أحمد حسن – صحافي عراقي
في 22 شباط/ فبراير 2020 نحو الساعة الثامنة مساءً، كان المتظاهر الشاب محمد علي (اسم مستعار) ينتظر بمفرده قرب ساحة كهرمانة وسط بغداد، مرور أي عجلة للنقل العام تقله إلى بغداد الجديدة جنوب شرقي العاصمة، ليكمل من هناك طريقه إلى منزله في شارع فلسطين، لكن العجلة التي ركبها حملته إلى عالم آخر وغيرت حياته إلى الأبد.
كان البرد والظلام يحيطان بالمكان الذي يبعد كيلومترات من ساحة التحرير مركز الاحتجاجات الشعبية وميدان الاعتصامات المطالبة بتغيير الطبقة الحاكمة المتهمة بالفساد، حينما توقفت قربه سيارة بيضاء وفي داخلها أربعة ركاب لم يثر مظهرهم أي ريبة، فانسل محمد فيها سريعاً، وهو يتبادل السلام مع الراكبين قبل ان يسود الصمت.
لم يمر سوى لحظات حتى غيرت السيارة مسارها متجهة نحو شارع ابو نوّاس المطل على نهر دجلة في اللحظة ذاتها التي ظهر فيها من تحت سترة أحد الركاب مسدس كاتم للصوت صوب نحوه مع كلمات بلغة حاسمة “اصمت إن كنت تريد أن تعيش”.
محمد (23 سنة) كان يبحث عن عمل منذ تخرجه من كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد في صيف 2019، ووسط موجة الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، انخرط سريعاً في دعم الحركة الاحتجاجية، وساهم في تأسيس خيام الاعتصام الطلابي في شارع السعدون المؤدي إلى ساحة التحرير. وطوال أشهر عمل بحماسة في جمع التبرعات لتوفير المستلزمات الاساسية من طعام وفرش نوم وادوية وأقنعة الوجه الواقية من قنابل الغاز.
أحصت مفوضية حقوق الانسان العراقية، في مطلع شباط 2020 خلال اربعة أشهر من الاحتجاجات فقط، اختطاف 72 شخصاً (22 أطلق سراحهم) الى جانب 49 محاولة اغتيال راح ضحيتها 22 ناشطاً وصحافياً ومدوناً. لكن الأرقام تصاعدت في الأشهر اللاحقة.
وفي مطلع حزيران/ يونيو 2021 كشف عضو مفوضية حقوق الانسان فاضل الغراوي، عن مصير جميع المفقودين البالغ عددهم 76 مفقوداً، باستثناء 18 منهم ما زالت عمليات البحث والتحري جارية عنهم.
أزقة الموت
مع موجات القمع المتلاحقة الى جانب حملات الاعتقال وعمليات الخطف التي طاولت المحتجين، يفضل النشطاء الفاعلون عدم ركوب أي سيارة في المناطق القريبة من ساحة التحرير التي عرفت “بأزقة الموت” بعدما تحولت إلى مواقع لتمركز عناصر مسلحين ملثمين، اتخذوا منها ميداناً للخطف والقتل بعيداً من عيون رجال الأمن والمحتجين.
يقول عباس العشريني صاحب عربة “التك تك” الذي ظل طوال أشهر ينقل المتظاهرين من مركز الاحتجاجات بالتحرير إلى ساحة كهرمانة التي تعد ملتقى عجلات النقل العام التي تتجه لأكثر من منطقة في بغداد: “كانت خطوة ضرورية للحماية من الاستهداف في محيط التحرير، لكن جماعات مسلحة مرتبطة بأحزاب السلطة، التي اعتبرت التظاهرات خطراً عليها بدأت تختطف النشطاء من كهرمانة أيضاً بعد عمليات تعقب دقيقة”.
في أزقة الموت المتمثلة بـ”البتاويين” وشوارع “السعدون” و”النضال” و”أبو نؤاس” سُجلت خلال شهري تشرين الثاني نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر 2019 ما لا يقل عن 103 محاولات قتل واختطاف، بحسب شهادات موثقة بالتسجيلات الصوتية لعشرة أشخاص تم التواصل معهم وهم من قادة التنسيقيات، فضلاً عن عناصر أمن في جهاز حماية المنشآت المكلف بتفتيش الداخلين الى ساحة التحرير.
طوال نحو عام، اعتاد المحتجون، الذين اعتصموا بالآلاف في ساحة التحرير أو كانوا يتجمعون في محيطها، على مشاهد الموت وسقوط رفاقهم بالرصاص الحي وقنابل الغاز وبأسلحة القنص، حتى تجاوز عدد القتلى 560 والجرحى العشرين الفاً بحسب الأرقام الحكومية.
