fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

العراق: استراتيجيات “انتقامية” من  السكان السنة في يثرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد انقشاع دخان حرب تحرير ناحية يثرب من سيطرة “داعش” في 27 كانون الأول/ديسمبر 2014، سيطر عناصر “الحشد الشعبي” الشيعي على الأرض؛ ومنعوا عودة السنة من أبناء المنطقة إليها بادئ الأمر، متهمين إياهم بالتعاون مع التنظيم وصادر ممتلكاتهم، وبعد مفاوضات مطولة سمحوا بعودة قسم من السكان فقط.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أُنجز التحقيق تحت إشراف شبكة “نيريج” ضمن مشروع “قريب” المدعوم من  CFI

نحو عشر سنوات مرت، وما زال ميثم (50 سنة) الموظف الحكومي، يعيش بعيداً عن منزله في ناحية يثرب في قضاء بلد (85 كلم شمال بغداد) الذي نزح عنه عقب سيطرة تنظيم “داعش” على المنطقة في حزيران/يونيو 2014، رحل التنظيم قبل تسع سنوات، لكن الفصائل الشيعية المسلحة التي سيطرت على الأرض، ما زالت تمنع آلاف السكان العرب السنة، من العودة واستعادة حقولهم ومنازلهم وحياتهم.

وبلد هي منطقة ذات غالبية شيعية، لكنها تضم نواحي سنية، وتتبع إدارياً لمحافظة صلاح الدين المختلطة إثنياً، وتضم مزارات مقدسة لدى الشيعة، وسط مناطق ذات غالبية سنية، مما جعلها ساحة صراع طائفي منذ 2003، وهو ما أبقى فعلياً عشرات الآلاف من سكانها السنة نازحين منذ صيف 2014.

كان ميثم؛ الذي رفض كشف عنوانه الوظيفي الدقيق خوفاً من الملاحقة، يسكن في قرية الشهابي السنية في الناحية، قبل أن ينزح مع عائلته إلى السليمانية في إقليم كردستان ويستقر فيها، هرباً من التنظيم الذي سيطر من دون مقاومة وخلال أسابيع على مناطق واسعة من المحافظة.

وبسبب التزامه بوظيفته، عاد ميثم إلى المحافظة بعد تحريرها بالكامل أواخر سنة 2016، غير أنه فوجئ بالأوضاع غير المؤاتية على الأرض، إذ منعت قوات “الحشد الشعبي” المسيطرة على المكان، عودته وآلاف غيره إلى قراهم، فاضطر إلى السكن مع عائلته في قضاء الدجيل التابع كذلك لمحافظة صلاح الدين. 

يقول وهو ينظر شمالاً نحو الأفق الممتد أمامه: “أسكن الآن على بعد عشرة كيلومترات عن منزلي الذي لا أستطيع الوصول إليه”، يأخذ نفساً عميقاً، قبل أن يضيف: “نحن ندفع ثمن جرائم لم نقترفها، لسنا إرهابيين كي يعاقبونا على هذا النحو، حتى القلة القليلة التي سُمح لها بالعودة، تعيش أوضاعاً مزرية بلا ماء ولا كهرباء”، ويتابع بنبرة حادة: “قناة الري الوحيدة في الناحية التي كانت تسقي أراضينا تم حرف مسارها، لتموت حقولنا، وكأنهم يريدون انتزاع كل جذورنا من هناك”.

تبلغ مساحة ناحية يثرب ذات الطابع الزراعي حوالي 446كم²، وكان عدد سكانها يفوق  75 ألف نسمة قبل النزوح في 2014، غالبيتهم من العرب السنة، وينتمون إلى عشائر العزة والعبيد والبو حشمة وهي من فروع قبيلة بني تميم، وكان فيها سكان من الشيعة كذلك، ينتمون إلى عشيرتي البو فدعوس التميمية والبو سعود.

إثر سيطرة “داعش” على الناحية، نزحت آلاف الأسر نحو مناطق أخرى، كقضاء الضلوعية ومناطق مجاورة ظلت آمنة في المحافظة وخارجها، بعيداً عن سيطرة التنظيم. 

وبعد انقشاع دخان حرب تحرير ناحية يثرب من سيطرة “داعش” في 27 كانون الأول/ديسمبر  2014، سيطر عناصر “الحشد الشعبي” الشيعي على الأرض؛ وكثير منهم من أبناء المنطقة، فمنعوا عودة السنة من أبناء المنطقة إليها بادئ الأمر، متهمين إياهم بالتعاون مع التنظيم الذي قتل العديد من أبناء الشيعة وصادر ممتلكاتهم، وبعد مفاوضات مطولة سمحوا بعودة قسم منهم فقط.

عودة مدفوعة الثمن!

منذ تحرير ناحية يثرب وسيطرة قوات “الحشد الشعبي” عليها، تحاول أطراف سياسية ردم الهوة التي أحدثها التنظيم، بين مكونات المجتمع في الناحية (السنة والشيعة) وتطالب بعودة العائلات النازحة والمهجرة غير المرتبطة بالتنظيم، التي هربت منه إلى مناطقها.

قسم من تلك المطالب يصفها نشطاء مدنيون وأهالي الناحية بأنها “لا تتضمن خطوات وتحركات عملية بل هي دعائية ترمي لتحقيق أهداف سياسية لأصحابها، تنطفئ جذوتها بانتهاء الانتخابات المحلية أو البرلمانية، في حين أنتجت مطالبات أخرى عودة ما يقرب من نصف سكان ناحية يثرب من السنة إلى مناطقهم”، وكان ذلك نتيجة حركة دؤوبة لعشرات من المسؤولين والسياسيين العراقيين ووسطاء وممثلين أمميين وحتى قادة فصائل، قاموا بين 2015 و 2018 بزيارات مكوكية بين زعماء العشائر في الناحية، محاولين التوصل إلى مصالحة شاملة وطي صفحة مرحلة “داعش”.

ففي عام 2015 حاول محافظ صلاح الدين الأسبق رائد الجبوري، إيجاد حل للأزمة بتخصيصه مبلغ 4 مليارات دينار عراقي (ما يعادل 3.36 مليون دولار) من ميزانية المحافظة، لضحايا من الشيعة في ناحية يثرب كتسوية وتعويض، غير أن مستحقيها استلموا جزءاً منها فقط، وبذلك لم تجد تلك الخطوة نفعاً. 

وفي العاشر من أيار/مايو 2016، تم توقيع ميثاق شرف بين العشائر المختلفة برعاية ديوان محافظة صلاح الدين، وإشراف ديوان الوقف السني العراقي، يسمح بعودة نازحي ناحية يثرب، مع تعهدهم بعدم إقامة أي دعاوى قضائية ضد الجيش و”الحشد الشعبي” وأهالي المنطقة من الشيعة عن ضحاياهم وخسائرهم، لكن الأمور لم تجر كما خطط لها، نتيجة عدم رضا أطراف في العشائر الشيعية، التي لم تسمح للنازحين بالعودة، مستعينة في ذلك بسلاح “الحشد الشعبي” وسطوته.

وفي أواخر عام 2017 تمت صفقة أخرى، إذ قامت عشائر سنّية بجمع مبلغ تعويضي آخر قدره 4 مليارات دينار (كل عائلة سنية دفعت 500 ألف دينار- تعادل 380 دولاراً) لتهدئة الأوضاع، تسمى بـ”الرضوة” لقاء عودتهم إلى مناطقهم.

ودفع هذه المبالغ وفقاً لمطلعين على الشأن العشائري لا يعني”إقراراً لمن يدفع بأنه مذنب، أو أنه كان متورطاً في ارتكاب جرائم بالتعاون مع داعش ضد الشيعة في المنطقة” بل هي تسوية عشائرية، أما المتورطون في الانتماء إلى “داعش” وإرتكاب جرائم، فقد أقيمت بحقهم دعاوى في المحاكم أو تم اعتقالهم. 

المحاولات تلك بمجملها على أية حال، أثمرت وبعد سنوات، عودة 30 ألف سنّي، ولكن الكثير من العائدين وجدوا بيوتهم مهدمة وحقولهم محروقة، وعليهم أن يبدأوا حياتهم من الصفر، ومن دون أي مساعدات تعويضية، فيما بقي آلاف آخرون ينتظرون الموافقات الأمنية، التي لم تأت إلى الآن، ويجب أن تسبقها تسويات جديدة.

وتتضارب الأرقام بشأن النازحين المتبقين، ويقدر نشطاء وحقوقيون مطلعون على شؤون المنطقة، أعدادهم بـ 15 ألفاً إلى 30 ألفاً، معظمهم يسكنون في إقليم كردستان حالياً.

بعضهم كانوا في مخيمات النزوح التي قررت وزارة الهجرة والمهجرين إغلاقها كلياً في نهاية شهر تموز/ يوليو 2024، كمخيم “آشتي” في السليمانية الذي ودع في الأسبوع الثالث من أيار/مايو 2024 ما مجموعه 935 نازحاً، بعضهم من ناحية يثرب، والآخرون من قضائي بلد وسنجار، بعد تسليم كل عائلة عائدة مبلغ 4 مليون دينار (أكثر من 3000 دولار) وفقاً لوزيرة الهجرة والمهجرين إيفان فائق جبرو.

معدة التحقيق، وجهت أسئلة بشأن مصير النازحين من ناحية يثرب غير القادرين على العودة بسبب عدم تسوية ملفاتهم، إلى مسؤولين محليين وأعضاء في مجلس النواب العراقي من ممثلي محافظة صلاح الدين، إلا أن غالبيتهم فضل عدم الإجابة في الوقت الحالي “نظراً لحساسية الأمر” على حد تعبير البعض منهم، ورغبتهم في أن يقوم سكان المنطقة بأنفسهم بتسوية الأمر في ما بينهم.

مناطق محرمة وبساتين محترقة

يسيطر اللواء 41 من “الحشد الشعبي” التابع ل”عصائب أهل الحق” بقيادة قيس الخزعلي، على الملف الأمني في ناحية يثرب، وتمنع نقاط التفتيش التابعة له، عودة أي من السكان النازحين من مناطق عدة، بينها التي تعرف بـ”أحباب تل الذهب”، وكذلك المنطقة التي تشكل  مقاطعة تعرف باسم “11 كشكرية” وتقع بين بلد والدجيل، فضلاً عن مناطق “قناة 34″، وأغلبها بساتين تعرضت للحرق وبيوت أصحابها للهدم.

صالح حسن (59 سنة) يقع منزله الريفي في قرية البو بهلول، الواقعة ضمن المنطقة المحرمة بين مناطق انتشار السنة والشيعة في ناحية يثرب، يقول: “حين دخل داعش، كان أهل قريتنا من أوائل الذين نزحوا، لم يبق أحد في القرية حينها، وبعد التحرير حاولنا الرجوع إلى بيوتنا وأراضينا، لكننا مُنعنا، وتفاجأنا بأن بساتيننا محروقة”.

فيديو يُظهر حرق بساتين ومنازل في ناحية يثرب

ويقدر بعض من أهالي يثرب المنطقة المحرمة، التي تمنع “العصائب” عودة السنة إليها بـ8 آلاف دونم، وتضم مقاطعتي “11 كشكرية والمدورة” ومساحتهما تقارب 8 آلاف دونم.

يملك حسن 125 دونماً من الأراضي الزراعية، تقع على حدود “قناة 34” الإروائية في الناحية، ضمنها 24 دونماً مزروعة بالحمضيات، وكانت أرضه تدر عليه ما يقرب من 50 ألف دولار سنوياً، يجنيها من بيعه محاصيل الحمضيات والحنطة والخضروات الورقية.

يقول مغالباً دموعه: “لكنني أعمل الآن في البناء وولدي عامل نظافة”، ثم يضيف بحسرة: “العشائر الشيعية حرفت مسار القناة الإروائية نحو أراضيها ومنعت المياه عن أراضينا، أشجارنا ماتت وأحرقت وأراضينا أصبحت جرداء، باستثناء تلك التي وضعوا أيديهم عليها”.

استولت تلك العشائر بحسب رواية حسن على 17 دونماً من أرضه، وباتت تزرعها وتبيع ما تُنتجه: “محاولاتي العديدة للوصول الى أرضي باءت بالفشل، ولم أستطع الحصول حتى على صورة لمنزلي المهدم، على الرغم من تمكني من رؤيته من بعيد عند آخر نقطة تفتيش يمكنني بلوغها”، ويضيف بعد لحظات من الصمت: “بتنا نخشى السؤال عنها، خوفاً من اتهامنا بالعمل مع داعش وملاحقتنا”.

لا يستطيع حسن الوصول إلى منطقته إلا بتصريح دخول يتم إصداره مقابل 500 ألف دينار من مراكز الشرطة ونقاط التفتيش: “أنا لا أملك هذا المبلغ، وتأكدتُ عن طريق أصدقائي الذين عادوا إلى بيوتهم أن العشائر الشيعية استولت على جزء من الأراضي، التي مازال الماء يصل إليها، من ضمنها قسم من أرضي”، يقول متحسراً. 

ووفقاً لشعبة زراعة يثرب، فإن 43183 دونماً في الناحية كانت مغروسة وتعرضت للحرق والتجريف من أصل 63589 دونماً صالحة للزراعة، من ضمنها أراض ضمن المناطق المحرمة التي لا يمكن لأحد دخولها، وهي مقاطعة “11 كشكرية” التي أحرقت جميع أراضيها الزراعية وتبلغ مساحتها 4611 دونماً، ومقاطعة “7 المدورة” التي حرم  الدخول إليها وأحرق منها 1105 دونماً من أصل 2838 دونم.

جميع تلك الأراضي المحروقة تعود ملكيتها للعرب السنة، وكانت تحوي ما يقرب خمسة ملايين ونصف المليون شجرة، وتُنتج سنوياً قرابة 270 ألف طن من مختلف الثمار.

ويتهم حسن أفراداً من العشائر الشيعية في المنطقة بتجريف بستانه، ويقول: “بعضهم في يثرب انتموا إلى الحشد الشعبي وسيطروا على المنطقة، لذا فهم يفعلون ما يشاءون لتحقيق مصالح شخصية، ولا أحد يحاسبهم”.

دعاوى كيدية تمنع العودة

محمد علي (31 عاماً) ينتمي إلى عشيرة البو حشمة السنية، كان يسكن في قرية الفدعوس، ذات الغالبية الشيعية في ناحية يثرب، نزح مع عائلته إلى كركوك أواخر 2014، بعد دخول “الحشد الشعبي” إلى الناحية وطرد تنظيم “داعش” منها، وكان وقتها طالباً في جامعة سامراء.

وبعد استعادة الجيش و”الحشد الشعبي” المنطقة وسيطرة الأخير عليها “بدأت عمليات التصفية ضد كل من لم يخرج من القرية مع دخول داعش إليها في حزيران 2014، إلى جانب حرق البساتين والأراضي التابعة للسنة، ولو أني لم أكن قد تركت منزلي في ذلك الحين، لكنتُ في عداد الموتى الآن”، يقول محمد علي.

استقر الشاب مع عائلته في كركوك لنحو عامين، على أمل العودة إلى قريته في أقرب فرصة متاحة، لكن شكوى تقدمت بها امرأة شيعية تنتمي إلى القرية ذاتها في 2017، إضافة إلى شكوى أخرى تقدم بها ابن عمها، تضمنت اتهامات بتنفيذه عملاً إرهابياً في القرية، حالت دون إكمال دراسته كما كان يأمل في جامعة كركوك التي انتقل إليها، هذا فضلاً عن استبعاد عودته إلى منطقته.

يقول بحرقة: “تلك السيدة كانت جارة لأسرتي لأكثر من 50 عاماً، أي حتى قبل أن أولد، لكن أفراداً ينتمون إلى داعش قتلوا ابنها، فباتت ترى كل السنة من الدواعش، وتقدمت بشكوى ضد 15 من أقاربي، من ضمنهم أبي وجدي، ودفع كل منا 5 آلاف دولار لها، لكن المشكلة لم تحل”.

بعد علمه بالشكاوى المقدمة ضده، توجه محمد علي مع عائلته إلى السليمانية، وفي سنة 2021 أخذ يرسل من هناك وسطاء إلى السيدة المشتكية لإنهاء الملف، وتم التوصل؛ وفقاً لما يقول، إلى دفع مبلغ مقداره 15 ألف دولار، لتتنازل عن شكواها ضد والده وجده إضافة إليه.

تنازلت السيدة بالفعل مع ابن عمها عن شكواهما، لكن ذلك لم يغير شيئاً، إذ اكتشف محمد علي أن هناك دعوى أخرى مقامة ضد عائلته من قبل شخص آخر ينتمي إلى عشيرة البو فدعوس ذاتها، يتهمهم فيها بالانضمام إلى صفوف تنظيم “داعش”.

يعمل محمد علي يعمل الآن في قطاع البناء “من دون مستقبل واضح الملامح” بحسب تعبيره، وما زال يسدد ما في ذمته من ديون تسببت بها الدعاوى التي يصفها بالكيدية، ويقول: “المال الذي دفعناه كرضوة اقترضناه، وأنا أسدده لغاية الآن من دون نتيجة، فأنا ووالدي ما زلنا مطلوبين للتحقيق، ونخشى المثول أمام المحكمة فيتم تغييبنا بدون عودة، أما جدي فقد مات قبل أشهر من دون أن نستطيع دفنه في مقبرة العائلة في صلاح الدين، بسبب الدعاوى الكيدية”.

محامٍ في محكمة استئناف صلاح الدين، فضل عدم الإشارة إلى اسمه، ذكر أن هناك “ما يقربُ من 700 دعوى مرفوعة من قبل مشتكين بحق أفراد من عوائل سنية، يُنتظر البت فيها من قبل المحكمة، وهي تشمل تهماً بالانتماء إلى داعش أو تنفيذ عمليات إرهابية”.

ويقول: “في بعض اللوائح هناك تهم مشابهة ضد 500 شخص دفعة واحدة”، ويضيف: “استخدمت الفصائل التي سيطرت على استخبارات جنوب صلاح الدين بعد خروج داعش، تهمة الإرهاب لما يمكن وصفه بتطهير مناطق محددة للسنة من كامل ساكنيها، وكثيرون لايجرؤون على الامتثال أمام مكاتب التحقيق خشية التعذيب أو التغييب أو إلصاق التهمة بهم”.

تشير مصادر غير رسمية، إلى أن هنالك ما يربو عن 2800 شخصاً من أهالي صلاح الدين، مغيبون بنحو قسري منذ تحرير مناطقها من قبضة تنظيم “داعش”، قسمٌ منهم من ناحية يثرب، والكثير منهم تم اعتقاله من قبل قوات “الحشد الشعبي” ولم يعد ذووهم يعلمون شيئاً عن مصائرهم. 

حدث الأمر ذاته في ناحية “جرف الصخر” (70 كلم جنوب بغداد) التي تتبع لمحافظة بابل، وتقع شمال مدينة كربلاء الشيعية المقدسة، والتي يَعِدُ القادة السنة منذ سنوات “سكانها الأصليين” بالعودة إليها من دون أن يتحقق ذلك، بعد أن تحولت إلى قاعدة للجماعات المسلحة الشيعية، التي اتهمت سكانها من السنة، بارتكاب أعمال قتل بحق الشيعة، ودعم المجموعات الإرهابية، والتغطية على تحركاتها طوال سنوات الحرب الطائفية.

وكانت عودة سكان تلك المناطق وإقرار قانون العفو العام، أحد بنود الاتفاق السياسي الذي تشكلت بموجبه حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في تشرين الأول/ نوفمبر 2022، لكنها لم تنفذ إلى الآن.

محاولات لتشييع الناحية

ومثلما توجه اتهامات للفصائل المسلحة في “جرف الصخر” بمنع السكان من العودة إليها تنفيذاً “لعملية تغيير ديمغرافي” تتمثل في إبعاد العرب السنة من محيط محافظتي كربلاء والنجف، يحصل الأمر في بعض مناطق محافظة صلاح الدين.

يؤكد المحامي في محكمة استئناف ص

لاح الدين (طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية) محاولات تجري لتشييع عدة مناطق في صلاح الدين من أجل بسط النفوذ، ويقول: “القوى السياسية الشيعية تسيطر على عدة مناطق مثل سامراء ويثرب والدجيل، وقد جندت فصائل مسلحة ودفعت بعض العشائر الشيعية في يثرب على سبيل المثال، إلى رفع دعاوى كيدية ضد أفراد سنة في المنطقة، بغية منعهم من العودة، بما يضمن تشييع يثرب مستقبلاً وإبقاء سيطرتهم عليها”.

يوافقه في ذلك السياسي السني عبد العزيز المعماري الذي يرى أن “سيطرة فصيل شيعي مسلح على منطقة سنية، لها أبعاد طائفية وطموح بتمدد الحاكمية الشيعية إلى مناطق السنة، وهذا نهج معلن لدى الأحزاب الشيعية التي تمتلك جناحاً مسلحاً” على حد تعبيره. 

ويعتبر أن: “الفصائل المسلحة فقدت قاعدتها الشعبية في مكان نشأتها جنوب البلاد في السنوات الأخيرة، ويستحيل أن تتشكل قاعدة شعبية في أي مكان في العالم، لفصيل مسلح يسيطر بالقوة على منطقة وينتهج نهجاً طائفياً فيها، ويستند إلى الترهيب وقوة السلاح لفرض نفسه، وهذا ما نراه قبيل كل انتخابات في المناطق السنية التي فيها حضور لفصائل مسلحة”.

ويرى المعماري أن الاتفاقات والمساومات السياسية من قبل “أطراف سنية خاضعة” قفزت عن الاستحقاقات، ومستعدة “لإضعاف التمثيل السني مقابل منافع شخصية وحزبية”، غيرت خارطة التشكيلات السياسية والمجتمعية في المحافظة.

العودة إلى المصير المجهول

حددت حكومة محمد شياع السوداني في 30 تموز/يوليو 2024 موعداً لإغلاق كل مخيمات النازحين أينما وجدت في البلاد، وأطلقت على المشروع اسم “العودة الطوعية”، غير أن “أحمد.ع” (29 عاماً) الذي يسكن في مخيم “آشتي” في السليمانية مع أسرته يرى بأنها “عودة قسرية”، ويقول: “كردستان أوقفت منحنا موافقات السكن خارج المخيمات بعد قرار إغلاق المخيمات، مما سيجبرنا على العودة إلى مناطقنا التي لا نستطيع الوصول إليها بالأساس”.

كان أحمد يسكن في قرية تطل على “قناة 34” الإروائية، وهي من بين القرى المحرمة، وبالرغم من أن والده يملك بستاناً فيها بمساحة 20 دونماً كانت مزروعة بالعنب، إلا أنه لا يستطيع الوصول إليها، ويسأل بحيرة: “أين سنذهب الآن، إنها عملية تشريد لا إعادة طوعية، لمجرد إعلان تحقيق نجاحات وهمية.. فليعيدوا إلينا أراضينا لنعود إليها، بهذا القرار ليس أمامنا سوى العودة إلى صلاح الدين خارج يثرب، لنظل مشردين في مكان ما هناك ومواجهة مصيرنا المجهول”.

أحمد الذي كانت أسرته تعتمد على المساعدات في كردستان، يسأل: “ماذا سأعمل في صلاح الدين، وكيف سأدفع إيجار المنزل، وأؤمن مصاريف العائلة؟”.

ما يجده أحمد آخر الحلول، قام حمزة عادل (45 عاماً) بتجربته من دون نتيجة مرضية، إذ ترك مخيم “عربت” في السليمانية، وسكن في بيت يعود لأهل زوجته في منطقة الدجيل شمال بغداد في العام 2020، منهياً بذلك ست سنوات من النزوح، تاركاً خلفه بيته الواقع في المناطق المحرمة في ناحية يثرب.

لكنه وجد صعوبة في العيش تحت سلطة “الحشد الشعبي”: “يتعاملون معنا كإرهابيين، من المتوقع أن يداهموا منزلك في أي لحظة للتفتيش، كما أن فرص العمل شحيحة، ومن ينوي أن يفتتح مشروعاً عليه أن يتقاسم أرباحه؛ إن حقق شيئاً، مع الحشد الشعبي”.

بسبب ذلك عاد مجدداً إلى السليمانية نهاية العام 2021، واستأجر بيتاً فيها، لأن إدارة المخيم الذي كان فيه من قبل، رفضت استقباله مع عائلته الكبيرة العدد، كونها اعتبرته عائداً، فشطبته من سجلاتها: “أعمل لتدبر تكاليف المعيشة مع الإيجار، وننتظر معجزة تعيدنا إلى يثرب”. 

العديد من العائلات التي غادرت مخيم “آشتي” في السليمانية، والتي تركته مكرهةً، عادت إلى ناحية يثرب، لكن لم يُسمح لها بالعودة إلى قراها السابقة في المنطقة التي تُعرف بالمحرمة، فاضطروا إلى نصب خيمهم خلف ساتر يفصلهم عنها، يقول أحد شاغلي تلك الخيام لمعدة التحقيق: “جلبنا معنا خيمنا من السليمانية، فنحن متأكدون من عدم سماح الحشد الشعبي لنا بدخول مناطقنا، نحن هنا نقارب الـ50 عائلة، يستطيع بعضنا رؤية منزله، لكن من يتجرأ على عبور الساتر الفاصل بين المخيم الجديد والمناطق المحرمة، سيكون هدفاً لبنادقهم”.

لا تلتفت الجهات الحكومية إلى معوقات العودة، وشكاوى المحتجين ومناشداتهم، سواء النازحين العرب من مناطق في محافظات صلاح الدين ونينوى وديالى، أو النازحين الأيزيديين والكرد من سنجار وسهل نينوى.

وتشير البيانات والتصريحات الحكومية، إلى استمرار عمليات “العودة الطوعية” بوتيرة متصاعدة، وأعلنت “لجنة إعادة النازحين” في 23 نيسان/أبريل 2024 عودة 350 عائلة إلى ناحية يثرب جنوبي صلاح الدين،

بينما حدد عضو مجلس النواب عن المحافظة محمد البلداوي، مجموع العائدين إلى ناحية يثرب وأطراف الدجيل بنحو 2500 شخصاً، وأشار إلى ما أسماه الركائز التي سهلت عودة الأسر “تعاون أبناء العشائر لحل النزاعات في ما بينها، وإصرار المواطنين على العودة”. 

فيديو زيارة النائب ناسك مهدي الزنكي عائلة من يثرب في مخيم! 

لكن واقع الحال يشير إلى أن آلافاً من أبناء ناحية يثرب من السنة، لا يستطيعون العودة إليها، في ظل سيطرة فصيل شيعي مسلح على منطقة غالبيتها من العرب السنة، ومنعه أهاليها من العودة، مما يثير التساؤل عن السبب والهدف، وهو ما يجيب عنه الباحث المتخصص في الشؤون الإستراتيجية والأمنية فراس إلياس ب”فصل المناطق وعزلها”، محدداً “أهدافاً قصيرة الأمد وأخرى طويلة الأمد”.

ويقول إلياس: “ما تفعله عصائب أهل الحق في ناحية يثرب، هو جزء من استراتيجية تمارسها الفصائل المسلحة في أغلب المناطق، التي تم تحريرها من سيطرة داعش، وتتمثل بإعادة تشكيل تلك المناطق على أساس طائفي أو اقتصادي أو سياسي”.

ويوضح: “الهدف مما يحدث في صلاح الدين، هو خلق مناطق فراغ تفصل شمال المحافظة عن جنوبها، كون الجنوب يمثل تكتلاً شيعياً وسط محيط سني، وهذا هو الهدف قصير المدى، أما ما يتم التخطيط له للمستقبل، فهو إعلان محافظة شيعية تعزل بغداد عن صلاح الدين ومركزها سامراء”.

وينبه إلى تعامل الأحزاب الحاكمة في صلاح الدين مع الفصائل المسلحة، بأنه قبول بالأمر الواقع: “يتجنبون استفزازها لئلا تفرض سيطرتها على مناطق أخرى، كون الواقع الذي تفرضه الفصائل، أكبر من أن تجابهه القوى السنية الضعيفة في صلاح الدين بالرفض”.

بارقة أمل

يعتقد  نشطاء مدنيون وسياسيون، أن فض النزاعات التي تسبب بها تنظيم “داعش”، وعودة النازحين إلى مناطقهم بما فيها ناحية يثرب، يعتمد بالدرجة الأساس على تفاهمات عشائر المنطقة، وهذا تحديداً ما يقوم به بعضها هناك، إذ عُقد في الناحية يوم 17 أيار/مايو 2024، مؤتمر حمل شعار “التعايش السلمي سبيلنا لبناء الوطن بتكاتف شيوخنا ومثقفينا نحافظ على وحدة العراق”.

رعت هذا المؤتمر عشيرة البو سلطان، بمشاركة شيوخ عشائر من السنة والشيعة وقادة أمنيين، ونوقشت فيه ثلاثة محاور رئيسية هي: “دعم وإسناد البرناج الحكومي للمصالحة، وبسط الأمن ونبذ الإرهاب وإعادة الإعمار، والتعاون المشترك لنبذ الخلافات”. 

ذكر النائب الفني لمحافظ صلاح الدين مفيد البلداوي أن الحكومة المحلية ستوفر لناحية يثرب “كل الخدمات الأمنية واللوجستية والصحية والتربوية”، من أجل إعادة الاستقرار، وأن هناك العديد من ورش العمل والمؤتمرات المشابهة، التي ستعقد خلال الفترة المقبلة لتعزيز التعايش السلمي والمصالحة في الناحية.

حضر المؤتمر أيضاً آمر الفوج الثالث في اللواء 41 ل”الحشد الشعبي” الذي يسيطر على الأرض في ناحية يثرب، وقد أشار بنحو ضمني، إلى عدم السماح بعودة غير المرغوبين فيهم إلى الناحية من خلال قوله: “ما زال هناك لواء 41 مع الأخوة في القوات الأمنية ماسكين لهذه الأرض، فسوف نفوت الفرصة على كل من تسول نفسه هذا الأمان، الذي تحقق بفضل دماء الشهداء التي روت هذه الأرض ….”.

فيديو آمر الفوج الثالث في اللواء41 للحشد المسيطر على ناحية يثرب

هناك من يشكك في جدوى “مؤتمر التعايش السلمي” هذا، ويستدل على ذلك بإرسال محافظ صلاح الدين معاونه الفني لينوب عنه، وكذلك قائد اللواء 41 للحشد، الذي أرسل آمر فوج ممثلاً عنه ، فضلاً عن غياب وجوه عشائرية بارزة. 

أمجد ( 33 عاماً) خريج جامعي، عاد إلى ناحية يثرب قبل سبعة أشهر، بعد أكثر من ثماني سنوات من النزوح، قضى معظمها في محافظة السليمانية، يرى بدوره أن مؤتمرات المصالحة العشائرية غير مجدية “إذا تقاطعت مع مصالح القوى النافذة”، مبيناً أن “السنة الذين كانوا يشكلون الأغلبية في الناحية، أصبحوا اليوم أقلية، ويعيشون قلقاً دائماً من احتمالات الاتهام والملاحقة مع تنامي النفوذ الشيعي، سواءً للعشائر أو للحشد الشعبي الذي يمسك الأرض”. 

ويقول بأسف: “أي خلاف عادي يمكن أن يقع بيني وبين أي شخص آخر في المنطقة له ارتباطات بالحشد، يعني أن تلصق بي تهمة الانتماء إلى داعش، وقد أفقد حياتي بسبب ذلك، لذا نقدم التنازلات باستمرار، على الرغم من أننا من أكثر المتضررين من داعش، الذي قتل العديد من أقاربي وسلب ممتلكاتنا”.

يفكر قليلاً ثم يسأل: “من كان منتمياً لداعش أو موالياً له معروف، ونحن قبل الآخرين ندعو إلى محاسبته قضائياً، بدل استغلال الملف سياسياً لأهداف طائفية، واقتصادياً لمصالح خاصة، والمساس بالأبرياء أمثالنا”.

ويستدرك: “الحكومة والمؤسسات ضعيفة والحاكمون هنا هم فصائل، لذلك سندفع نحن وأبناؤنا وحتى أحفادنا، ضريبة موالاة البعض من ناحية يثرب قبل عشر سنوات لداعش، أما مؤتمرات التعايش فهي للإعلام فقط، والإيهام أن هناك تسامحاً وتآلفاً، برغم أنه لا وجود لهما على الأرض”.

تم استبدال أسماء كل من أدلى بشهادة من أبناء ناحية يثرب حفاظاً على سلامتهم. 

