تشهد المناطق ذات الغالبية السنية، كالأنبار، حملات انتخابية ساخنة مقارنة بالمناطق ذات الغالبية الشيعية والكردية في شمالي العراق وجنوبه. فقد بدأت القوى السياسية هناك حملاتها مبكرا للانتخابات التي ستجري في العاشر من تشرين الأول أكتوبر، وسط حماسة غير مسبوقة لدى جزء كبير من الناخبين السنة الذين كانوا قد اعتادوا ولنحو عقد ونصف على حالة من الانقسام بين أغلبية دعت لمقاطعة الانتخابات والعملية السياسية برمتها وأقلية حثت على المشاركة، لكن الصورة معكوسة هذه المرة: “في آخر مرتين لم أصوت، ربما هذه المرة سأفعل، فقد يتحسن الوضع، من يدري ؟!”، يخرج الأربعيني خضر الدليمي بطاقته الانتخابية من محفظته بعد ساعات من تسلمها مخاطباً صديقه.

الدليمي، مثل كثيرين غيره في بلدة الفلوجة التابعة لمحافظة الأنبار غربي العراق، عزف عن المشاركة في الجولات الانتخابات البرلمانية الأربع السابقة بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة ودعوات المقاطعة و الاعتقاد الشعبي السائد وقتها بعدم جدوى صناديق الاقتراع.
يشير بيده الى واجهة محل تجاري يملكه شقيقه وسط المدينة حيث علقت صورة مرشح لإحدى الكتل السياسية ويقول: “أخي متحمس كثيراً، لقد مللنا من المعارك والأزمات، نريد شخصيات متوازنة تتفهم واقع المنطقة لضمان الاستقرار فيها وليستمر الإعمار الذي بدأ مؤخرا”.
لا حديث في مدن الأنبار وبلداتها إلا عن الانتخابات، ولا تكاد تصادف مكانا عاما إلا وتواجهك فيه صور المرشحين عن الجبهتين السنيتين الكبرتين (العزم والتقدم) اللتين تتصارعان لحصد أصوات المكون الى جانب قوى أخرى أقل شأناً وحضوراً. يتكرر المشهد ذاته في مدن محافظتي نينوى وصلاح الدين كما ديالى واجزاء من العاصمة بغداد.
توقعات بمشاركة عالية
يقول الناشط أيوب عاصي إن الشارع السني عموما مهتم بالانتخابات هذه المرة، مع قناعته في ذات الوقت بأنها لن تأتي بتغيير كبير “الناس يأملون أن تسهم مشاركتهم في إدامة الاستقرار في مناطقهم التي واجهت الإرهاب والتدمير بعد 2004 وحتى 2017 عقب انتهاء الحرب ضد داعش، وان تدفع لإعادة اعمارها وتطوير واقعها من خلال تعزيز الوجود السني في السلطة بالعراق”.
ويعتقد أيوب أن مزاج الشارع السني اليوم للمشاركة أفضل بكثير بالمقارنة بالماضي يوم كان رفض الانتخابات هو السائد فضلاً عن تهديد وتخوين المشاركين فيها. بدلاً من ذلك “الأكثرية تحث على المشاركة الفاعلة هذه الأيام”، لافتاً إلى أن الدعوات المكثفة للمشاركة لا تقتصر على القنوات الاعلامية الحزبية، بل امتدت إلى المجالس الاجتماعية وللمنابر الدينية.
تختلف الصورة في مناطق وسط وجنوب العراق الشيعية وحتى في شماله الكردي، حيث يبدي باحثون ونشطاء مخاوفهم من ضعف المشاركة بسبب تراجع الثقة بالأحزاب النافذة.
فالنشطاء المشاركون في الاحتجاجات ضد الحكومة العراقية في العاصمة والمحافظات الجنوبية يدعون الى المقاطعة وقد انسحبت بالفعل معظم الكتل التي تشكلت عن حراكهم الاحتجاجي، ولن تخوض غمار الصراع الانتخابي.
وفي كردستان لا يخفي مسؤولون في الأحزاب الكردية مخاوفهم من العزوف الشعبيز. ويأمل القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني محمود سنكاوي، أن لا تحصل مقاطعة كبيرة بسبب استمرار الفساد وغياب العدالة الاجتماعية، وهو ما دفعه في تجمع انتخابي إلى الطلب من الناخبين “عدم معاقبتهم في انتخابات البرلمان الإتحادي لأهميتها، وتأجيل الأمر الى انتخابات برلمان كردستان”.