في الليلة التي خطف فيها محمد، كان عباس قد نقله بدراجته مع اثنين من رفاقه (وائل وميسرة). في “كهرمانة” افترق الأصدقاء الثلاثة، وظل محمد وحيدا لدقائق يتصفح هاتفه المحمول منتظرا عجلة تقله. كانت الميليشيات تفضل “اصطياد النشطاء وهم منفردون، لكي يسهل الخطف ولا يكون هناك شهود” يقول عباس.
بعد نحو عام على عملية الخطف، وفي غرفة صغيرة في منزل العائلة، وافق محمد على استقبالنا برفقة والده وشقيقته بشرط عدم وجود “لا كاميرات ولا تلفونات ولا أجهزة تسجيل”.
ظل الشاب لدقائق ينظر باتجاهنا وكأنه يحاول أن يقرأ نياتنا فيما كان والده يتحدث عن الأيام العصيبة التي عاشوها، قبل أن يهم الشاب بالكلام: “في تلك الليلة اقتادوني الى بستان مهجور في منطقة الدورة جنوب بغداد، وتحديداً قرب مصفى النفط. تصرفوا بكل هدوء، سحبوا هاتفي، ولم يعصبوا عينيّ ليمروا من نقاط التفتيش الأمنية بصورة طبيعية. في إحدى النقاط قالوا إنهم منتسبون لجهاز الأمن الوطني”.
“في الطريق أخبروني أنهم من غرفة التظاهرات بذلك الجهاز ويريدون التحقق من مصادر الأموال التي جمعتها لدعم التظاهرات، لكنهم بعد اجتياز نقطة تفتيش اللواء الرئاسي في مخرج جسر الطابقين المطل على المنطقة الرئاسية، وقبل تجاوز مفترق طرق يؤدي الى الزعفرانية وبغداد الجديدة، دخلوا في طريق ترابي يضم نقطة تفتيش وقف فيها عنصران يرتديان ملابس عسكرية والى جانبهم سيارة (بيك آب) تويوتا رفع عليها علم الحشد الشعبي، وبسرعة فائقة رفع الحاجز وسمح للعجلة بالمرور. بعد دقائق بدت لي طويلة جداً وأنا غارق في التفكير بالمصير الذي ينتظرني، انتهينا إلى بستان”.
يتابع محمد: “مع وصولنا الى هناك انهال علي الخاطفون بالضرب وأمسك أحدهم بقميصي وسحبني من السيارة بقوة فسقطت على الأرض. كان هناك أربعة أشخاص بلحى ينتظرونني وهم يحملون هراوات، بدا لي أن نهايتي اقتربت، انهالوا علي بالضرب حتى سالت الدماء من كل أنحاء جسدي وفقدت الوعي لأصحو في ساعة متأخرة من الليل وأجد نفسي محتجزاً في غرفة صغيرة بلا نوافذ، فيها حمام (تواليت) قذر. الغرفة كانت معزولة تماماً لم أكن أعرف متى يحل الصباح أو الليل. تمر الساعات علىي بطيئة، تتخللها جلسات قصيرة من الأسئلة المتكررة والتعذيب الجسدي والإهانات من قبل أشخاص في أواخر الثلاثينات من أعمارهم يرتدون جميعاً قمصاناً صحراوية اللون وسراويل خضراً”.
تهديد بالموت وفدية وإفراج مشروط
بعد ثمانية أيام على انقطاع أخباره، والإجابة الروتينية لكل الأجهزة الأمنية التي تواصلت العائلة معها بـ”ابنكم ليس معتقلاً لدينا”، تلقى والد محمد الذي يعمل موظفاً حكومياً، رسالة من الخاطفين عبر تطبيق التلغرام تطالبه بالتعهد خطياً بالتوقيع على ورقة بيضاء بمنع ابنه من المشاركة في الاعتصامات الطلابية وجمع التبرعات مقابل الإفراج عنه، مع عدم الإفصاح لأي جهة بأي معلومات عما تعرض له.
بعدها بأيام خرج محمد، عقب آلية إفراج معقدة تضمنت تدخل رجل دين شيعي يسكن في منطقة الزعفرانية المحاذية لبغداد الجديدة جنوب شرقي العاصمة، يعمل كوسيط بين عائلات المختطفين والجماعات الخاطفة ويتقاضى لقاء ذلك آلاف الدولارات في كل عملية.
