fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

العراق: عن الوصاية التي لا تنتهي على أجساد النساء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تقول صديقتي إن الطعن المستمر بالنساء، وبآرائهن وأفكارهن، غالباً ما يكون صادراً عن أشخاص هم في الحقيقة ليسوا سوى مساكين وضحايا، فتقنع نفسها وتقنعني وتحاول إقناع من حولها، ثم يعود الواقع الذي يخبرنا ألا مسكين على هذه الخريطة غيرنا؛ نحن النساء، ليصدمنا كلنا. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“قليلة حياء، لا تستحي، صوتها وأفعالها ستسحب البلاد إلى الهاوية، عاقبوها ولا تُفسحوا المجال لأمثالها لتحطيم صورة بناتنا، إنها لا تمثل المرأة العراقية المحترمة، تريد تشويه سمعة العراقيات”… تنتشر هذه الكلمات وتتنقل بين صفحات التواصل الاجتماعي بشكل عشوائي، فيبدو الأمر أشبه بحفلة توزيع صكوك الأخلاقيات، بمواجهة سيدة وحيدة، لم تفعل شيئاً سوى أنها رفضت الظلم، وأعلنت ذلك بصوت عالٍ، صوت لا يريدون له أن يظهر ولو همساً، فكيف إذا صار أعلى من أصواتهم؟

حقيقة، لا أعرف كيف أبدأ بشرح الحكاية، إنها مؤلمة ومعقدة ومتشعبة، كما أنني أشعر بالخجل من مغبة البقاء في دائرة التبرير والدفاع ومحاولة التفسير والتحليل أحياناً، باعتبار ذلك كله نوعاً من المساومة على جراحنا.

فنحن في مواجهات كثيرة نخوضها دفاعاً عن وجودنا وحقوقنا، نحاول البحث عن أعذار لأسباب خوضنا أي معركة، أظن أن ذلك يجعلنا نشعر بالارتياح، فنتغاضى عن التفكير في ماهية وجودنا كنساء في هذا البلد.

تقول صديقتي إن الطعن المستمر بالنساء، وبآرائهن وأفكارهن، غالباً ما يكون صادراً عن أشخاص هم في الحقيقة ليسوا سوى مساكين وضحايا، فتقنع نفسها وتقنعني وتحاول إقناع من حولها، ثم يعود الواقع الذي يخبرنا ألا مسكين على هذه الخريطة غيرنا؛ نحن النساء، ليصدمنا كلنا. 

الحوار يفضح وجه المجتمع الحقيقي 

يعد إجراء حوار تلفزيوني حول تعديل قانون الأحوال الشخصية، يستضيف نائباً مؤيداً لتعديل القانون هو حسين الكناني، ورجل دين مؤيداً أيضاً، ومحامية رافضة له هي قمر السامرائي، أمراً طبيعياً أليس كذلك؟ تبدأ المحامية؛ بناء على خبرتها ودراستها، بذكر أحكام من الفقه والشرع، تؤكد بطلان فقرات القانون الجديد، الذي يريد البرلمان العراقي تشريعه، كلام يستند إلى حقائق دينية ووقائع تاريخية، لم تتلفظ بشيء من استنتاجاتها الشخصية، ولم تحرّف قولاً أو نصاً. 

قبل أن تكمل كلامها، يقرر النائب مقاطعتها، محاولاً أن يعدل فقرة قرأتها، فيسألها: من أين تعلمت الفقه؟ ويكمل: “شكلك لا يوحي بذلك”. 

كانت هذه اللحظة هي التي حتى جعلتني أنتبه إلى مظهر المحامية قمر السامرائي الخارجي، شعر أشقر مصفف بعناية في صالون التجميل، عدسات زرقاء اللون، أظافر طويلة مطلية، مكياج محترف، مجوهرات وسترة أنيقة، كان هذا المظهر كافياً لتحطيم الصورة النمطية التي يريد لها النائب العتيد، وعدد ليس بالقليل من المواطنين أو من أنصار القانون الجديد داخل البرلمان وخارجه، أن تكون وأن تُعمم، وإلا سيتم التشكيك فيها أخلاقياً.