التطلع إلى تمثيل اقوى
في الدورات الانتخابية السابقة لم تسجل محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين نسبة مشاركة عالية مقارنة بباقي محافظات العراق، نتيجة تدهور الأمن فيها وإصدار الجماعات الدينية المتشددة كالقاعدة وأنصار السنة ومن ثم داعش فتاوى حرمت المشاركة بالعملية السياسية، بتأييد من زعامات دينية وعشائرية محلية.
تلك الدعوات أدت إلى انقسام سياسي واجتماعي بشأن شرعية وجدوى المشاركة في الانتخابات الأمر الذي انعكس سلبا على طبيعة تمثيل المكون السني ونسبته في المشهد السياسي والتشكيلات الحكومية المتعاقبة.
يقول الصحفي دلوفان برواري، وهو من أبناء محافظة نينوى، إن ضعف المشاركة أو الحضور السياسي للمكون السني كان نتيجة عزوف ناخبيه خوفا من انتقام الجماعات المسلحة او لعدم ايمانهم بالعملية السياسية. وهو أمر بحسب دلوفان الذي رأس تحرير صحيفة “وادي الرافدين” في الموصل سنة 2003، سمح لكتل سياسية محدودة في تلك المحافظات بالوصول إلى البرلمان وتمثيل تلك المناطق بالاعتماد على جمهورها الثابت من دون أن يعكس ذلك تمثيلا حقيقيا للمكون: “ربما يريد السنة تغير ذلك المسار الذي أضر بحجم وقوة تمثيلهم في السلطة من خلال المراهنة على مشاركة أكبر من الدورات الانتخابية السابقة خاصة في المحافظات المختلطة”.
في الأنبار التي تحولت الى مركز ثقل المكون وصاحبة التمثيل الأكبر في الحكومة، يأمل سياسيوها بتحقيق مشاركة مليونية لناخبيهم “لتحقيق تغيير ولو جزئي في موازين العملية السياسية التي شكلوا طوال 18 عاماً طرفها الثالث، لكن الأضعف”.
قوتان متنافستان (الحلبوسي) (والخنجر)
لكن تحقيق ذلك الهدف يتطلب ولادة قوى سنية كبيرة تتحكم بالقرار الأمني والسياسي في مناطق انتشار المكون. ذلك القرار الذي ظل طوال الفترة السابقة يتخذ ويدار من خارج محافظاتهم، تارة من بغداد والنجف وطوراً من اربيل.
وهو ما ينادي بتحقيقه أكبر تحالفين متنافسين ومرشحين لحصد معظم مقاعد المكون السني، وهما “تقدم” بقيادة رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي و”عزم” بقيادة السياسي السني خميس الخنجر، الذي كان يقدم نفسه معارضا للحكومات السابقة وكان يدعو إلى إنشاء منطقة حكم ذاتي للسنة في العراق.
وانطلاقا من ذلك يتوقع الباحث السياسي مراد اسعد الشعباني، مشاركة سنية أكبر مقارنة بالانتخابات السابقة، ويقول “غالبية الجمهور السني في العراق عموما وفي الانبار على وجه الخصوص لم يعد يرى في المقاطعة حلا لمشاكله أو طريقا للمحافظة على حقوقه كمكون، لاسيما بعد أن استشعر وللمرة الاولى انه يتمتع بقوة تمكنه من المنافسة في إدارة الدولة أو المشاركة الحقيقية فيها”.
ويرى الشعباني أنه على الرغم من عدم وجود “برامج انتخابية واضحة أو وعود كبيرة” فان غالبية المواطنين حسموا أمرهم بالمشاركة والاختيار، “لديمومة التجربة التي أعادت للأنبار والمكون السني تحديدا مكانته في ميدان صنع القرار السياسي”.
التذكير بنتائج المقاطعات السابقة
تنشط فرق حزبية واخرى مدنية تطوعية في الانبار لحث الناخبين على المشاركة. تحمل إحدى الفرق لافتات كتب عليها “ماذا تنتظر؟ .. هل تريد ان نبقى الحلقة الأضعف؟.. مشاركتك مهمة واختيارك أهم”.
يقول وليد الجميلي، أحد الشباب المؤسسين لفرقة تطوعية تنشط في مدينة الفلوجة إن “هذه الكلمات كانت محور حديث دار بيني وبين أحد أصدقائي وأخذنا الحوار بعيدا حين استذكرنا مشاهد التهجير في عام 2014 بعد سيطرة داعش على المنطقة، وقبلها مشاهد الحرب الطائفية التي اندلعت في 2006، كان ذلك الحديث نقطة انطلاق لتأسيس فريق تطوعي يعمل في عموم الأنبار للحث على المشاركة من خلال جلسات توعوية”.
