوه المألوفة بالظهور، أرى أصدقائي السوريين ونتبادل نظرات يملأها الفرح الممزوج بصعوبة الوصول، تنتشر الكوفية الفلسطينية بكثرة بين الجمهور، هنا وبعد أكثر من 10 أعوام من رحلتي مع الفرقة، أظن أنه من أصعب المهام في عالم الفن أن تكون رسالة الفنان ثابتة طوال رحلته الإبداعية.

أستمع إلى “كايروكي” منذ عام 2011، وكانت أغنية “مطلوب زعيم” التي تلت ثورة 25 يناير، أول أغنية تصل إلى مسامعي، كان أعضاء “كايروكي” منذ انطلاقتهم يأخذون على عاتقهم عرض القضايا، التي من الممكن أن تهم أي مجتمع، بدءاً من إيمانهم بأحقية مطالبهم كشعب مصري، وسعيهم نحو الحرية، وصولاً إلى تحليل الحالات النفسية الإنسانية في أغانيهم، كل هذا من دون أن يُهملوا أية قضية يمكن الإضاءة عليها والحديث عنها. 

استمعنا واستمتعنا بأغاني الحفل كلها، حتى وصلنا  إلى “تلك قضية”، الأغنية التي أصدرتها الفرقة بعد الحرب على غزة، قليلة هي الأغاني التي بإمكانك أن تقول عنها تحفة فنية، وعلى وجه الخصوص عندما تكون الأغنية تناقش قضية شعب بأكمله، وقف ضده كل قوى العالم.

 استطاعت “كايروكي” في “تلك قضية”طرح مفاهيم وتفاصيل ترتبط بما يشعر به سكّان تلك البلاد، من دون أن يكونوا من سكّان تلك البلاد، ولكن أن تؤمن بما تشعر به وتتبناه، هو رسالة أظن أنه يجب على أي فنان أن يحافظ عليها، والفرقة من “مطلوب زعيم” إلى “تلك قضية” انطلقت في مسيرة لم تعرف الانحدار؛ حسب تقديري الشخصي، وأبدت احتراماً للمهنة وتمسكاً بالرسالة من دون أي تراجع.

رفرفت الكوفية الفلسطينية وهتفت الحناجر وانهالت الدموع لتسأل: “كيف يسير قانون الغابة؟ من أين طريق الحرية؟ ومن أين تؤتى الدبابة؟”، لننهي الأغنية بصراخنا بأن تلك قضية وهذا كفاح، ونتبادل النظرات مرة أخرى والعيون تطفح بالدموع، نحن لا نعرف كم الخذلان الذي عشناه، وعدد الحروب التي تحتسب من سنين أعمارنا، لكننا وصلنا إلى اللحظة التي تستطيع فيها أغنية تعبر عن قضية تخصنا، أن تبكينا.

عرفت معنى كلمة الحرية في حفل مصر، لأعود وأعيشه مرة أخرى لساعة ونصف في البلد، الذي يتمتع بأعلى سقف للحرية (نظرياً) خرجت من الحفل لألتقي الوجوه السورية التي أعرفها، ونحن للمرة الأولى نتشارك هذه الأغاني بشكل مباشر من الفرقة، وليس من اليوتيوب في سهراتنا.

نرغب في الوصول دوماً، نسعى نحوه دوماً، وكأنه أحد الأشياء الثابتة التي نريدها طوال حياتنا، نسعى نحو سرقة لحظات الفرح على الرغم من صعوبتها، قليلة هي اللحظات التي نتذكرها مجموعين في مكان خارج سوريا، ولكن “كايروكي” استطاعوا منحنا هذه الحق للمرة الأولى منذ زمن بعيد، وهم يحاولون الوصول إلى جمهورهم في كافة أنحاء العالم، ليخلقوا لنا ذكريات جديدة، نسرح معها في أوقاتنا العصيبة لتهون علينا رحلة الطريق.