“هل تصلين؟ شكلك لا يوحي بذلك”، يطرح الكناني المزيد من الأسئلة على قمر السامرائي، ويستمر باستفزازها والإساءة إليها أخلاقياً، عن طريق تحويل مسار الموضوع والحديث العام إلى قضية شخصية خاصة جداً، مثل مظهرها الخارجي، وسحب الحوار نحو  قضية حساسة ووتر يشد العراقيين بقوة، هو عقدة الشرف. 

تقلب الطاولة بالفشل 

لم يتمكن الكناني من مجاراة المحامية في حديثها عن عيوب القانون ومعارضتها المنطقية له، بحجج استقتها من السياق الديني قبل السياقين المدني والإنساني، ولم يقدم لنا كمشاهدين، المعلومات التي يجب أن نعرفها أو نطلع عليها.

 مثلاً، يردد هو ومؤيدو القانون من النواب بشكل مستمر في اللقاءات، تفنيداً لفكرة زواج الفتاة بعمر التاسعة، نبحث عن أدلتهم فلا نجدها، فيلجأون عند المحاججة إلى “الحديث بالأعراض” بسخرية وتهكّم.

في الحوار التلفزيوني، كان الكناني يتعمد الانتقاص من معلومات قمر السامرائي الدينية، معللاً رأيه بأن مظهرها لا يوحي بإيمانها أو بمعرفتها بأصول الدين، وهي بالطبع لم تسكت، وهذا ما أدخل كثيرين في حالة إنذار وتأهب لحراسة بوابة الشرف النسائي العراقي وحمايتها من العادات الغربية. 

وردت هي عليه بلهجة حادة وصوت شجاع وقوي، كانت واثقة من معلوماتها، وطلبت منه أن يكون محترماً، وألا يُدخل حياة الآخرين الخاصة في حوار تلفزيوني… لم يشعر النائب بالخجل. 

وعلى رغم أنه لم يستطع تكذيبها بالبراهين والأدلة، ولم ينكر إتاحة القانون الجديد زواج القاصرات، واعترف بأن الزوجة لا ترث الأرض من زوجها، وقال حرفياً: “إنهم لا يعتمدون في كل تشريعاتهم على القرآن”، وهو نقيض تعليله أن القانون الجديد هو تطبيق لشريعة الله والإسلام، لكن أحداً لم يتهمه بإدخال العراق في عصر الظلمات، ولم يذكر أحد أنه يشجع على إحياء قوانين استعبادية، ولم يتعرض إلى هجوم أو تهديد أو أي نوع من العنف، كذلك الذي تعرضت له قمر السامرائي.

 وجد المعلقون طريقاً سريعاً لإدانة المحامية وتناولوا سمعتها بالسوء بسهولة، لأنها امرأة، ولأنها تمكنت من مصارعة ذكرين يحملان شعار الظلم والاضطهاد وكبحهما. 

الكناني الذي أراد دخول منطقة رخيصة، مثل الحديث عن فكرة معقدة كالشرف، لا نعرف ما مفهومها في رؤوس معتنقيها، إلا من خلال مواقف مبهمة كالحوار التلفزيوني، هو ليس سوى نموذج عن شريحة واسعة من مجتمع يأكل ويشرب كلمات الشرف والأخلاق والطعن بأعراض النساء والتشكيك في مبادئهن من خلال مظهرهن الخارجي فقط، فتشعر أن هناك معركة أخلاقية مستعرة دائمة، الجميع فيها يريد أن يثبت أنه صاحب الفضيلة، لا أدري ما هو الرابط، لكن لمَ الفضيلة مهزوزة الى درجة أنها قد تنهار بسبب خصلة شعر، وكيف يحدث ذلك؟ 

كلهم أوصياء عليّ 

 يعتبر الذكوريون في العراق أنفسهم أوصياء على النساء، تقول لي صديقتي إنها كانت تقف بانتظار السائق، فرأت ابن جيرانها الذي يبلغ من العمر عشر سنوات، وهو ينهر جارته التي تكبره بسنوات عدة بحدّة، ويصرخ عليها: ماذا تفعلين عند عتبة الباب؟ أدخلي. 

تبدأ عملية ضخ الأفكار وغسل العقول لدى الذكر العراقي منذ اللحظة الأولى لولادته، ويستمر تحريضه على التحكم وقيادة البيت والسيطرة عليه في السنوات اللاحقة. 