ويضيف “نظمنا أكثر من 45 جلسة وقد وجهنا دعوات لحضورها الى مؤيدي الأحزاب والشخصيات العامة الى جانب الناس البسطاء. طبيعة الحوارات أظهرت لنا أن الناخب الذي سيشارك في الانتخابات القادمة واع ويريد ان يمنح صوته لمن سيحقق له شيئا على الأرض”.
ويرى عبد الحميد الفهداوي، أستاذ العلوم السياسية، أن الانتخابات المقبلة مفصلية ويمكن لها أن تعيد ترتيب الأوراق السياسية في العراق خصوصاً لدى المكون السني الذي بدأ يأخذ موقعا أكثر فاعليةً في المشهد السياسي.
ويقول الفهداوي ان “ما تحقق من مكاسب امنية وسياسية في محافظة الانبار عزز رغبة الغالبية السنية بالمشاركة وهو ما سيجعل من مرشحي المكون السني في معظم المحافظات منافسين أقوياء من الممكن أن يضمنوا عدداً أكبر من المقاعد للمكون خاصة إذا وحدوا صفوفهم”.

تطلُع مرشحي المكون السني إلى الحصول على مقاعد أكثر من خلال مشاركة أكبر لجمهورهم خاصة في المحافظات المختلطة هو محل قلق لبقية شركاء العملية السياسية، فحصول أي مكون على مقاعد إضافية في تلك المحافظات سيكون على حساب المكونين الآخرين الشيعي والكردي ما سيعني تراجع دورهما.
إلا أن الصراع المحتدم خصوصاً بين “عزم” و”تقدم” قد يبدد تلك التطلعات، كما ان طبيعة النظام الانتخابي المعتمد في هذه الانتخابات يحدد حصة كل محافظة من المقاعد بغض النظر عن نسبة المشاركة عكس الدورات السابقة.
رغم ذلك تخشى القوى الكردية، التي تدخل الانتخابات بقوائم عدة، أن يؤدي انقسامها واحتمال تراجع مقاعدها خاصة في المحافظات المختلطة ككركوك ونينوى الى اضعاف دورها وبالتالي خسارتها لمنصب رئيس الجمهورية لصالح المكون السني الذي سيتمكن في حال توحيد صفوفه من تعزيز قوته في بغداد وفرض قراره وإرادته في ادارة مناطقه بشكل أكثر استقلالية عن القوى الشيعية الحاكمة.
المكون السني كان قد حصل على 67 مقعدا في الانتخابات السابقة، فيما تراجع عدد مقاعد الكرد الى ما دون الـ60 مقعدا، لكن تشتت قوى السنة في قوائم متعددة ودخولها ضمن قوائم شيعية منعها من لعب دور أكبر في ظل تمثيلها لمحافظاتها وليس لإقليم دستوري كما هو الحال مع الكرد.
طموحات لن تتحقق
السياسي “المستقل” سمير عبد المنعم، يستبعد ان يحصد السنة الغالبية الساحقة من المقاعد في محافظات نينوى والانبار وصلاح الدين وديالى بوجود منافسين آخرين “فغالبية الأحزاب المشاركة دعمت شخصيات مؤثرة داخل مجتمعاتها ولها ثقل عشائري ومجتمعي ومن الممكن أن تقلب المعادلة وتضمن بعض المقاعد لصالحها، لاسيما أحزاب المكون الشيعي التي تسعى من خلال تحالفاتها المحافظة على حجم وجودها في المناطق السنية”.
يوضح عبد المنعم أنه “ليس من الحكمة أن يتحدث حزب أو كيان عن امكانية الاستحواذ على جميع المقاعد المخصصة للدائرة الواحدة وان كانت ذات جمهور متجانس، وخير مثال على ذلك وجود مرشحي كتلة دولة القانون وايضا كتلة الجماهير الوطنية اضافة الى النصر وائتلاف العراقية كمنافسين أقوياء داخل الانبار التي يعتقد البعض أنها ستمنح مقاعدها الـ 15 للمكون السني”.
يتنافس 166 مرشحا في محافظة الانبار على 15 مقعدا موزعةً على أربعة دوائر انتخابية وغالبيتهم من الوجوه الجديدة التي سيصعب عليها الفوز بالمعركة في ظل منافستها لمرشحي قوى كبيرة. ولو تم تعميم هذا السيناريو على كل المحافظات التي يراهن عليها سياسيو السنة سنرى تشتتاً كبيراً لأصوات الناخبين وهو ما سيشكل تاثيرا سلبيا على نتائجها.