10.06.2024
زمن القراءة: 16 minutes

بعد انقشاع دخان حرب تحرير ناحية يثرب من سيطرة “داعش” في 27 كانون الأول/ديسمبر 2014، سيطر عناصر “الحشد الشعبي” الشيعي على الأرض؛ ومنعوا عودة السنة من أبناء المنطقة إليها بادئ الأمر، متهمين إياهم بالتعاون مع التنظيم وصادر ممتلكاتهم، وبعد مفاوضات مطولة سمحوا بعودة قسم من السكان فقط.

أُنجز التحقيق تحت إشراف شبكة “نيريج” ضمن مشروع “قريب” المدعوم من  CFI

نحو عشر سنوات مرت، وما زال ميثم (50 سنة) الموظف الحكومي، يعيش بعيداً عن منزله في ناحية يثرب في قضاء بلد (85 كلم شمال بغداد) الذي نزح عنه عقب سيطرة تنظيم “داعش” على المنطقة في حزيران/يونيو 2014، رحل التنظيم قبل تسع سنوات، لكن الفصائل الشيعية المسلحة التي سيطرت على الأرض، ما زالت تمنع آلاف السكان العرب السنة، من العودة واستعادة حقولهم ومنازلهم وحياتهم.

وبلد هي منطقة ذات غالبية شيعية، لكنها تضم نواحي سنية، وتتبع إدارياً لمحافظة صلاح الدين المختلطة إثنياً، وتضم مزارات مقدسة لدى الشيعة، وسط مناطق ذات غالبية سنية، مما جعلها ساحة صراع طائفي منذ 2003، وهو ما أبقى فعلياً عشرات الآلاف من سكانها السنة نازحين منذ صيف 2014.

كان ميثم؛ الذي رفض كشف عنوانه الوظيفي الدقيق خوفاً من الملاحقة، يسكن في قرية الشهابي السنية في الناحية، قبل أن ينزح مع عائلته إلى السليمانية في إقليم كردستان ويستقر فيها، هرباً من التنظيم الذي سيطر من دون مقاومة وخلال أسابيع على مناطق واسعة من المحافظة.

وبسبب التزامه بوظيفته، عاد ميثم إلى المحافظة بعد تحريرها بالكامل أواخر سنة 2016، غير أنه فوجئ بالأوضاع غير المؤاتية على الأرض، إذ منعت قوات “الحشد الشعبي” المسيطرة على المكان، عودته وآلاف غيره إلى قراهم، فاضطر إلى السكن مع عائلته في قضاء الدجيل التابع كذلك لمحافظة صلاح الدين. 

يقول وهو ينظر شمالاً نحو الأفق الممتد أمامه: “أسكن الآن على بعد عشرة كيلومترات عن منزلي الذي لا أستطيع الوصول إليه”، يأخذ نفساً عميقاً، قبل أن يضيف: “نحن ندفع ثمن جرائم لم نقترفها، لسنا إرهابيين كي يعاقبونا على هذا النحو، حتى القلة القليلة التي سُمح لها بالعودة، تعيش أوضاعاً مزرية بلا ماء ولا كهرباء”، ويتابع بنبرة حادة: “قناة الري الوحيدة في الناحية التي كانت تسقي أراضينا تم حرف مسارها، لتموت حقولنا، وكأنهم يريدون انتزاع كل جذورنا من هناك”.

تبلغ مساحة ناحية يثرب ذات الطابع الزراعي حوالي 446كم²، وكان عدد سكانها يفوق  75 ألف نسمة قبل النزوح في 2014، غالبيتهم من العرب السنة، وينتمون إلى عشائر العزة والعبيد والبو حشمة وهي من فروع قبيلة بني تميم، وكان فيها سكان من الشيعة كذلك، ينتمون إلى عشيرتي البو فدعوس التميمية والبو سعود.

إثر سيطرة “داعش” على الناحية، نزحت آلاف الأسر نحو مناطق أخرى، كقضاء الضلوعية ومناطق مجاورة ظلت آمنة في المحافظة وخارجها، بعيداً عن سيطرة التنظيم. 

وبعد انقشاع دخان حرب تحرير ناحية يثرب من سيطرة “داعش” في 27 كانون الأول/ديسمبر  2014، سيطر عناصر “الحشد الشعبي” الشيعي على الأرض؛ وكثير منهم من أبناء المنطقة، فمنعوا عودة السنة من أبناء المنطقة إليها بادئ الأمر، متهمين إياهم بالتعاون مع التنظيم الذي قتل العديد من أبناء الشيعة وصادر ممتلكاتهم، وبعد مفاوضات مطولة سمحوا بعودة قسم منهم فقط.

عودة مدفوعة الثمن!

منذ تحرير ناحية يثرب وسيطرة قوات “الحشد الشعبي” عليها، تحاول أطراف سياسية ردم الهوة التي أحدثها التنظيم، بين مكونات المجتمع في الناحية (السنة والشيعة) وتطالب بعودة العائلات النازحة والمهجرة غير المرتبطة بالتنظيم، التي هربت منه إلى مناطقها.

قسم من تلك المطالب يصفها نشطاء مدنيون وأهالي الناحية بأنها “لا تتضمن خطوات وتحركات عملية بل هي دعائية ترمي لتحقيق أهداف سياسية لأصحابها، تنطفئ جذوتها بانتهاء الانتخابات المحلية أو البرلمانية، في حين أنتجت مطالبات أخرى عودة ما يقرب من نصف سكان ناحية يثرب من السنة إلى مناطقهم”، وكان ذلك نتيجة حركة دؤوبة لعشرات من المسؤولين والسياسيين العراقيين ووسطاء وممثلين أمميين وحتى قادة فصائل، قاموا بين 2015 و 2018 بزيارات مكوكية بين زعماء العشائر في الناحية، محاولين التوصل إلى مصالحة شاملة وطي صفحة مرحلة “داعش”.

ففي عام 2015 حاول محافظ صلاح الدين الأسبق رائد الجبوري، إيجاد حل للأزمة بتخصيصه مبلغ 4 مليارات دينار عراقي (ما يعادل 3.36 مليون دولار) من ميزانية المحافظة، لضحايا من الشيعة في ناحية يثرب كتسوية وتعويض، غير أن مستحقيها استلموا جزءاً منها فقط، وبذلك لم تجد تلك الخطوة نفعاً. 

وفي العاشر من أيار/مايو 2016، تم توقيع ميثاق شرف بين العشائر المختلفة برعاية ديوان محافظة صلاح الدين، وإشراف ديوان الوقف السني العراقي، يسمح بعودة نازحي ناحية يثرب، مع تعهدهم بعدم إقامة أي دعاوى قضائية ضد الجيش و”الحشد الشعبي” وأهالي المنطقة من الشيعة عن ضحاياهم وخسائرهم، لكن الأمور لم تجر كما خطط لها، نتيجة عدم رضا أطراف في العشائر الشيعية، التي لم تسمح للنازحين بالعودة، مستعينة في ذلك بسلاح “الحشد الشعبي” وسطوته.

وفي أواخر عام 2017 تمت صفقة أخرى، إذ قامت عشائر سنّية بجمع مبلغ تعويضي آخر قدره 4 مليارات دينار (كل عائلة سنية دفعت 500 ألف دينار- تعادل 380 دولاراً) لتهدئة الأوضاع، تسمى بـ”الرضوة” لقاء عودتهم إلى مناطقهم.

ودفع هذه المبالغ وفقاً لمطلعين على الشأن العشائري لا يعني”إقراراً لمن يدفع بأنه مذنب، أو أنه كان متورطاً في ارتكاب جرائم بالتعاون مع داعش ضد الشيعة في المنطقة” بل هي تسوية عشائرية، أما المتورطون في الانتماء إلى “داعش” وإرتكاب جرائم، فقد أقيمت بحقهم دعاوى في المحاكم أو تم اعتقالهم. 

المحاولات تلك بمجملها على أية حال، أثمرت وبعد سنوات، عودة 30 ألف سنّي، ولكن الكثير من العائدين وجدوا بيوتهم مهدمة وحقولهم محروقة، وعليهم أن يبدأوا حياتهم من الصفر، ومن دون أي مساعدات تعويضية، فيما بقي آلاف آخرون ينتظرون الموافقات الأمنية، التي لم تأت إلى الآن، ويجب أن تسبقها تسويات جديدة.