فتشجعه العائلة والمجتمع على فرض رأيه على كل من في البيت من النساء طبعاً، وأنه لا عيب في كل ما يفعله، حتى يصل إلى مرحلة يشعر فيها وكأنه مسؤول عن نساء العراق كلهن، فيمنح نفسه حق الوصاية عليهن، بدءاً من نساء بيته وعائلته حتى  جاراته وزميلاته في العمل.

وهكذا يصبح “شرفه الشخصي” مرتبطاً بنساء لا يعرفهن، ويبدأ بقياس أخلاقه ومبادئه عن طريق أفعال النساء، لا يعرف ما معنى التربية الذاتية، ولا يعلم ما معنى الشرف بغير مفهوم “أجساد النساء”.

في حوار أجريته مع امرأة كانت تعرضت إلى تعنيف من زوجها، تقول: “سبعين مرة، حسبتها ضربة بعد ضربة، وفي كل مرة كنت أعود لبيت أهلي، أو أُجبر على العودة، كل هذه الأورام في جسدي أهون من صفة مطلقة، ماذا سيتداوله الناس عنا؟ أين شرفنا؟”، تبكي وهي تدرك ضيق السجن الذي تعيش في داخله، وتضيف: “يجهل الناس ما هو مفهوم الشرف الحقيقي، فيهرعون إلى أسهل ما يصادفهم، إلى أكثر ما هم قادرون حقاً على حيازته، النساء. أما السرقات، الرشاوى، الخيانات الزوجية، التعنيف، فلا علاقة لها بشرف الرجل، شرفه خاص به، وشرفنا خاص بالوطن”. 

من هي العراقية “المحترمة”؟ 

لا أعلم كيف يكون شكل “العراقية المحترمة”، ومن يحدد قانون الاحترام، وعلى ماذا يستندون في أدلتهم، ليقدموا أو يسحبوا صكوك العفة والأخلاق؟

في إحدى المرات، استقليت سيارة تاكسي، وقبل إعطاء الأجرة ونزولي، احتجّ السائق على ثيابي التي ارتديها، لأنها برأيه ليست “لائقة”.

 لم أجبه، أردت أن أُغلق الباب، لئلا أسمع كامل جملته، لكنها تسربت إلي من النافذة، سمعته يقول: “لبسج ما مو مال عراقية محترمة”. 

وهنا تتكرر المعضلة، فهذا السائق لا يرى نفسه حشرياً يتعدى على حياة الآخرين الخاصة، بل يعتبر نفسه الوصي الذي يعرف أكثر مما أعرف، وينصحني لمصلحتي وحماية لحياتي، شيء تربى عليه، شيء سيلقى كل التشجيع حين يكرره: “وشكو بيها فوق ما ينصحج ويريد لج الستر؟” تعلق امرأة احتجاجاً على امتعاضي من السائق.  

ترتكز هذه الشريحة على فكرة يتداولها ويتلاعب بها المجتمع القبلي والديني في العراق، وهي الصورة النمطية المتداولة عن المرأة، بعيد نشوب “الحملة الإيمانية” التي استحدثها صدام حسين مطلع التسعينيات، إثر هزيمته في حرب الكويت ومحاولات الانقلاب عليه، إذ قرب رجال العشيرة والدين منه، ومنحهم صلاحيات مطلقة للتحكم بالمرأة.

كانت هذه الخطوة واحدة من الخطوات لتقوية أركان حكمه وتعزيز الوصاية الأبوية في زمنه، فدرج على إثرها صبغ سيقان النساء المرتديات تنانير قصيرة، وإدخالهن السجن؛ كإجراء تأديبي إذا ما شوهدن واقفات مع رجال غرباء في الشارع، وقد بدأها بقطع رأس أكثر من خمسين عاملة في النوادي الليلية المجازة. 

ازدادت الممارسات حتى أصبح لكل فرد قوانينه الخاصة ليس على نساء عائلته فحسب، بل صار يعتقد أن كل إناث العراق مسؤوليته، ولا أحد يعاقبه مهما تصرّف! 

حتى يومنا هذا، لا تزال هذه الصورة التي أطّروا بها النساء سائدة، ومن تعارض أو تنتفض تُعاقب بالتخوين وبالتشكيك في سلوكها، وبالقتل في بعض الأحيان.