يأمل نشطاء من المكون السني ان تساهم “مشاركة سنية واسعة ونتائج انتخابية افضل” في اعادة رسم الدور السني في العملية السياسية.
المرشح المستقل عن محافظة الانبار طه عبد الغني، لا يجد في التحالف بين الأحزاب أي جدوى سياسية لأن الجمهور السني “جمهور غير عقائدي بمعنى أن الناخب ينتخب وفق قناعته بالمرشح وليس بالحزب والمذهب”. ويؤكد ايضا ان “المشاركة الانتخابية في الدورة المقبلة لن تختلف كثيرا عن الانتخابات البرلمانية لعام 2018 التي سجلت نسب متدنية لعدم قناعة الناخبين بالعملية السياسية”، ويسوق دليلا على ذلك بأن عدداً كبيراً من الناخبين لم يحدثوا بياناتهم وآخرين لم يتسلموا اصلا بطاقاتهم المحدثة متأثرين بدعاية بعض الأطراف التي تروج لفكرة أن “الانتخابات تحصيل حاصل لاعادة الوجوه ذاتها إلى المشهد السياسي”.
وبحسب مكتب المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في محافظة الانبار فان نسبة تحديث بطاقة الناخب وصلت إلى 63%، ونحو 85% ممن حدثوا بطاقاتهم الانتخابية تمكنوا من استلام بطاقاتهم الجديدة التي تؤهلهم للمشاركة والتصويت لاختيار 15 مرشحا عن المحافظة توزعوا على أربع دوائر انتخابية عبر 2493 محطة اقتراع توزعت على 380 مركز اقتراع.
حيدر عبد الامير ناشط وكاتب متخصص في الشؤون الانتخابية، يرى أن “الخلافات داخل أحزاب المكونين الشيعي والكردي وموجة انسحابات عدد من الكيانات السياسية خاصة الشبابية أثرت بشكل سلبي على رغبة جمهوريهما بالمشاركة”. ويشير إلى أن “انهماك الكتل السياسية الشيعية والكردية بالتحضير للانتخابات لا يقابله اهتمام واسع من قبل ناخبيها وهو مؤشر ينذر بقلة المشاركة، لكن تغيير النظام الانتخابي لن يساعد على ظهور تحول في عدد المقاعد اذا كانت نسب مشاركة ناخبي المكونين ضعيفة على صعيد البلاد”.
وبخلاف ما يراه العديد من المراقبين، تتوقع البرلمانية ماجدة التميمي عضو مجلس النواب عن التيار الصدري، أن تكون المشاركة “كبيرة جدا” في وسط وجنوب البلاد نتيجة “لمخرجات تظاهرات تشرين/أكتوبر 2019 التي كان غالبيتها من أبناء تلك المناطق والتي ولدت وعياً عاليا لديهم، وهذا ما سينعكس ايجابيا على نسبة المشاركة من اجل الاطاحة بالفاسدين، وعدم إعطائهم فرصة للوصول إلى منافذ الحكومة ان كانت تنفيذية أو تشريعية”. مع ملاحظة أن هذا الخطاب لا يتوافق مع واقع الغضب التشريني من أداء التيار الصدري وتعامله مع التظاهرات.
يميز انتخابات العاشر من تشرين عن سابقاتها، حجم المراقبة الدولية والمحلية الأوسع، اضافة الى بعض مفردات القانون الانتخابي التي جاءت متناغمة مع تطلعات الشارع ، من ضمنها فقرات الدوائر المتعددة ومنع تشكيل التحالفات بين الأحزاب بعد إعلان النتائج لضمان حقوق الكتلة الاكبر.
وبغض النظر عن نتائج الانتخابات وإن كانت ستمهد لدور سياسي أكبر لقادة المكون السني فإنها تشكل تحولا لجهة انخراط المكون في الصراع السياسي والدخول في لعبة التفاهمات المحلية والإقليمية، وغلق صفحة دعوات مقاطعة الانتخابات والنظام السياسي برمته التي سادت طوال عقد ونصف.
ويأمل نشطاء من المكون السني ان تساهم “مشاركة سنية واسعة ونتائج انتخابية افضل” في اعادة رسم الدور السني في العملية السياسية، وأن تعزز قوته وتأثيره لكي يكون جزءا رئيسيا من القرار السياسي والأمني وفي ادارة الدولة، وليس مجرد طرف مشارك في الحكومات كما كان الحال في السابق.
كما يتطلعون إلى أن يساهم ذلك في حصول السنة على منصب رئيس الجمهورية، وهو تطلع لا يخفيه العديد من القادة السنة.
انجز التقرير بدعم من مؤسسة نيريج للتحقيقات الاستقصائية
إقرأوا أيضاً: