ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

العاهل المغربي يقابل حراك “جيل زد” بالتجاهل!  

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أليس في هذه البلاد رجل واحد بأنثيين، يجرؤ على الخروج من صومعة الصمت الممزوجة بالجبن والمصلحة، ليقول للملك إن خطابه كان مخيّباً لجيل هو زهرة عهده الجديد، وإنه لم يحمل جديداً، منذ اعتلى العرش، بل كان ثرثرة سياسية تذرّ الرماد في العيون. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا تزال المغرب تعيش على وقع أصداء الحراك الشبابي الذي هزّ شوارع البلاد في الأسبوعين الماضيين.

حركة “جيل زد 212” أعلنت تعليق احتجاجاتها مؤقتاً بعد أسبوعين من المظاهرات التي شهدتها مدن عدّة، مطالبة بإصلاحات عاجلة في قطاعي الصحّة والتعليم.

لكن هل هذا يعني أن الحراك الاحتجاجي انتهى؟

ألقى “جيل زد” بجذوة الحراك، فتلقّفها الشعب فرحاً كالوليد القادم بعد عقم! نعم، كان المخاض عسيراً ومكلفاً، ولكنّه في النهاية أنجب جيلاً بدا جليّاً أنه منتفض ورافض لكلّ هذا الاستبداد.

وحين أقول تلقّفها الشعب، فأنا أقصد، أنه ليس حراكاً فئوياً، بل هو يعني كلّ المغاربة، بمن فيهم صحافيو التشهير، ومبرراتيو السلطة، وكذلك عوائل البوليس والقوّات المساعدة الذين أوغلوا الضرب في شباب الوطن، وتفنّنوا في قمعه وسحله على الإسفلت والأرصفة.

“جيل زد” هو سيرورة متواصلة لكلّ فعل رافض شهده المغرب، من “عشرين فبراير” مرورا بـ”حراك الريف”، وانتفاضة جرادة، ومسيرة آيت بوگماز، واحتجاج الموت بأكادير، هي سيرورة تمشي بحذاء القمع، فمتى اشتدّ الخناق السلطوي، وظنّت الديكتاتورية أنها أطبقت على الشعب، شعب رفَّ من رماده بصرخة الرفض، ليقول لها أنا هنا

السلطة طبّعت مع القمع، مع “البوليس السياسي”، وتناست أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فعندما وضعت كاتم الصوت والحرّية على الجميع، وظنّت أنها مدّت رجلها بكامل طولها على ظهر البلاد والعباد، جاء “جيل زد” الذي كان خارج كلّ راداراتها، لا في الواقع ولا في المواقع، ليؤكّد أن تحت رماد القمع والذلقراطية جمراً مشتعلاً، إن لم تستجب له السلطة سيحرق ذات يوم أركانها.

لقد قال الشارع كلمته واضحة؛ وفق تصوّره لما يرى، وما يحتاج وما يتطلّب، وقال الأمن كلمته الملطّخة بدماء شهداء الحراك، ثم قالت الحكومة عبر بلاغ الأغلبية كلاماً أعجم مبهماً، عن فهمها لتطلّعات “جيل زد” ومتطلبات الشعب الذي خرج إلى الشارع، دون أن تحرّك ساكناً تجاه ما خرج الشارع من أجله. 

وبعد طول صمت ألقى الملك خطابه، فرمى الشارع بثالثة أثافي الاستبداد، حيث قال بالحرف إنه “لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية، ما دام الهدف هو تنمية البلاد وتحسين ظروف عيش المواطنين أينما كانوا”، دون أن يشير ولو تلميحاً إلى الشارع الذي خرج يطالب بتحسين ظروف عيشه، وصحّته وتعليمه، بدل هذه المشاريع التي لا تعنيه، بقدر ما تهتمّ بتنظيم كأس العالم، حتى لو كانت ستفقر الفقير وتغني أثرياء البلاد، وهكذا نخلص إلى أن العاهل المغربي بخطابه هذا، وكأنه كان يقول لنا بالحرف: “ما أريكم إلا ما أرى”. 