اطلعنا على الرسائل المتبادلة بين والد محمد والوسيط، إضافة الى المكالمات الصوتية وصور المختطف وعليه آثار تعذيب بكل اجزاء جسمه حتى وجهه.”حصل الوسيط على خمسة آلاف دولار في دفعتين. وأحمد الله أن ابني نجا وعاد، فآخرون لم يعودوا أبداً”، يقول والد محمد. ثم يستدرك بصوت خفيض: “لكن ابني لم يعد كما كنا نعرفه، أصبح إنساناً آخر. هو يعاني من اضطرابات نفسية لم يستطع الأطباء أن يجدوا لها علاجاً. أصبح انطوائياً ويذعر من أي صوت. طوال أسابيع بعد عودته كان يرفض مقابلة أصدقائه وحتى إخوته”.
توقفت الاحتجاجات ولم يتوقف الخطف
في ذروة التظاهرات بين تشرين الأول 2019 وكانون الثاني/ يناير 2020 تعرض مئات النشطاء للاعتقال والاختطاف والتعذيب، واستمرت تلك المحاولات بعد تراجع التظاهرات وتوقفها في بعض المناطق مع تشكيل الحكومة الجديدة، من بينهم جعفر الخصيب (اسم مستعار) وهو أحد نشطاء البصرة والذي فضل تغيير اسمه تجنباً للملاحقة.
فرّ الخصيب في تشرين الأول 2020 إلى محافظة السليمانية في اقليم كردستان واتجه منها إلى تركيا بعد تعرضه لمحاولة خطف في وسط البصرة كاد يفقد فيها حياته.
على رغم خروجه من البلاد، اشترط الخصيب، الذي تم التواصل معه عبر تطبيق “الواتساب”، عدم إعطاء أي أوصاف قد تدل على هويته، لأن ذلك قد يشكل تهديداً لحياة أسرته التي ما زالت تعيش في العراق، “إنهم لا يتوانون عن فعل أي شيء، عوائل العديد من النشطاء الفارين تتعرض للتهديد المستمر، احيانا برشقات من الرصاص تطال منازلهم أو عبوات صوتية”.
يسرد الناشط الذي لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره تفاصيل محاولة الخطف: “كان ذلك في منتصف أيلول/ سبتمبر 2020 في شارع الجزائر، بعد دقائق من خروجي من المنزل وأثناء مروري قرب سيارة تويوتا (بيك آب) بيضاء اللون متوقفة فوجئت بصدور صوت عال من محركها، وفي لحظة خاطفة استدرت فشاهدت شخصا يصوب مسدسه نحوي، كنت حينها أقف أمام أحد المحال. وفي حالة فزع ومن دون تفكير دخلت الى المكان وأنا اصرخ وأتدافع مع العاملين فيه، بينما ارتفع صوت اطلاق نار”.
“كنت محظوظاً لأن المحل كان فيه باب خلفي يطل على شارع عام خرجت منه وتوجهت إلى مرآب مجاور للسيارات وانا استنجد بالناس، أحدهم وجهني بدخول الحمامات، بقيت هناك نحو ربع ساعة وأنا شبه مشلول لا اعرف ما علي فعله والموت يترصدني”.
“أبلغوني بعدها بفرار المسلحين، وانتهت المطاردة بإصابة أحد العمال برصاصة في ساقه اليسرى”. كانت المجموعة التي طاردت الخصيب مؤلفة من ثلاثة أشخاص، ويبدو أنهم كانوا يخططون لخطفه لا قتله فقد كان في مرمى نيرانهم.
بعد ساعات من الحادثة تفقدت الشرطة المحلية المكان ومنزل عائلة الخصيب وأجرت تحقيقاً شكلياً بعد قيام صاحب المحل بتقديم إخبار عن الحادث، وقدم الناشط إفادته لضابط التحقيق الذي وجه اللوم له لمشاركته في تنظيم التظاهرات وحمله مسؤولية ما حصل: “لم يتوقف عند ذلك الحد، بل قال إن ما تعانيه عائلتي أنا السبب فيه، وأخبرني بشكل صريح أن الشرطة لن تستطيع حمايتي وأن من الأفضل أن أغادر البصرة سريعاً. وهمس في أذني انا اعرف المجموعة وإلى أي جهة تنتمي، غادر ليس لديك خيار آخر”.
تصفيات بتهمة العمالة
طوال أشهر من توثيق حوادث الاختطاف تحدث نشطاء لكاتب التحقيق، عن تلقي كثير منهم بين ايلول وتشرين الأول 2020 معلومات عن “نيات” جماعة محددة القيام بعمليات تصفية لنشطاء في التظاهرات وان لديهم فتاوى بشرعية القتل بتهمة العمالة لأميركا وبريطانيا ودول الخليج.