وتتضارب الأرقام بشأن النازحين المتبقين، ويقدر نشطاء وحقوقيون مطلعون على شؤون المنطقة، أعدادهم بـ 15 ألفاً إلى 30 ألفاً، معظمهم يسكنون في إقليم كردستان حالياً.

بعضهم كانوا في مخيمات النزوح التي قررت وزارة الهجرة والمهجرين إغلاقها كلياً في نهاية شهر تموز/ يوليو 2024، كمخيم “آشتي” في السليمانية الذي ودع في الأسبوع الثالث من أيار/مايو 2024 ما مجموعه 935 نازحاً، بعضهم من ناحية يثرب، والآخرون من قضائي بلد وسنجار، بعد تسليم كل عائلة عائدة مبلغ 4 مليون دينار (أكثر من 3000 دولار) وفقاً لوزيرة الهجرة والمهجرين إيفان فائق جبرو.

معدة التحقيق، وجهت أسئلة بشأن مصير النازحين من ناحية يثرب غير القادرين على العودة بسبب عدم تسوية ملفاتهم، إلى مسؤولين محليين وأعضاء في مجلس النواب العراقي من ممثلي محافظة صلاح الدين، إلا أن غالبيتهم فضل عدم الإجابة في الوقت الحالي “نظراً لحساسية الأمر” على حد تعبير البعض منهم، ورغبتهم في أن يقوم سكان المنطقة بأنفسهم بتسوية الأمر في ما بينهم.

مناطق محرمة وبساتين محترقة

يسيطر اللواء 41 من “الحشد الشعبي” التابع ل”عصائب أهل الحق” بقيادة قيس الخزعلي، على الملف الأمني في ناحية يثرب، وتمنع نقاط التفتيش التابعة له، عودة أي من السكان النازحين من مناطق عدة، بينها التي تعرف بـ”أحباب تل الذهب”، وكذلك المنطقة التي تشكل  مقاطعة تعرف باسم “11 كشكرية” وتقع بين بلد والدجيل، فضلاً عن مناطق “قناة 34″، وأغلبها بساتين تعرضت للحرق وبيوت أصحابها للهدم.

صالح حسن (59 سنة) يقع منزله الريفي في قرية البو بهلول، الواقعة ضمن المنطقة المحرمة بين مناطق انتشار السنة والشيعة في ناحية يثرب، يقول: “حين دخل داعش، كان أهل قريتنا من أوائل الذين نزحوا، لم يبق أحد في القرية حينها، وبعد التحرير حاولنا الرجوع إلى بيوتنا وأراضينا، لكننا مُنعنا، وتفاجأنا بأن بساتيننا محروقة”.

فيديو يُظهر حرق بساتين ومنازل في ناحية يثرب

ويقدر بعض من أهالي يثرب المنطقة المحرمة، التي تمنع “العصائب” عودة السنة إليها بـ8 آلاف دونم، وتضم مقاطعتي “11 كشكرية والمدورة” ومساحتهما تقارب 8 آلاف دونم.

يملك حسن 125 دونماً من الأراضي الزراعية، تقع على حدود “قناة 34” الإروائية في الناحية، ضمنها 24 دونماً مزروعة بالحمضيات، وكانت أرضه تدر عليه ما يقرب من 50 ألف دولار سنوياً، يجنيها من بيعه محاصيل الحمضيات والحنطة والخضروات الورقية.

يقول مغالباً دموعه: “لكنني أعمل الآن في البناء وولدي عامل نظافة”، ثم يضيف بحسرة: “العشائر الشيعية حرفت مسار القناة الإروائية نحو أراضيها ومنعت المياه عن أراضينا، أشجارنا ماتت وأحرقت وأراضينا أصبحت جرداء، باستثناء تلك التي وضعوا أيديهم عليها”.

استولت تلك العشائر بحسب رواية حسن على 17 دونماً من أرضه، وباتت تزرعها وتبيع ما تُنتجه: “محاولاتي العديدة للوصول الى أرضي باءت بالفشل، ولم أستطع الحصول حتى على صورة لمنزلي المهدم، على الرغم من تمكني من رؤيته من بعيد عند آخر نقطة تفتيش يمكنني بلوغها”، ويضيف بعد لحظات من الصمت: “بتنا نخشى السؤال عنها، خوفاً من اتهامنا بالعمل مع داعش وملاحقتنا”.

لا يستطيع حسن الوصول إلى منطقته إلا بتصريح دخول يتم إصداره مقابل 500 ألف دينار من مراكز الشرطة ونقاط التفتيش: “أنا لا أملك هذا المبلغ، وتأكدتُ عن طريق أصدقائي الذين عادوا إلى بيوتهم أن العشائر الشيعية استولت على جزء من الأراضي، التي مازال الماء يصل إليها، من ضمنها قسم من أرضي”، يقول متحسراً. 

ووفقاً لشعبة زراعة يثرب، فإن 43183 دونماً في الناحية كانت مغروسة وتعرضت للحرق والتجريف من أصل 63589 دونماً صالحة للزراعة، من ضمنها أراض ضمن المناطق المحرمة التي لا يمكن لأحد دخولها، وهي مقاطعة “11 كشكرية” التي أحرقت جميع أراضيها الزراعية وتبلغ مساحتها 4611 دونماً، ومقاطعة “7 المدورة” التي حرم  الدخول إليها وأحرق منها 1105 دونماً من أصل 2838 دونم.

جميع تلك الأراضي المحروقة تعود ملكيتها للعرب السنة، وكانت تحوي ما يقرب خمسة ملايين ونصف المليون شجرة، وتُنتج سنوياً قرابة 270 ألف طن من مختلف الثمار.

ويتهم حسن أفراداً من العشائر الشيعية في المنطقة بتجريف بستانه، ويقول: “بعضهم في يثرب انتموا إلى الحشد الشعبي وسيطروا على المنطقة، لذا فهم يفعلون ما يشاءون لتحقيق مصالح شخصية، ولا أحد يحاسبهم”.

دعاوى كيدية تمنع العودة

محمد علي (31 عاماً) ينتمي إلى عشيرة البو حشمة السنية، كان يسكن في قرية الفدعوس، ذات الغالبية الشيعية في ناحية يثرب، نزح مع عائلته إلى كركوك أواخر 2014، بعد دخول “الحشد الشعبي” إلى الناحية وطرد تنظيم “داعش” منها، وكان وقتها طالباً في جامعة سامراء.

وبعد استعادة الجيش و”الحشد الشعبي” المنطقة وسيطرة الأخير عليها “بدأت عمليات التصفية ضد كل من لم يخرج من القرية مع دخول داعش إليها في حزيران 2014، إلى جانب حرق البساتين والأراضي التابعة للسنة، ولو أني لم أكن قد تركت منزلي في ذلك الحين، لكنتُ في عداد الموتى الآن”، يقول محمد علي.

استقر الشاب مع عائلته في كركوك لنحو عامين، على أمل العودة إلى قريته في أقرب فرصة متاحة، لكن شكوى تقدمت بها امرأة شيعية تنتمي إلى القرية ذاتها في 2017، إضافة إلى شكوى أخرى تقدم بها ابن عمها، تضمنت اتهامات بتنفيذه عملاً إرهابياً في القرية، حالت دون إكمال دراسته كما كان يأمل في جامعة كركوك التي انتقل إليها، هذا فضلاً عن استبعاد عودته إلى منطقته.

يقول بحرقة: “تلك السيدة كانت جارة لأسرتي لأكثر من 50 عاماً، أي حتى قبل أن أولد، لكن أفراداً ينتمون إلى داعش قتلوا ابنها، فباتت ترى كل السنة من الدواعش، وتقدمت بشكوى ضد 15 من أقاربي، من ضمنهم أبي وجدي، ودفع كل منا 5 آلاف دولار لها، لكن المشكلة لم تحل”.

بعد علمه بالشكاوى المقدمة ضده، توجه محمد علي مع عائلته إلى السليمانية، وفي سنة 2021 أخذ يرسل من هناك وسطاء إلى السيدة المشتكية لإنهاء الملف، وتم التوصل؛ وفقاً لما يقول، إلى دفع مبلغ مقداره 15 ألف دولار، لتتنازل عن شكواها ضد والده وجده إضافة إليه.

تنازلت السيدة بالفعل مع ابن عمها عن شكواهما، لكن ذلك لم يغير شيئاً، إذ اكتشف محمد علي أن هناك دعوى أخرى مقامة ضد عائلته من قبل شخص آخر ينتمي إلى عشيرة البو فدعوس ذاتها، يتهمهم فيها بالانضمام إلى صفوف تنظيم “داعش”.

يعمل محمد علي يعمل الآن في قطاع البناء “من دون مستقبل واضح الملامح” بحسب تعبيره، وما زال يسدد ما في ذمته من ديون تسببت بها الدعاوى التي يصفها بالكيدية، ويقول: “المال الذي دفعناه كرضوة اقترضناه، وأنا أسدده لغاية الآن من دون نتيجة، فأنا ووالدي ما زلنا مطلوبين للتحقيق، ونخشى المثول أمام المحكمة فيتم تغييبنا بدون عودة، أما جدي فقد مات قبل أشهر من دون أن نستطيع دفنه في مقبرة العائلة في صلاح الدين، بسبب الدعاوى الكيدية”.

محامٍ في محكمة استئناف صلاح الدين، فضل عدم الإشارة إلى اسمه، ذكر أن هناك “ما يقربُ من 700 دعوى مرفوعة من قبل مشتكين بحق أفراد من عوائل سنية، يُنتظر البت فيها من قبل المحكمة، وهي تشمل تهماً بالانتماء إلى داعش أو تنفيذ عمليات إرهابية”.

ويقول: “في بعض اللوائح هناك تهم مشابهة ضد 500 شخص دفعة واحدة”، ويضيف: “استخدمت الفصائل التي سيطرت على استخبارات جنوب صلاح الدين بعد خروج داعش، تهمة الإرهاب لما يمكن وصفه بتطهير مناطق محددة للسنة من كامل ساكنيها، وكثيرون لايجرؤون على الامتثال أمام مكاتب التحقيق خشية التعذيب أو التغييب أو إلصاق التهمة بهم”.

تشير مصادر غير رسمية، إلى أن هنالك ما يربو عن 2800 شخصاً من أهالي صلاح الدين، مغيبون بنحو قسري منذ تحرير مناطقها من قبضة تنظيم “داعش”، قسمٌ منهم من ناحية يثرب، والكثير منهم تم اعتقاله من قبل قوات “الحشد الشعبي” ولم يعد ذووهم يعلمون شيئاً عن مصائرهم. 

حدث الأمر ذاته في ناحية “جرف الصخر” (70 كلم جنوب بغداد) التي تتبع لمحافظة بابل، وتقع شمال مدينة كربلاء الشيعية المقدسة، والتي يَعِدُ القادة السنة منذ سنوات “سكانها الأصليين” بالعودة إليها من دون أن يتحقق ذلك، بعد أن تحولت إلى قاعدة للجماعات المسلحة الشيعية، التي اتهمت سكانها من السنة، بارتكاب أعمال قتل بحق الشيعة، ودعم المجموعات الإرهابية، والتغطية على تحركاتها طوال سنوات الحرب الطائفية.

وكانت عودة سكان تلك المناطق وإقرار قانون العفو العام، أحد بنود الاتفاق السياسي الذي تشكلت بموجبه حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في تشرين الأول/ نوفمبر 2022، لكنها لم تنفذ إلى الآن.

محاولات لتشييع الناحية

ومثلما توجه اتهامات للفصائل المسلحة في “جرف الصخر” بمنع السكان من العودة إليها تنفيذاً “لعملية تغيير ديمغرافي” تتمثل في إبعاد العرب السنة من محيط محافظتي كربلاء والنجف، يحصل الأمر في بعض مناطق محافظة صلاح الدين.

يؤكد المحامي في محكمة استئناف ص

لاح الدين (طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية) محاولات تجري لتشييع عدة مناطق في صلاح الدين من أجل بسط النفوذ، ويقول: “القوى السياسية الشيعية تسيطر على عدة مناطق مثل سامراء ويثرب والدجيل، وقد جندت فصائل مسلحة ودفعت بعض العشائر الشيعية في يثرب على سبيل المثال، إلى رفع دعاوى كيدية ضد أفراد سنة في المنطقة، بغية منعهم من العودة، بما يضمن تشييع يثرب مستقبلاً وإبقاء سيطرتهم عليها”.

يوافقه في ذلك السياسي السني عبد العزيز المعماري الذي يرى أن “سيطرة فصيل شيعي مسلح على منطقة سنية، لها أبعاد طائفية وطموح بتمدد الحاكمية الشيعية إلى مناطق السنة، وهذا نهج معلن لدى الأحزاب الشيعية التي تمتلك جناحاً مسلحاً” على حد تعبيره. 

ويعتبر أن: “الفصائل المسلحة فقدت قاعدتها الشعبية في مكان نشأتها جنوب البلاد في السنوات الأخيرة، ويستحيل أن تتشكل قاعدة شعبية في أي مكان في العالم، لفصيل مسلح يسيطر بالقوة على منطقة وينتهج نهجاً طائفياً فيها، ويستند إلى الترهيب وقوة السلاح لفرض نفسه، وهذا ما نراه قبيل كل انتخابات في المناطق السنية التي فيها حضور لفصائل مسلحة”.

ويرى المعماري أن الاتفاقات والمساومات السياسية من قبل “أطراف سنية خاضعة” قفزت عن الاستحقاقات، ومستعدة “لإضعاف التمثيل السني مقابل منافع شخصية وحزبية”، غيرت خارطة التشكيلات السياسية والمجتمعية في المحافظة.

العودة إلى المصير المجهول

حددت حكومة محمد شياع السوداني في 30 تموز/يوليو 2024 موعداً لإغلاق كل مخيمات النازحين أينما وجدت في البلاد، وأطلقت على المشروع اسم “العودة الطوعية”، غير أن “أحمد.ع” (29 عاماً) الذي يسكن في مخيم “آشتي” في السليمانية مع أسرته يرى بأنها “عودة قسرية”، ويقول: “كردستان أوقفت منحنا موافقات السكن خارج المخيمات بعد قرار إغلاق المخيمات، مما سيجبرنا على العودة إلى مناطقنا التي لا نستطيع الوصول إليها بالأساس”.

كان أحمد يسكن في قرية تطل على “قناة 34” الإروائية، وهي من بين القرى المحرمة، وبالرغم من أن والده يملك بستاناً فيها بمساحة 20 دونماً كانت مزروعة بالعنب، إلا أنه لا يستطيع الوصول إليها، ويسأل بحيرة: “أين سنذهب الآن، إنها عملية تشريد لا إعادة طوعية، لمجرد إعلان تحقيق نجاحات وهمية.. فليعيدوا إلينا أراضينا لنعود إليها، بهذا القرار ليس أمامنا سوى العودة إلى صلاح الدين خارج يثرب، لنظل مشردين في مكان ما هناك ومواجهة مصيرنا المجهول”.

أحمد الذي كانت أسرته تعتمد على المساعدات في كردستان، يسأل: “ماذا سأعمل في صلاح الدين، وكيف سأدفع إيجار المنزل، وأؤمن مصاريف العائلة؟”.

ما يجده أحمد آخر الحلول، قام حمزة عادل (45 عاماً) بتجربته من دون نتيجة مرضية، إذ ترك مخيم “عربت” في السليمانية، وسكن في بيت يعود لأهل زوجته في منطقة الدجيل شمال بغداد في العام 2020، منهياً بذلك ست سنوات من النزوح، تاركاً خلفه بيته الواقع في المناطق المحرمة في ناحية يثرب.

لكنه وجد صعوبة في العيش تحت سلطة “الحشد الشعبي”: “يتعاملون معنا كإرهابيين، من المتوقع أن يداهموا منزلك في أي لحظة للتفتيش، كما أن فرص العمل شحيحة، ومن ينوي أن يفتتح مشروعاً عليه أن يتقاسم أرباحه؛ إن حقق شيئاً، مع الحشد الشعبي”.

بسبب ذلك عاد مجدداً إلى السليمانية نهاية العام 2021، واستأجر بيتاً فيها، لأن إدارة المخيم الذي كان فيه من قبل، رفضت استقباله مع عائلته الكبيرة العدد، كونها اعتبرته عائداً، فشطبته من سجلاتها: “أعمل لتدبر تكاليف المعيشة مع الإيجار، وننتظر معجزة تعيدنا إلى يثرب”. 

العديد من العائلات التي غادرت مخيم “آشتي” في السليمانية، والتي تركته مكرهةً، عادت إلى ناحية يثرب، لكن لم يُسمح لها بالعودة إلى قراها السابقة في المنطقة التي تُعرف بالمحرمة، فاضطروا إلى نصب خيمهم خلف ساتر يفصلهم عنها، يقول أحد شاغلي تلك الخيام لمعدة التحقيق: “جلبنا معنا خيمنا من السليمانية، فنحن متأكدون من عدم سماح الحشد الشعبي لنا بدخول مناطقنا، نحن هنا نقارب الـ50 عائلة، يستطيع بعضنا رؤية منزله، لكن من يتجرأ على عبور الساتر الفاصل بين المخيم الجديد والمناطق المحرمة، سيكون هدفاً لبنادقهم”.

لا تلتفت الجهات الحكومية إلى معوقات العودة، وشكاوى المحتجين ومناشداتهم، سواء النازحين العرب من مناطق في محافظات صلاح الدين ونينوى وديالى، أو النازحين الأيزيديين والكرد من سنجار وسهل نينوى.

وتشير البيانات والتصريحات الحكومية، إلى استمرار عمليات “العودة الطوعية” بوتيرة متصاعدة، وأعلنت “لجنة إعادة النازحين” في 23 نيسان/أبريل 2024 عودة 350 عائلة إلى ناحية يثرب جنوبي صلاح الدين،

بينما حدد عضو مجلس النواب عن المحافظة محمد البلداوي، مجموع العائدين إلى ناحية يثرب وأطراف الدجيل بنحو 2500 شخصاً، وأشار إلى ما أسماه الركائز التي سهلت عودة الأسر “تعاون أبناء العشائر لحل النزاعات في ما بينها، وإصرار المواطنين على العودة”. 

فيديو زيارة النائب ناسك مهدي الزنكي عائلة من يثرب في مخيم! 

لكن واقع الحال يشير إلى أن آلافاً من أبناء ناحية يثرب من السنة، لا يستطيعون العودة إليها، في ظل سيطرة فصيل شيعي مسلح على منطقة غالبيتها من العرب السنة، ومنعه أهاليها من العودة، مما يثير التساؤل عن السبب والهدف، وهو ما يجيب عنه الباحث المتخصص في الشؤون الإستراتيجية والأمنية فراس إلياس ب”فصل المناطق وعزلها”، محدداً “أهدافاً قصيرة الأمد وأخرى طويلة الأمد”.

ويقول إلياس: “ما تفعله عصائب أهل الحق في ناحية يثرب، هو جزء من استراتيجية تمارسها الفصائل المسلحة في أغلب المناطق، التي تم تحريرها من سيطرة داعش، وتتمثل بإعادة تشكيل تلك المناطق على أساس طائفي أو اقتصادي أو سياسي”.

ويوضح: “الهدف مما يحدث في صلاح الدين، هو خلق مناطق فراغ تفصل شمال المحافظة عن جنوبها، كون الجنوب يمثل تكتلاً شيعياً وسط محيط سني، وهذا هو الهدف قصير المدى، أما ما يتم التخطيط له للمستقبل، فهو إعلان محافظة شيعية تعزل بغداد عن صلاح الدين ومركزها سامراء”.

وينبه إلى تعامل الأحزاب الحاكمة في صلاح الدين مع الفصائل المسلحة، بأنه قبول بالأمر الواقع: “يتجنبون استفزازها لئلا تفرض سيطرتها على مناطق أخرى، كون الواقع الذي تفرضه الفصائل، أكبر من أن تجابهه القوى السنية الضعيفة في صلاح الدين بالرفض”.

بارقة أمل

يعتقد  نشطاء مدنيون وسياسيون، أن فض النزاعات التي تسبب بها تنظيم “داعش”، وعودة النازحين إلى مناطقهم بما فيها ناحية يثرب، يعتمد بالدرجة الأساس على تفاهمات عشائر المنطقة، وهذا تحديداً ما يقوم به بعضها هناك، إذ عُقد في الناحية يوم 17 أيار/مايو 2024، مؤتمر حمل شعار “التعايش السلمي سبيلنا لبناء الوطن بتكاتف شيوخنا ومثقفينا نحافظ على وحدة العراق”.

رعت هذا المؤتمر عشيرة البو سلطان، بمشاركة شيوخ عشائر من السنة والشيعة وقادة أمنيين، ونوقشت فيه ثلاثة محاور رئيسية هي: “دعم وإسناد البرناج الحكومي للمصالحة، وبسط الأمن ونبذ الإرهاب وإعادة الإعمار، والتعاون المشترك لنبذ الخلافات”. 

ذكر النائب الفني لمحافظ صلاح الدين مفيد البلداوي أن الحكومة المحلية ستوفر لناحية يثرب “كل الخدمات الأمنية واللوجستية والصحية والتربوية”، من أجل إعادة الاستقرار، وأن هناك العديد من ورش العمل والمؤتمرات المشابهة، التي ستعقد خلال الفترة المقبلة لتعزيز التعايش السلمي والمصالحة في الناحية.

حضر المؤتمر أيضاً آمر الفوج الثالث في اللواء 41 ل”الحشد الشعبي” الذي يسيطر على الأرض في ناحية يثرب، وقد أشار بنحو ضمني، إلى عدم السماح بعودة غير المرغوبين فيهم إلى الناحية من خلال قوله: “ما زال هناك لواء 41 مع الأخوة في القوات الأمنية ماسكين لهذه الأرض، فسوف نفوت الفرصة على كل من تسول نفسه هذا الأمان، الذي تحقق بفضل دماء الشهداء التي روت هذه الأرض ….”.

فيديو آمر الفوج الثالث في اللواء41 للحشد المسيطر على ناحية يثرب

هناك من يشكك في جدوى “مؤتمر التعايش السلمي” هذا، ويستدل على ذلك بإرسال محافظ صلاح الدين معاونه الفني لينوب عنه، وكذلك قائد اللواء 41 للحشد، الذي أرسل آمر فوج ممثلاً عنه ، فضلاً عن غياب وجوه عشائرية بارزة. 

أمجد ( 33 عاماً) خريج جامعي، عاد إلى ناحية يثرب قبل سبعة أشهر، بعد أكثر من ثماني سنوات من النزوح، قضى معظمها في محافظة السليمانية، يرى بدوره أن مؤتمرات المصالحة العشائرية غير مجدية “إذا تقاطعت مع مصالح القوى النافذة”، مبيناً أن “السنة الذين كانوا يشكلون الأغلبية في الناحية، أصبحوا اليوم أقلية، ويعيشون قلقاً دائماً من احتمالات الاتهام والملاحقة مع تنامي النفوذ الشيعي، سواءً للعشائر أو للحشد الشعبي الذي يمسك الأرض”. 

ويقول بأسف: “أي خلاف عادي يمكن أن يقع بيني وبين أي شخص آخر في المنطقة له ارتباطات بالحشد، يعني أن تلصق بي تهمة الانتماء إلى داعش، وقد أفقد حياتي بسبب ذلك، لذا نقدم التنازلات باستمرار، على الرغم من أننا من أكثر المتضررين من داعش، الذي قتل العديد من أقاربي وسلب ممتلكاتنا”.

يفكر قليلاً ثم يسأل: “من كان منتمياً لداعش أو موالياً له معروف، ونحن قبل الآخرين ندعو إلى محاسبته قضائياً، بدل استغلال الملف سياسياً لأهداف طائفية، واقتصادياً لمصالح خاصة، والمساس بالأبرياء أمثالنا”.

ويستدرك: “الحكومة والمؤسسات ضعيفة والحاكمون هنا هم فصائل، لذلك سندفع نحن وأبناؤنا وحتى أحفادنا، ضريبة موالاة البعض من ناحية يثرب قبل عشر سنوات لداعش، أما مؤتمرات التعايش فهي للإعلام فقط، والإيهام أن هناك تسامحاً وتآلفاً، برغم أنه لا وجود لهما على الأرض”.

تم استبدال أسماء كل من أدلى بشهادة من أبناء ناحية يثرب حفاظاً على سلامتهم.