إنها المرّة الثانية التي تشهد البلاد فيها حراكاً شعبياً، ويخرج الملك وهو رئيس الدولة في خطاب لا يذكر فيه مطالب الشعب، كأن هذا الشعب ليس في مخطّطات ملك يتحكّم بكلّ شيء، وفي كلّ شيء.

المرّة الأولى كانت إبّان “حراك الريف”، فعندما كانت عصي الأمن ترسم خارطة القمع على أجساد شباب الريف، خرج الملك بخطاب أبعد تشخيصاً من آلام المواطنين، وشكر الأجهزة الأمنية، معلناً بذلك مباركته لطول يدها التي امتدّت لكلّ رقبة حتى خنقت الجميع، وحوّل المملكة إلى دولة بوليسية أكثر شراسة من بوليسية عهد زين العابدين بن علي في تونس.

اليوم، وعلى وقع حراك “جيل زد”، ألقى الملك محمّد السادس خطابه من قبّة البرلمان في الرباط، مفتتحاً الدورة الخريفية من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، الخطاب كان في ما يفترض أنه (مجلس الشعب) دون أن يتحدّث عن مطالب هذا الشعب وآماله، الذي احتكم إليه في إقالة الحكومة، وممارسة مهامه الدستورية بخاصّة (الفصل 59) من الدستور: “يمكن للملك أن يُعلن حالة الاستثناء بظهير، بعد استشارة كلّ من رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النوّاب، ورئيس مجلس المستشارين، ورئيس المحكمة الدستورية، وتوجيه خطاب إلى الأمّة”.

وحالة الاستثناء هنا هي الاستجابة لمطالب الشعب، عبر ربط المسؤوليّة بالمحاسبة، وطرد هذه الحكومة التي خلال فترة الانتخابات وعدت الشعب بالرفاهية، وإلا عليه أن يرميها بالحجارة، وعندما رماها بالحجارة وجد رصاص الدرك يخترق لحمه، وسيارات الشرطة تدهسه، وبدل أن يكون الملك صوتاً لشعب احتكم إليه، خرج ليخفّف الضغط عن رئيس الحكومة عزيز أخنوش؛ الملياردير الشره الذي امتصّ دماء البلاد، والذي جاء عبر انتخابات لم تكن نزيهة، فترأس حكومة محدودة الصلاحيات، ومرتعاً للفساد ونهب جيوب المواطن.

الملك الذي يمثل سلطة القصر البعيدة عن المساءلة، تقمّص في خطابه دور المحامي والمنافح عن هذه الحكومة، وعن صديقه الملياردير، ليوجّه أصابع الاتّهام لغيره، مرتدياً جبّة معارض يستخلص العبر من رداءة التسيير في البلاد وترهّله، ويلقي المسؤوليّة على الجميع، ضارباً وضع البلاد ومطالب المواطنين عرض الحائط. 

حمل هذا الخطاب الملكي نكتة سياسية سوداء، حيث  حمّل مسوؤليّة وضع البلاد للسياسيين، والبرلمانيين، والأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام، وفاعليات المجتمع المدني، والنكتة تتجلّى في حقيقة ترويض المخزن (السلطة الحاكمة) للسياسيين، وتفكيك الأحزاب التي تحوّلت إلى دكاكين سياسية، لا تجمع سوى الأمّيين والمنبطحين، والمجتمع المدني الذي هو كما نعلم مجموعة من المرتزقة تتصدّر المشهد، وتبحث عن طرف الخبز في كلّ فعل قبل المصلحة العامّة، أما الإعلاميون فهم إما منفيّون خارج البلاد، وإما يمارسون التواصل بدل الصحافة، مقابل أجور وحدها المملكة المغربية في العالم من تصرفها لهم من المال العامّ! 

“سِيدنا” كما يسمّي المغاربة الملك احتراماً له، كان يمسح المسؤوليّة بمجموعة لا ذنب لها، كان يحاكم من لا يحكم، كان يستقوي على الجزء الضعيف في بنية الدولة، بينما كان يشيد بمشاريع الدولة الحقيقية التي هو رأسها، وهي السلطة الفوقية في الدولة “le méta-pouvoir”، أو “البنية السرّية” كما أسماها المؤرّخ المغربي المعطي منجب، وكشفها بالأسماء وزير حقوق الإنسان الأسبق والمعتقل السياسي الحالي محمّد زيّان، وهي إن صحّ القول تلك السلطة التي تتحكّم وتؤثّر في السلطات الأخرى، هي سلطة تمارَس من خلف الكواليس، أو بشكل غير مباشر على من يملكون القرار الظاهر، وهي نظم عليا تتحكّم بآليات الدولة والسلطة في الدول غير الديمقراطية.

“سيدنا” قضى في الأمر الذي خرج من أجله الشعب يستفتي، ولا رادّ لقضاء الملك في المغرب، وقد أكّد جلالته بخطابه هذا، وبخطابه أيّام حراك الريف كلاماً سابقاً لنبيل بنعبد الله الأمين العامّ لحزب “التقدّم والاشتراكية”، حين قال في حوارٍ متلفز “هذه حكومة صاحب الجلالة، كما كانت الحكومات السابقة حكومات صاحب الجلالة، كما هي المقبلة حكومات صاحب الجلالة”، ليقاطعه إدريس لشكر الأمين العامّ لحزب “الاتّحاد الاشتراكي للقوّات الشعبية”، قائلا: “نحن أيضاً معارضة صاحب الجلالة”، وكأننا في مزرعة ملكية نعيش فيها رعايا لا مواطنين، نعيش كحيوانات جورج أورويل، أو ربما نحن نُعيد تجسيد روايته المستنيرة!

من أجل ذلك، بات من حقّ الشعب المغربي اليوم، وبما لا يدع مجالاً للشكّ، أن يسائل الملك عن حلّ هذا التنافي مع سلطته، الذي جاء على هيئة خطاب سامّ، لأنه ببساطة لم يعد قادراً على إخفاء مسؤوليّته المباشرة في واقع المغرب، والشعب لم يعد يردّد كما في السابق أسطوانة “الملك طيّب ومحيطه فاسد”، فقد سقطت كلّ جدران التقيّة التي ظلّ يمارسها، فالشابّ الذي اعتلى العرش بخدعة “ملك الفقراء” هو نفسه الكهل الذي أصبح يعرفُ بـ”الملك المفترس”. 

وعليه أن يعي أن كلّ مظاهر الديمقراطية وشكليّاتها الصورية، ورغم ممارسات الشعب لآلياتها من انتخابات وتصويت وخطب وشعارات، فإن المواطن المغربي في عمق وعيه الجمعي، ما زال يستحضر صورة الملك في كلّ شيء، ويربط به كلّ صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياته، بل ويحتمي به من تهم التخوين حين ينتقد أو يطالب بحقّه. 

فهل يستطيع الملك اليوم أن يقنع مواطناً ظلّ يردّد طوال حياته: “نحن لا نعرف سوى الملك”، بأن هذا الملك لا يملك له من أمر المسؤولين شيئاً؟ هل يملك هذا الملك أن يصارح شعبه بحقيقة أنه غير مهتمّ بكلّ هذا؟ وأنه يفضّل رحلات راحته وعلاجه في الخارج، بدل إيجاد حلّ لمشاكل المغرب الغارق في الفساد؛ ففي مؤشّر مدركات الفساد (Corruption Perceptions Index) لـ 2024، المغرب حصل على نحو  37 من أصل 100، وهو أقلّ من المتوسط العربي. والمغرب دولة مقيّدة بالبيروقراطية المترهّلة، التي تسبح في تعليم فاشل (المرتبة 98 من بين 141 دولة)، وفي صحّة قاتلة (المرتبة 131 من أصل 141 دولة)، وفي عدالة عرجاء (المرتبة 92 من أصل 142 دولة)، و(المرتبة 120 من بين 193 دولة) في مؤشّر التنمية.