في الفترة ذاتها تلقى صحافيون معلومات من أطراف أمنية مقربة من مكتب رئيس الوزراء، تفيد بوجود قائمة تضم نحو 70 اسماً، بين صحافي وناشط، مهددون بالتصفية من قبل جماعات مسلحة مقربة من أحزاب السلطة، بتهمة “تواصلهم مع دول معادية لفصائل المقاومة”.
الأجهزة الأمنية التي عجزت عن حماية المحتجين من فصائل مسلحة “تعتقد أن الإحتجاجات مؤامرة لتهديد وجودها”، يبدو أنها فضلت ألا تكون شريكة في الجريمة، فسربت أسماء النشطاء والصحافيين المهددين.
تلك المعلومات تسربت بعد أيام من تعرض أربعة من أبرز نشطاء البصرة لمحاولات اغتيال، فقد قُتلت الناشطة في المجال المدني رهام يعقوب (19 آب/ أغسطس) بعد أيام من اغتيال الناشط البارز في حراك البصرة تحسين الشحماني صاحب خيمة “مدنيون” (14 آب)، بينما تمكن من النجاة كل من لوديا ريمون وعباس صبحي. وسبقت ذلك عمليات قتل أثيرت حولها الشبهات.
291 محاولة اغتيال
لم تقتصر عمليات الخطف والاغتيال التي حصلت عقب حراك تشرين 2019 على بغداد والبصرة، بل شملت تسع محافظات أخرى، بحسب وثيقة ضمت أسماء وتواريخ عمليات الاغتيال، وأظهرت أن جل العمليات حصلت بين الرابعة والحادية عشرة مساء، ونفذت بأسلحة رشاشة متنوعة بينها أسلحة كاتمة للصوت.
ضابط في جهاز الأمن الوطني تم التواصل معه مرات عدة قبل أن يوافق على اللقاء في مقهى وسط بغداد، قال وبشرط عدم ذكر اسمه، إن الاغتيالات حصلت بناءً على “عمل منظم قامت به جماعة مسلحة كانت تعمل تحت انظار وزارة الداخلية وبدعم من أطراف سياسية شيعية”.
الوثيقة أحصت 291 محاولة تصفية مباشرة أو بعد الخطف، أدت إلى مقتل 80 ناشطا ومتظاهراً، وإصابة 122 آخرين، إلى جانب نجاة 89 ناشطاً ومتظاهراً من دون إصابة، وهؤلاء توزعوا بين بغداد، بابل، كربلاء، النجف، الديوانية، المثنى، الناصرية، ميسان، البصرة.
إقرأوا أيضاً:
الغرفة الخاصة
ويكشف الضابط عن تشكيل “غرفة” لقمع الاحتجاجات برئاسة وزير الداخلية ياسين الياسري، “حين اشتدت التظاهرات شكلوا الغرفة لمواجهتها، كانوا يعتبرونها عملية منظمة وممولة لاستهداف السلطة والاحزاب المتنفذة التي لديها جماعات مسلحة. كانت اجتماعاتها تضم ممثلين عن وزارة الدفاع وجهاز المخابرات وضباطاً في الأمن الوطني و”هيئة الحشد الشعبي” وعناصر نافذين في الأحزاب”، ويحتفظ كاتب التحقيق بالأسماء التي كانت تحضر الاجتماعات.
الضابط في الأمن الوطني، حدد الجهة المعنية بقمع المتظاهرين وملاحقة النشطاء: “عرفنا بوجود غرفة عمليات خاصة سميت بغرفة (التعامل مع التظاهرات)، يبدو أن عناصر منها اندسوا ضمن قوات مكافحة الشغب، وهي من كانت تقوم بعمليات رمي الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع بهدف القتل وترهيب المتظاهرين”.
هذه المعلومات تتقاطع مع تصريحات ليحيى رسول المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة، عن تورط عناصر في وزارة الداخلية “قوات حفظ النظام ومكافحة الشغب” باستخدام الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع بغية قتل المتظاهرين، متهماً حكومة عادل عبد المهدي بهذه الجرائم.
نصيب الناصرية من الخطف
ظلت الناصرية طوال أكثر من عام مركز الاحتجاجات الأكبر في جنوب العراق، وهناك توالت محاولات الخطف والاغتيال لاجبار المشاركين على الانسحاب منها.
يقول الناشط علي مهدي عجيل، الذي تعرض الى محاولتي اغتيال، الأولى في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 “كنت متجها بسيارتي الى مركز شرطة البلدة بالناصرية بهدف إطلاق سراح المتظاهرين الذين تم اعتقالهم عقب الصدامات التي جرت نتيجة حرق خيام الاعتصام في ساحة الحبوبي. لمحت في شارع النبي ابراهيم وجود دراجة نارية كبيرة الحجم تلاحقني وعلى متنها ثلاثة ملثمين، توجهت بسرعة الى تقاطع البهو وهناك تيقنت أن الدراجة تطاردني، لم تمض إلا لحظات حتى بدأوا بإطلاق النار وأصيبت سيارتي برصاصتين”.
قبلها بأيام اطلق ملثمون يستقلون دراجة نارية وفي شارع النبي إبراهيم أيضاً ثلاث رصاصات، أصابت واحدة منها زجاج سيارته.
عجيل الذي نجا من المحاولتين، يستبعد تورط “سرايا السلام” التابعة للتيار الصدري في المحاولات. ورأى إن جهة سياسية مسلحة متضررة من التظاهرات “سعت إلى الاستفادة من الخلاف بين المتظاهرين وسرايا السلام ونفذت حملة اغتيالات لزرع الفتنة ودفع المتظاهرين لاتهام الصدريين الذين هاجموا ساحة الاعتصام وأحرقوا الخيام فيها عقب دعوة الصدر إلى إنهاء الاعتصامات”.
سجاد المغيب والمتهمون
بعد نحو عام من انتشار فيروس كورونا الذي أثر على زخم التظاهرات، وبعد أشهر من تشكيل حكومة جديدة، عقب استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي والذي اتهم بالتواطؤ مع قتلة المتظاهرين، قررت معظم القوى الشبابية الناشطة في تظاهرات تشرين انهاء الاعتصامات والدخول في معترك الصراع الانتخابي لتحقيق التغيير.لكن عمليات الاستهداف لم تتوقف، فاختطف في 19 أيلول/ سبتمبر 2020 في مدينة الناصرية الناشط الشاب سجاد العراقي، وما زال مصيره مجهولاً.
يروي حجي باسم فليح، الذي كان برفقة العراقي أثناء محاولة الاختطاف وأصبح شاهداً على العملية: “كنا خمسة أشخاص في السيارة، متوجهين لزيارة صديق لنا مصاب في الاحتجاجات، اكتشفنا ان سيارتين تطاردنا، فتوقفنا. ترجل أربعة مسلحين يرتدون كمامات طلبوا منا التزام الصمت وعدم التحرك وطلبوا من سجاد النزول والذهاب معهم”.
أثناء شجار سريع رافق محاولة الخطف، تعرف الشاهد إلى أحد الخاطفين من خلال صوته ويدعى إدريس الإبراهيمي.
بحسب حجي باسم، فان ادريس الابرهيمي شخصية مهمة ينتمي الى منظمة بدر بزعامة هادي العامري وهو من اهالي محافظة ذي قار ويعمل موظفا في مؤسسة السجناء والشهداء وكان سابقاً مقاتلاً بارزاً في اللواء العاشر في الحشد الشعبي
حاول الشاهد الاستغاثة بادريس الابراهيمي، منادياً إياه بكنيته :”حجي ابو زهراء أرجوك اتركوا سجاد”.
لم ينفع ذلك، وانفعل الابراهيمي موجها كلامه للشاهد بالتزام الصمت وهو يشير بسبابته كتحذير، ثم كسر الزجاج الجانبي للسيارة بمسدسه، فيما قام مسلح آخر كان يحمل مسدساً كاتماً للصوت بجر سجاد بالقوة من المقعد الخلفي، ووضعه في سيارة الخاطفين قبل أن يعود ويطلق النار على حجي باسم بسبب تعرفه على الابراهيمي، لكنه نجا بأعجوبة بعد نقله الى مستشفى الناصرية لمعالجته من اصابة بليغة.
تلك الحادثة أثارت موجة غضب كبيرة في صفوف النشطاء وأجبرت الحكومة على الدفع بـ”قوة” من جهاز مكافحة الارهاب للبحث عن سجاد واعدة بالإفراج عنه واعتقال الخاطفين، بعد محاولات فاشلة للتواصل مع جهات يعتقد بانتماء الخاطفين لها، لكن المحاولات فشلت وبقي سجاد مغيباً وتكتمت الأجهزة الأمنية على هويات الخاطفين وتفاصيل العملية.