أما بعدما تفقد العبارات التي تربت العراقية على الشعور بالرعب منها، مثل: غير شريفة، منحطة أخلاقياً، تأثيرها عليها، ينتقلون من أجل إسكاتها، إلى مرحلة أخرى، وهي المرحلة الخطرة، أي إطلاق الاتهامات التي تحتوي على التحريض والتضليل والترهيب والتهديد، فتصبح المرأة، بعثية، ممولة من سفارات غايتها تدمير العراق، داعمة للصهيونية، وتنتشر إشاعات بأنها تروّج لتخريب الدين وعميلة، لتكون هذه الطريقة الأسهل لإسكاتها، فتسكت حقاً. 

ما زلنا تحت الوصاية 

هذه الممارسات لا تولد ضغطاً هائلاً على النساء فحسب، إنها مسألة لا يمكن تصور بشاعتها وحجم قساوتها، فحين تدرك المرأة أن ثمن الكلمة التي تقولها أغلى مما تعتقد، عليها أن تصمد وتكافح، وعليها أن تقف بوجه الرقابة، التي تشعرها أن المجتمع هو شخص واحد يلاحقها، وفي كل مرة بهيئة وبسبب جديدين، وهو معروف ومكشوف على رغم ارتداء أقنعة الوقار والرحمة وحماية الشرع، إذ لم يعد قادراً على إخفاء الحقيقة: إنه ما زال وصياً علينا. 

وائل السواح- كاتب سوري | 19.04.2025

تجربة انتخابية سورية افتراضية: أيمن الأصفري رئيساً

رغبتُ في تبيان أن الشرع ليس المرشّح المفضّل لدى جميع السوريين في عموم مناطقهم واتّجاهاتهم السياسية، وفقط من أجل تمرين عقلي، طلبتُ من أصدقائي على حسابي على "فيسبوك" المشاركة في محاكاة انتخابية، لاستقصاء الاتّجاه الذي يسير فيه أصدقائي، مفترضاً طبعاً أن معظمهم يدور في دائرة فكرية متقاربة، وإن تكُ غير متطابقة.
12.08.2024
زمن القراءة: 7 minutes

تقول صديقتي إن الطعن المستمر بالنساء، وبآرائهن وأفكارهن، غالباً ما يكون صادراً عن أشخاص هم في الحقيقة ليسوا سوى مساكين وضحايا، فتقنع نفسها وتقنعني وتحاول إقناع من حولها، ثم يعود الواقع الذي يخبرنا ألا مسكين على هذه الخريطة غيرنا؛ نحن النساء، ليصدمنا كلنا. 

“قليلة حياء، لا تستحي، صوتها وأفعالها ستسحب البلاد إلى الهاوية، عاقبوها ولا تُفسحوا المجال لأمثالها لتحطيم صورة بناتنا، إنها لا تمثل المرأة العراقية المحترمة، تريد تشويه سمعة العراقيات”… تنتشر هذه الكلمات وتتنقل بين صفحات التواصل الاجتماعي بشكل عشوائي، فيبدو الأمر أشبه بحفلة توزيع صكوك الأخلاقيات، بمواجهة سيدة وحيدة، لم تفعل شيئاً سوى أنها رفضت الظلم، وأعلنت ذلك بصوت عالٍ، صوت لا يريدون له أن يظهر ولو همساً، فكيف إذا صار أعلى من أصواتهم؟

حقيقة، لا أعرف كيف أبدأ بشرح الحكاية، إنها مؤلمة ومعقدة ومتشعبة، كما أنني أشعر بالخجل من مغبة البقاء في دائرة التبرير والدفاع ومحاولة التفسير والتحليل أحياناً، باعتبار ذلك كله نوعاً من المساومة على جراحنا.

فنحن في مواجهات كثيرة نخوضها دفاعاً عن وجودنا وحقوقنا، نحاول البحث عن أعذار لأسباب خوضنا أي معركة، أظن أن ذلك يجعلنا نشعر بالارتياح، فنتغاضى عن التفكير في ماهية وجودنا كنساء في هذا البلد.

تقول صديقتي إن الطعن المستمر بالنساء، وبآرائهن وأفكارهن، غالباً ما يكون صادراً عن أشخاص هم في الحقيقة ليسوا سوى مساكين وضحايا، فتقنع نفسها وتقنعني وتحاول إقناع من حولها، ثم يعود الواقع الذي يخبرنا ألا مسكين على هذه الخريطة غيرنا؛ نحن النساء، ليصدمنا كلنا. 

الحوار يفضح وجه المجتمع الحقيقي 

يعد إجراء حوار تلفزيوني حول تعديل قانون الأحوال الشخصية، يستضيف نائباً مؤيداً لتعديل القانون هو حسين الكناني، ورجل دين مؤيداً أيضاً، ومحامية رافضة له هي قمر السامرائي، أمراً طبيعياً أليس كذلك؟ تبدأ المحامية؛ بناء على خبرتها ودراستها، بذكر أحكام من الفقه والشرع، تؤكد بطلان فقرات القانون الجديد، الذي يريد البرلمان العراقي تشريعه، كلام يستند إلى حقائق دينية ووقائع تاريخية، لم تتلفظ بشيء من استنتاجاتها الشخصية، ولم تحرّف قولاً أو نصاً. 

قبل أن تكمل كلامها، يقرر النائب مقاطعتها، محاولاً أن يعدل فقرة قرأتها، فيسألها: من أين تعلمت الفقه؟ ويكمل: “شكلك لا يوحي بذلك”. 

كانت هذه اللحظة هي التي حتى جعلتني أنتبه إلى مظهر المحامية قمر السامرائي الخارجي، شعر أشقر مصفف بعناية في صالون التجميل، عدسات زرقاء اللون، أظافر طويلة مطلية، مكياج محترف، مجوهرات وسترة أنيقة، كان هذا المظهر كافياً لتحطيم الصورة النمطية التي يريد لها النائب العتيد، وعدد ليس بالقليل من المواطنين أو من أنصار القانون الجديد داخل البرلمان وخارجه، أن تكون وأن تُعمم، وإلا سيتم التشكيك فيها أخلاقياً.

“هل تصلين؟ شكلك لا يوحي بذلك”، يطرح الكناني المزيد من الأسئلة على قمر السامرائي، ويستمر باستفزازها والإساءة إليها أخلاقياً، عن طريق تحويل مسار الموضوع والحديث العام إلى قضية شخصية خاصة جداً، مثل مظهرها الخارجي، وسحب الحوار نحو  قضية حساسة ووتر يشد العراقيين بقوة، هو عقدة الشرف. 

تقلب الطاولة بالفشل 

لم يتمكن الكناني من مجاراة المحامية في حديثها عن عيوب القانون ومعارضتها المنطقية له، بحجج استقتها من السياق الديني قبل السياقين المدني والإنساني، ولم يقدم لنا كمشاهدين، المعلومات التي يجب أن نعرفها أو نطلع عليها.

 مثلاً، يردد هو ومؤيدو القانون من النواب بشكل مستمر في اللقاءات، تفنيداً لفكرة زواج الفتاة بعمر التاسعة، نبحث عن أدلتهم فلا نجدها، فيلجأون عند المحاججة إلى “الحديث بالأعراض” بسخرية وتهكّم.

في الحوار التلفزيوني، كان الكناني يتعمد الانتقاص من معلومات قمر السامرائي الدينية، معللاً رأيه بأن مظهرها لا يوحي بإيمانها أو بمعرفتها بأصول الدين، وهي بالطبع لم تسكت، وهذا ما أدخل كثيرين في حالة إنذار وتأهب لحراسة بوابة الشرف النسائي العراقي وحمايتها من العادات الغربية. 

وردت هي عليه بلهجة حادة وصوت شجاع وقوي، كانت واثقة من معلوماتها، وطلبت منه أن يكون محترماً، وألا يُدخل حياة الآخرين الخاصة في حوار تلفزيوني… لم يشعر النائب بالخجل. 

وعلى رغم أنه لم يستطع تكذيبها بالبراهين والأدلة، ولم ينكر إتاحة القانون الجديد زواج القاصرات، واعترف بأن الزوجة لا ترث الأرض من زوجها، وقال حرفياً: “إنهم لا يعتمدون في كل تشريعاتهم على القرآن”، وهو نقيض تعليله أن القانون الجديد هو تطبيق لشريعة الله والإسلام، لكن أحداً لم يتهمه بإدخال العراق في عصر الظلمات، ولم يذكر أحد أنه يشجع على إحياء قوانين استعبادية، ولم يتعرض إلى هجوم أو تهديد أو أي نوع من العنف، كذلك الذي تعرضت له قمر السامرائي.

 وجد المعلقون طريقاً سريعاً لإدانة المحامية وتناولوا سمعتها بالسوء بسهولة، لأنها امرأة، ولأنها تمكنت من مصارعة ذكرين يحملان شعار الظلم والاضطهاد وكبحهما. 

الكناني الذي أراد دخول منطقة رخيصة، مثل الحديث عن فكرة معقدة كالشرف، لا نعرف ما مفهومها في رؤوس معتنقيها، إلا من خلال مواقف مبهمة كالحوار التلفزيوني، هو ليس سوى نموذج عن شريحة واسعة من مجتمع يأكل ويشرب كلمات الشرف والأخلاق والطعن بأعراض النساء والتشكيك في مبادئهن من خلال مظهرهن الخارجي فقط، فتشعر أن هناك معركة أخلاقية مستعرة دائمة، الجميع فيها يريد أن يثبت أنه صاحب الفضيلة، لا أدري ما هو الرابط، لكن لمَ الفضيلة مهزوزة الى درجة أنها قد تنهار بسبب خصلة شعر، وكيف يحدث ذلك؟ 

كلهم أوصياء عليّ 

 يعتبر الذكوريون في العراق أنفسهم أوصياء على النساء، تقول لي صديقتي إنها كانت تقف بانتظار السائق، فرأت ابن جيرانها الذي يبلغ من العمر عشر سنوات، وهو ينهر جارته التي تكبره بسنوات عدة بحدّة، ويصرخ عليها: ماذا تفعلين عند عتبة الباب؟ أدخلي. 

تبدأ عملية ضخ الأفكار وغسل العقول لدى الذكر العراقي منذ اللحظة الأولى لولادته، ويستمر تحريضه على التحكم وقيادة البيت والسيطرة عليه في السنوات اللاحقة. 

فتشجعه العائلة والمجتمع على فرض رأيه على كل من في البيت من النساء طبعاً، وأنه لا عيب في كل ما يفعله، حتى يصل إلى مرحلة يشعر فيها وكأنه مسؤول عن نساء العراق كلهن، فيمنح نفسه حق الوصاية عليهن، بدءاً من نساء بيته وعائلته حتى  جاراته وزميلاته في العمل.

وهكذا يصبح “شرفه الشخصي” مرتبطاً بنساء لا يعرفهن، ويبدأ بقياس أخلاقه ومبادئه عن طريق أفعال النساء، لا يعرف ما معنى التربية الذاتية، ولا يعلم ما معنى الشرف بغير مفهوم “أجساد النساء”.

في حوار أجريته مع امرأة كانت تعرضت إلى تعنيف من زوجها، تقول: “سبعين مرة، حسبتها ضربة بعد ضربة، وفي كل مرة كنت أعود لبيت أهلي، أو أُجبر على العودة، كل هذه الأورام في جسدي أهون من صفة مطلقة، ماذا سيتداوله الناس عنا؟ أين شرفنا؟”، تبكي وهي تدرك ضيق السجن الذي تعيش في داخله، وتضيف: “يجهل الناس ما هو مفهوم الشرف الحقيقي، فيهرعون إلى أسهل ما يصادفهم، إلى أكثر ما هم قادرون حقاً على حيازته، النساء. أما السرقات، الرشاوى، الخيانات الزوجية، التعنيف، فلا علاقة لها بشرف الرجل، شرفه خاص به، وشرفنا خاص بالوطن”. 

من هي العراقية “المحترمة”؟ 

لا أعلم كيف يكون شكل “العراقية المحترمة”، ومن يحدد قانون الاحترام، وعلى ماذا يستندون في أدلتهم، ليقدموا أو يسحبوا صكوك العفة والأخلاق؟

في إحدى المرات، استقليت سيارة تاكسي، وقبل إعطاء الأجرة ونزولي، احتجّ السائق على ثيابي التي ارتديها، لأنها برأيه ليست “لائقة”.

 لم أجبه، أردت أن أُغلق الباب، لئلا أسمع كامل جملته، لكنها تسربت إلي من النافذة، سمعته يقول: “لبسج ما مو مال عراقية محترمة”. 

وهنا تتكرر المعضلة، فهذا السائق لا يرى نفسه حشرياً يتعدى على حياة الآخرين الخاصة، بل يعتبر نفسه الوصي الذي يعرف أكثر مما أعرف، وينصحني لمصلحتي وحماية لحياتي، شيء تربى عليه، شيء سيلقى كل التشجيع حين يكرره: “وشكو بيها فوق ما ينصحج ويريد لج الستر؟” تعلق امرأة احتجاجاً على امتعاضي من السائق.  

ترتكز هذه الشريحة على فكرة يتداولها ويتلاعب بها المجتمع القبلي والديني في العراق، وهي الصورة النمطية المتداولة عن المرأة، بعيد نشوب “الحملة الإيمانية” التي استحدثها صدام حسين مطلع التسعينيات، إثر هزيمته في حرب الكويت ومحاولات الانقلاب عليه، إذ قرب رجال العشيرة والدين منه، ومنحهم صلاحيات مطلقة للتحكم بالمرأة.

كانت هذه الخطوة واحدة من الخطوات لتقوية أركان حكمه وتعزيز الوصاية الأبوية في زمنه، فدرج على إثرها صبغ سيقان النساء المرتديات تنانير قصيرة، وإدخالهن السجن؛ كإجراء تأديبي إذا ما شوهدن واقفات مع رجال غرباء في الشارع، وقد بدأها بقطع رأس أكثر من خمسين عاملة في النوادي الليلية المجازة. 

ازدادت الممارسات حتى أصبح لكل فرد قوانينه الخاصة ليس على نساء عائلته فحسب، بل صار يعتقد أن كل إناث العراق مسؤوليته، ولا أحد يعاقبه مهما تصرّف! 

حتى يومنا هذا، لا تزال هذه الصورة التي أطّروا بها النساء سائدة، ومن تعارض أو تنتفض تُعاقب بالتخوين وبالتشكيك في سلوكها، وبالقتل في بعض الأحيان.

أما بعدما تفقد العبارات التي تربت العراقية على الشعور بالرعب منها، مثل: غير شريفة، منحطة أخلاقياً، تأثيرها عليها، ينتقلون من أجل إسكاتها، إلى مرحلة أخرى، وهي المرحلة الخطرة، أي إطلاق الاتهامات التي تحتوي على التحريض والتضليل والترهيب والتهديد، فتصبح المرأة، بعثية، ممولة من سفارات غايتها تدمير العراق، داعمة للصهيونية، وتنتشر إشاعات بأنها تروّج لتخريب الدين وعميلة، لتكون هذه الطريقة الأسهل لإسكاتها، فتسكت حقاً. 

ما زلنا تحت الوصاية 

هذه الممارسات لا تولد ضغطاً هائلاً على النساء فحسب، إنها مسألة لا يمكن تصور بشاعتها وحجم قساوتها، فحين تدرك المرأة أن ثمن الكلمة التي تقولها أغلى مما تعتقد، عليها أن تصمد وتكافح، وعليها أن تقف بوجه الرقابة، التي تشعرها أن المجتمع هو شخص واحد يلاحقها، وفي كل مرة بهيئة وبسبب جديدين، وهو معروف ومكشوف على رغم ارتداء أقنعة الوقار والرحمة وحماية الشرع، إذ لم يعد قادراً على إخفاء الحقيقة: إنه ما زال وصياً علينا. 

12.08.2024
زمن القراءة: 7 minutes
|
آخر القصص
لبنان في متاهة السلاح
طارق اسماعيل - كاتب لبناني | 19.04.2025
النظام الرعائي المؤسّساتي: الإصلاح يبدأ أولاً من هناك
زينة علوش - خبيرة دولية في حماية الأطفال | 19.04.2025
تونس: سقوط جدار المزونة يفضح السلطة العاجزة
حنان زبيس - صحافية تونسية | 19.04.2025

اشترك بنشرتنا البريدية