وبعد كلّ هذا وذك، يختتم الملك خطابه بآية قرآنية من سورة الزلزلة: “فمن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يره”، في واحدة من أكثر تجليّات الحكم الثيوقراطي المطلق، ومن صور اللا مبالاة بحقيقة وضع البلاد، التي زلزلتها المطالب بإصلاح المصائب السياسية، في بلاد سبط النبي، الذي يتقوّل الأحاديث على جدّه المزعوم، بينما يقرأ وزراؤه القرآن حديثاً.

أليس في هذه البلاد رجل واحد بأنثيين، يجرؤ على الخروج من صومعة الصمت الممزوجة بالجبن والمصلحة، ليقول للملك إن خطابه كان مخيّباً لجيل هو زهرة عهده الجديد، وإنه لم يحمل جديداً، منذ اعتلى العرش، بل كان ثرثرة سياسية تذرّ الرماد في العيون. 

إن كلّ ذلك هو تجلٍ واضح لوجدان الشعب، الواقع تحت وطأة الظلم و”الحگرة”، والفساد المنهجي، واليأس القاتل، وبين فرض السلطوية لاستبدادها بقوّة القبضة الأمنية المستقطرة من أيدي الشيطان، التي قُدّ قلبها من حجر أصمّ، وهي القبضة الملطّخة بدماء الشهداء من كلّ جيل، ومن كلّ شبر في مغرب يبدو أن موعده مع الديمقراطية والعدالة والمساواة لم يحن بعد، كما أن فجر الحرّية فيه ما زال مخنوقاً تحت أحذية البوليس الخشنة!

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.
13.10.2025
زمن القراءة: 7 minutes

أليس في هذه البلاد رجل واحد بأنثيين، يجرؤ على الخروج من صومعة الصمت الممزوجة بالجبن والمصلحة، ليقول للملك إن خطابه كان مخيّباً لجيل هو زهرة عهده الجديد، وإنه لم يحمل جديداً، منذ اعتلى العرش، بل كان ثرثرة سياسية تذرّ الرماد في العيون. 

لا تزال المغرب تعيش على وقع أصداء الحراك الشبابي الذي هزّ شوارع البلاد في الأسبوعين الماضيين.

حركة “جيل زد 212” أعلنت تعليق احتجاجاتها مؤقتاً بعد أسبوعين من المظاهرات التي شهدتها مدن عدّة، مطالبة بإصلاحات عاجلة في قطاعي الصحّة والتعليم.

لكن هل هذا يعني أن الحراك الاحتجاجي انتهى؟

ألقى “جيل زد” بجذوة الحراك، فتلقّفها الشعب فرحاً كالوليد القادم بعد عقم! نعم، كان المخاض عسيراً ومكلفاً، ولكنّه في النهاية أنجب جيلاً بدا جليّاً أنه منتفض ورافض لكلّ هذا الاستبداد.

وحين أقول تلقّفها الشعب، فأنا أقصد، أنه ليس حراكاً فئوياً، بل هو يعني كلّ المغاربة، بمن فيهم صحافيو التشهير، ومبرراتيو السلطة، وكذلك عوائل البوليس والقوّات المساعدة الذين أوغلوا الضرب في شباب الوطن، وتفنّنوا في قمعه وسحله على الإسفلت والأرصفة.

“جيل زد” هو سيرورة متواصلة لكلّ فعل رافض شهده المغرب، من “عشرين فبراير” مرورا بـ”حراك الريف”، وانتفاضة جرادة، ومسيرة آيت بوگماز، واحتجاج الموت بأكادير، هي سيرورة تمشي بحذاء القمع، فمتى اشتدّ الخناق السلطوي، وظنّت الديكتاتورية أنها أطبقت على الشعب، شعب رفَّ من رماده بصرخة الرفض، ليقول لها أنا هنا

السلطة طبّعت مع القمع، مع “البوليس السياسي”، وتناست أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فعندما وضعت كاتم الصوت والحرّية على الجميع، وظنّت أنها مدّت رجلها بكامل طولها على ظهر البلاد والعباد، جاء “جيل زد” الذي كان خارج كلّ راداراتها، لا في الواقع ولا في المواقع، ليؤكّد أن تحت رماد القمع والذلقراطية جمراً مشتعلاً، إن لم تستجب له السلطة سيحرق ذات يوم أركانها.

لقد قال الشارع كلمته واضحة؛ وفق تصوّره لما يرى، وما يحتاج وما يتطلّب، وقال الأمن كلمته الملطّخة بدماء شهداء الحراك، ثم قالت الحكومة عبر بلاغ الأغلبية كلاماً أعجم مبهماً، عن فهمها لتطلّعات “جيل زد” ومتطلبات الشعب الذي خرج إلى الشارع، دون أن تحرّك ساكناً تجاه ما خرج الشارع من أجله. 

وبعد طول صمت ألقى الملك خطابه، فرمى الشارع بثالثة أثافي الاستبداد، حيث قال بالحرف إنه “لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية، ما دام الهدف هو تنمية البلاد وتحسين ظروف عيش المواطنين أينما كانوا”، دون أن يشير ولو تلميحاً إلى الشارع الذي خرج يطالب بتحسين ظروف عيشه، وصحّته وتعليمه، بدل هذه المشاريع التي لا تعنيه، بقدر ما تهتمّ بتنظيم كأس العالم، حتى لو كانت ستفقر الفقير وتغني أثرياء البلاد، وهكذا نخلص إلى أن العاهل المغربي بخطابه هذا، وكأنه كان يقول لنا بالحرف: “ما أريكم إلا ما أرى”. 

إنها المرّة الثانية التي تشهد البلاد فيها حراكاً شعبياً، ويخرج الملك وهو رئيس الدولة في خطاب لا يذكر فيه مطالب الشعب، كأن هذا الشعب ليس في مخطّطات ملك يتحكّم بكلّ شيء، وفي كلّ شيء.

المرّة الأولى كانت إبّان “حراك الريف”، فعندما كانت عصي الأمن ترسم خارطة القمع على أجساد شباب الريف، خرج الملك بخطاب أبعد تشخيصاً من آلام المواطنين، وشكر الأجهزة الأمنية، معلناً بذلك مباركته لطول يدها التي امتدّت لكلّ رقبة حتى خنقت الجميع، وحوّل المملكة إلى دولة بوليسية أكثر شراسة من بوليسية عهد زين العابدين بن علي في تونس.

اليوم، وعلى وقع حراك “جيل زد”، ألقى الملك محمّد السادس خطابه من قبّة البرلمان في الرباط، مفتتحاً الدورة الخريفية من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، الخطاب كان في ما يفترض أنه (مجلس الشعب) دون أن يتحدّث عن مطالب هذا الشعب وآماله، الذي احتكم إليه في إقالة الحكومة، وممارسة مهامه الدستورية بخاصّة (الفصل 59) من الدستور: “يمكن للملك أن يُعلن حالة الاستثناء بظهير، بعد استشارة كلّ من رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النوّاب، ورئيس مجلس المستشارين، ورئيس المحكمة الدستورية، وتوجيه خطاب إلى الأمّة”.

وحالة الاستثناء هنا هي الاستجابة لمطالب الشعب، عبر ربط المسؤوليّة بالمحاسبة، وطرد هذه الحكومة التي خلال فترة الانتخابات وعدت الشعب بالرفاهية، وإلا عليه أن يرميها بالحجارة، وعندما رماها بالحجارة وجد رصاص الدرك يخترق لحمه، وسيارات الشرطة تدهسه، وبدل أن يكون الملك صوتاً لشعب احتكم إليه، خرج ليخفّف الضغط عن رئيس الحكومة عزيز أخنوش؛ الملياردير الشره الذي امتصّ دماء البلاد، والذي جاء عبر انتخابات لم تكن نزيهة، فترأس حكومة محدودة الصلاحيات، ومرتعاً للفساد ونهب جيوب المواطن.

الملك الذي يمثل سلطة القصر البعيدة عن المساءلة، تقمّص في خطابه دور المحامي والمنافح عن هذه الحكومة، وعن صديقه الملياردير، ليوجّه أصابع الاتّهام لغيره، مرتدياً جبّة معارض يستخلص العبر من رداءة التسيير في البلاد وترهّله، ويلقي المسؤوليّة على الجميع، ضارباً وضع البلاد ومطالب المواطنين عرض الحائط. 

حمل هذا الخطاب الملكي نكتة سياسية سوداء، حيث  حمّل مسوؤليّة وضع البلاد للسياسيين، والبرلمانيين، والأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام، وفاعليات المجتمع المدني، والنكتة تتجلّى في حقيقة ترويض المخزن (السلطة الحاكمة) للسياسيين، وتفكيك الأحزاب التي تحوّلت إلى دكاكين سياسية، لا تجمع سوى الأمّيين والمنبطحين، والمجتمع المدني الذي هو كما نعلم مجموعة من المرتزقة تتصدّر المشهد، وتبحث عن طرف الخبز في كلّ فعل قبل المصلحة العامّة، أما الإعلاميون فهم إما منفيّون خارج البلاد، وإما يمارسون التواصل بدل الصحافة، مقابل أجور وحدها المملكة المغربية في العالم من تصرفها لهم من المال العامّ! 

“سِيدنا” كما يسمّي المغاربة الملك احتراماً له، كان يمسح المسؤوليّة بمجموعة لا ذنب لها، كان يحاكم من لا يحكم، كان يستقوي على الجزء الضعيف في بنية الدولة، بينما كان يشيد بمشاريع الدولة الحقيقية التي هو رأسها، وهي السلطة الفوقية في الدولة “le méta-pouvoir”، أو “البنية السرّية” كما أسماها المؤرّخ المغربي المعطي منجب، وكشفها بالأسماء وزير حقوق الإنسان الأسبق والمعتقل السياسي الحالي محمّد زيّان، وهي إن صحّ القول تلك السلطة التي تتحكّم وتؤثّر في السلطات الأخرى، هي سلطة تمارَس من خلف الكواليس، أو بشكل غير مباشر على من يملكون القرار الظاهر، وهي نظم عليا تتحكّم بآليات الدولة والسلطة في الدول غير الديمقراطية.

“سيدنا” قضى في الأمر الذي خرج من أجله الشعب يستفتي، ولا رادّ لقضاء الملك في المغرب، وقد أكّد جلالته بخطابه هذا، وبخطابه أيّام حراك الريف كلاماً سابقاً لنبيل بنعبد الله الأمين العامّ لحزب “التقدّم والاشتراكية”، حين قال في حوارٍ متلفز “هذه حكومة صاحب الجلالة، كما كانت الحكومات السابقة حكومات صاحب الجلالة، كما هي المقبلة حكومات صاحب الجلالة”، ليقاطعه إدريس لشكر الأمين العامّ لحزب “الاتّحاد الاشتراكي للقوّات الشعبية”، قائلا: “نحن أيضاً معارضة صاحب الجلالة”، وكأننا في مزرعة ملكية نعيش فيها رعايا لا مواطنين، نعيش كحيوانات جورج أورويل، أو ربما نحن نُعيد تجسيد روايته المستنيرة!

من أجل ذلك، بات من حقّ الشعب المغربي اليوم، وبما لا يدع مجالاً للشكّ، أن يسائل الملك عن حلّ هذا التنافي مع سلطته، الذي جاء على هيئة خطاب سامّ، لأنه ببساطة لم يعد قادراً على إخفاء مسؤوليّته المباشرة في واقع المغرب، والشعب لم يعد يردّد كما في السابق أسطوانة “الملك طيّب ومحيطه فاسد”، فقد سقطت كلّ جدران التقيّة التي ظلّ يمارسها، فالشابّ الذي اعتلى العرش بخدعة “ملك الفقراء” هو نفسه الكهل الذي أصبح يعرفُ بـ”الملك المفترس”. 

وعليه أن يعي أن كلّ مظاهر الديمقراطية وشكليّاتها الصورية، ورغم ممارسات الشعب لآلياتها من انتخابات وتصويت وخطب وشعارات، فإن المواطن المغربي في عمق وعيه الجمعي، ما زال يستحضر صورة الملك في كلّ شيء، ويربط به كلّ صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياته، بل ويحتمي به من تهم التخوين حين ينتقد أو يطالب بحقّه. 

فهل يستطيع الملك اليوم أن يقنع مواطناً ظلّ يردّد طوال حياته: “نحن لا نعرف سوى الملك”، بأن هذا الملك لا يملك له من أمر المسؤولين شيئاً؟ هل يملك هذا الملك أن يصارح شعبه بحقيقة أنه غير مهتمّ بكلّ هذا؟ وأنه يفضّل رحلات راحته وعلاجه في الخارج، بدل إيجاد حلّ لمشاكل المغرب الغارق في الفساد؛ ففي مؤشّر مدركات الفساد (Corruption Perceptions Index) لـ 2024، المغرب حصل على نحو  37 من أصل 100، وهو أقلّ من المتوسط العربي. والمغرب دولة مقيّدة بالبيروقراطية المترهّلة، التي تسبح في تعليم فاشل (المرتبة 98 من بين 141 دولة)، وفي صحّة قاتلة (المرتبة 131 من أصل 141 دولة)، وفي عدالة عرجاء (المرتبة 92 من أصل 142 دولة)، و(المرتبة 120 من بين 193 دولة) في مؤشّر التنمية.

وبعد كلّ هذا وذك، يختتم الملك خطابه بآية قرآنية من سورة الزلزلة: “فمن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يره”، في واحدة من أكثر تجليّات الحكم الثيوقراطي المطلق، ومن صور اللا مبالاة بحقيقة وضع البلاد، التي زلزلتها المطالب بإصلاح المصائب السياسية، في بلاد سبط النبي، الذي يتقوّل الأحاديث على جدّه المزعوم، بينما يقرأ وزراؤه القرآن حديثاً.

أليس في هذه البلاد رجل واحد بأنثيين، يجرؤ على الخروج من صومعة الصمت الممزوجة بالجبن والمصلحة، ليقول للملك إن خطابه كان مخيّباً لجيل هو زهرة عهده الجديد، وإنه لم يحمل جديداً، منذ اعتلى العرش، بل كان ثرثرة سياسية تذرّ الرماد في العيون. 

إن كلّ ذلك هو تجلٍ واضح لوجدان الشعب، الواقع تحت وطأة الظلم و”الحگرة”، والفساد المنهجي، واليأس القاتل، وبين فرض السلطوية لاستبدادها بقوّة القبضة الأمنية المستقطرة من أيدي الشيطان، التي قُدّ قلبها من حجر أصمّ، وهي القبضة الملطّخة بدماء الشهداء من كلّ جيل، ومن كلّ شبر في مغرب يبدو أن موعده مع الديمقراطية والعدالة والمساواة لم يحن بعد، كما أن فجر الحرّية فيه ما زال مخنوقاً تحت أحذية البوليس الخشنة!