تقول والدة سجاد انها تعرف الجهة المتورطة بخطف ابنها وهي تتبع حزباً متنفذ، وتعرف الشخص الذي قام بالخطف، وقدمت الأدلة والأسماء إلى الجهات الأمنية والقضاء، لكنها لم تلمس أي تحرك حقيقي: “لايوجد تحقيق، القضية أهملت، فلا جديد والأجهزة الأمنية لم تبلغنا بشيء بل نحن من نزودها بالمعلومات. الخاطفون معروفون بالأسماء، لكن لم تجر عمليات مداهمة وتفتيش بحثا عنهم.هناك اربعة شهود لديهم دليل قاطع بشأن تورط شخص بالوشاية على سجاد هو اختفى بعد الحادثة ويتنقل الآن بين منطقة وأخرى”.
بعد تسعة أشهر من الواقعة وعشرات الوعود التي قطعت لوالدة سجاد من كبار المسؤولين، لا تخفي الأم يأسها من معرفة مصير ابنها “لا أعرف إن كان ميتاً أو حياً، لا شيء أصعب من ذلك”.
انتظار بلا نهاية
منذ نحو عام ينتظر النشطاء نتائج لجنة تقصي الحقائق للكشف عن المتورطين بقتل وخطف المتظاهرين، ولجان التحقيق التي شكلت بعد كل عملية، والتي لم تخرج بتحديد الأشخاص ولا الأطراف المتورطة.
مع صمت الحكومة برزت أصوات في صفوف المحتجين توجه أصابع الاتهام مباشرة إلى أحزاب السلطة وفصائل مسلحة لها ارتباط بالحشد الشعبي، مشيرة إلى أن وسائل إعلام الفصائل وتحديداً كتائب “حزب الله” و”عصائب أهل الحق”، نقلت تصريحات وتعليقات وكتابات هاجمت الاحتجاجات وشككت بدوافع النشطاء، واتهمتهم بالعمالة والخيانة وتلقي الأموال من الخارج.
لكن النائب فاضل الفتلاوي عن حركة “عصائب أهل الحق” يرفض تلك الاتهامات، ويطالب حكومة الكاظمي “بتكثيف الجهد الاستخباري، لتكون هناك تحقيقات قضائية بعيدة عن الضغوطات من اجل الكشف عن القتلة وتقديمهم الى العدالة، ولكي نبعد الاتهامات غير الحقيقية الموجهة الى جهات بعينها”. ويقول إن جهات خارجية عديدة “لديها مصالح في إثارة الفوضى داخل المجتمع العراقي”، مشددا على أن القضاء يجب أن يأخذ مجراه وعلى الجهات المعنية بالتحقيقات كشف ما توصلت إليه. ويؤكد النائب أن الفصائل المرتبطة بالحشد الشعبي بما فيه “عصائب أهل الحق” هي قوة أمنية تابعة للقائد العام للقوات المسلحة واتهامها يأتي لإثارة الخلافات وخلق الفتنة.
إقرأوا أيضاً:
ملاحقة عائلات النشطاء
بحسب نشطاء، لا تكتفي الجماعات المسلحة باستهداف الناشطين بل تلاحق عوائلهم ايضا برسائل التهديد لاجبارهم على وقف متابعة ملفاتهم.
تعرضت بيوت نشطاء لهجمات بأسلحة نارية وبعبوات صوتية، كبيت الناشط حسين الغرابي في ذي قار، فيما تلقى آخرون رسائل تهديد.
يؤكد الناشط علي مهدي عجيل أن المجموعات المسلحة لا تتوانى عن فعل أي شيء لوقف الاحتجاجات “أنا علقوا في باب بيتي دمية طفل مشنوقة وملطخة بالدماء. كانت رسالة واضحة أنهم يعرفونني ويعرفون بيتي والأولاد وبإمكانهم أن يقتلوا أي شخص إذا لم أنسحب”.
يقول مالك الطيب الذي اغتيل شقيقه الناشط البارز في الديوانية ثائر الطيب في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2019 بواسطة عبوة لاصقة، والذي تواصل مع العديد من المسؤولين بما فيه رئيس الوزراء ووزير الداخلية لكشف قتلة شقيقه، أنه تلقى رسائل تهديد بالتوقف عن متابعة ملف شقيقه: “قبل فترة أثناء عودتي من العمل بسيارتي، قرب مستشفى الحسين، لحقت بي دراجة نارية يقودها شخص ملثم طلب مني التوقف للتحدث إلي. مررت بلحظات عصيبة وأنا اراقبه قبل ان يطالبني بترك الدعوى بشأن الكشف عن قتلة أخي، لأن في ذلك خطراً كبيراً على حياتي. أطلق كلماته وانطلق سريعاً، حاولت تعقبه لكنه دخل إلى الأزقة الضيقة واختفى”.
تتشابه محاولات الخطف في تفاصيلها، كما في نتائج التحقيقات التي تنتهي الى المجهول. ففي خمس قصص اختطاف وثقها معد التحقيق، كان المشهد العام: سيارة تحمل مسلحين تخطف الناشط من الشارع بعد أن تشهر في وجهه سلاحاً نارياً ليلتزم الصمت، وتؤكد انه سيخضع لاستجواب سريع، وتمر عبر نقاط تفتيش من دون أن تتوقف لتنتهي في موقع احتجاز تتم حراسته من قبل مسلّحين”.
عدادات الموتى
في 30 من تموز/ يوليو 2020 أعلن هشام داوود مستشار رئيس الوزراء أن عدد قتلى الاحتجاجات بلغ 560 شخصاً بين متظاهر ورجل امن، وأنها ستتعامل مع الجميع بصفتهم “شهداء” وستحصل كل أسرة على 10 ملايين دينار كتعويضات. قبلها بستة أشهر وتحديدا في الثالث من شباط 2020 اعلنت مفوضية حقوق الانسان عن مقتل 556 (منهم 17 منتسباً أمنياً) وإصابة 23545 ( 3519 منتسباً أمنياً) خلال الفترة الممتدة بين الأول من تشرين الاول 2019 و30 كانون الثاني 2020. كما كشفت عن 121 عملية اختطاف ومحاولة اغتيال.
فيما ووثق مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بين تشرين الأول 2019 ونيسان/ أبريل 2020، واستناداً إلى أكثر من 900 مقابلة مع أقارب ضحايا وشهود عيان وصحافيين ونشطاء مدنيين وسياسيين، مقتل 487 شخصاً على الأقل، وإصابة 7715 شخصاً بجراح خلال التظاهرات، غالبيتهم من الشباب، فضلاً عن اعتقال حوالى 3 آلاف متظاهر، ما أضاف مخاوف بشأن اعتقالات تعسفية وسوء معاملة، بحسب بيان لـ”يونامي”.
بعد أشهر من البحث والتدقيق والتواصل مع جهات متعددة بينها رسمية واخرى من تنسيقيات التظاهرات، تم إحصاء 561 قتيلاً وإصابة 24 ألفاً و688 شخصاً، بينهم 20 ألفاً و597 متظاهراً و4091 عنصراً أمنياً، إلى جانب 62 محاولة اغتيال، كان آخرها اغتيال ايهاب الوزني في وسط كربلاء.
هل سيحاسَب القتلة؟
حتى بعد اعتقال عدد من أفراد “عصابة الموت” في البصرة المتهمة بتنفيذ سلسلة عمليات قتل بينها اغتيال الصحفي أحمد عبد الصمد وزميله المصور صفاء غالي في كانون الثاني 2020، يشكك نشطاء بارزون بامكانية محاسبة المتورطين، ويرون أن الإفلات من العقاب سيظل سائداً.
لكن عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية والنائب عن البصرة بدر الزيادي، يبدي شيئاً من الأمل، ويصف اعتقالات بعض أفراد عصابة الموت بأنها “رسالة اطمئنان لأبناء البصرة بأن الأجهزة الأمنية قادرة على إلقاء القبض على المجرمين ولو بعد حين”.
ولم يخف طلب بعض القيادات الأمنية نقل المتهمين من البصرة إلى بغداد “لكي لا تكون هناك ضغوط على الأجهزة الأمنية ولا يتم تغيير الإفادات في ظل أي تأثير داخلي أو تدخل خارجي”.
الزيادي الذي أعرب عن أمله بأن تظهر التحقيقات “نتائج أكثر وأكبر حول الدوافع وراء تلك الاغتيالات، وطبيعة انتماءات أفرادها”، يقول إن اللجنة الأمنية النيابية ستفتح الملف وتحصل على معلومات دقيقة من الأجهزة الأمنية، “لكي لا تثبت الاغتيالات ضد مجهول”.
معركة خاسرة
في ظل حكومة عاجزة تغلغلت الجماعات السياسية ذات الأجنحة المسلحة في أجهزتها، يكاد يجمع نشطاء حراك تشرين باستحالة محاسبة المتورطين في عمليات الخطف والاغتيال، ويشككون بأن تفضي النتائج الى اعتقالات مؤثرة ومحاكمات وأحكام رادعة، مشيرين الى فشل الاجهزة في اعتقال متهمين رغم وجودهم في العراق، وان آخرين سيخرجون وسيبرر ذلك بغياب الأدلة.
يقول صحفي معروف في البصرة، رفض الرد على اسئلتنا مرارا، ثم تحدث بشرط عدم كشف أي شيء يدل على هويته: “نحن لا نتحدث لأننا نخشى الموت، لا نثق بالأجهزة الأمنية فهي مخترقة وعاجزة. اعتقلوا هنا بضعة أشخاص هم مجرد أدوات في حين ان كل اجهزة البصرة لم تستطع القبض على رئيس المجموعة الذي كان متواجدا في البصرة. ثم من يقول ان هؤلاء سيحاكمون؟ ربما نستيقظ يوما ونسمع عن إطلاق سراحهم لعدم كفاية الأدلة أو هروبهم! نحن في معركة خاسرة”.
ويضيف:”وصل بنا الحال إلى أنه إذا تم تهديدنا من قبل أشخاص او حصلنا على معلومات مهمة لا نستطيع تبليغ الأجهزة الأمنية بها لأن بلاغاتنا ستسرب الى الجماعات التي لن تتردد في تصفيتنا ولا رادع يمنعها. ايهاب الوزني سلم الأجهزة الأمنية أسماء من كانوا يهددونه. ماذا فعلت تلك الأجهزة؟ لا شيء. هم معروفون ويقومون بجرائمهم علناً والأجهزة تتفرج أو حتى تتستر وتقول إن الأدلة غير كافية”.
اليأس من إمكان تحقيق التغيير عبر الانتخابات وقبلها محاسبة الجناة، دفع “البيت الوطني”، إحدى القوى المنبثقة عن حراك تشرين، إلى إعلان مع قوى تشرينية أخرى، عن مقاطعتها للانتخابات. ولا يرى حسين الغرابي وهو أحد مؤسسي “البيت الوطني” جدوى من الانتخابات في ظل عجز الحكومة أمام سطوة الميليشيات وسلاحها: “كيف يمكنني أن أنافسهم وكل أوراق اللعبة بيدهم”.
ويرى الغرابي أن هناك “تماهياً” من الحكومة بالكشف عن المتورطين: “المتورطون هم من الأحزاب التي تمسك بزمام السلطة، جميعها تمتلك ميليشيات ولديها سلاح خارج الدولة والاغتيالات تصب في صالحها لأنها تهدف إلى إنهاء الاحتجاجات عبر ترهيب الأصوات البارزة”.
يتفق النائب عبد القهار السامرائي، مع آراء النشطاء بشأن تقصير الحكومة في كشف الجناة “استبدال حكومة عبد المهدي بهذه الحكومة لم يكن ذا جدوى”. ويضيف أن “ما كان يأمله المتظاهرون لم تقم به هذه الحكومة، لذا هم ناقمون اليوم عليها أكثر من الأمس والقوى التي تعمل خارج نطاق الدولة تزيد من احتقان الشارع”.
إقرأوا أيضاً:
الإبن المغيب والأب المقتول
في 10 آذار/ مارس 2021، تعرض جاسب حطاب الهليجي، والد المحامي المختطف علي جاسب، لعملية اغتيال في مدينة العمار بمحافظة ميسان، بعد ساعات من مشاركته في مراسم الذكرى السنوية لمقتل الناشط البارز عبد القدوس قاسم.
جاسب، رجل كهل عرف بمشاركته في تظاهرات تشرين ونشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب اختطاف ابنه المحامي والناشط المدني في الثامن من تشرين الأول 2019 أمام جامع الراوي وسط العمارة، وانقطع أثره من ذلك الحين.
بعد ساعات من الاغتيال، أعلنت الشرطة القاء القبص على الجاني حسين عباس وأن الجريمة وقعت بسبب خلاف عشائري. فيما ذكر مجلس القضاء الأعلى في بيان أن “المتهم أفاد في اعترافاته بأن المجنى عليه (وهو زوج عمته) كان يتهمه باختطاف ابنه ما أدى الى حدوث خلافات وصلت لتقديم شكوى ضده. وان الضغوطات التي تعرض لها دفعته إلى قتل المجنى عليه”.
إلا أن عائلة جاسب، بدت غير مقتنعة بتلك الرواية، وطالبت بمعرفة الجهة التي قامت بدفع الجاني إلى عملية القتل، والجهة التي تقف خلف خطف ابنها علي.
طوال نحو عام ونصف العام، كان جاسب يحاول إثارة قضية التغييب، ويشارك في الاحتجاجات وهو يرفع صورة ابنه المختطف وأحفاده الأيتام، مطالباً بكشف مصيره. انتهى انتظار جاسم لمعرفة مصير ابنه المغيب بمقتله، لكن حفيديه سيكبران وسط دائرة الانتظار والانتقام بلا أب ولا جد.
أنجز التحقيق بدعم من مؤسسة “نيريج” للصحافة الاستقصائية
إقرأوا أيضاً: