ملف “الحرب على الإرهاب في سيناء” هو الملف الأساسي، الذي رفع الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي ليصبح رئيساً لمصر، وذلك بعد أول تفويض طالب فيه الفريق أول -وقتها- عبد الفتاح السيسي المصريين، بالنزول إلى الشوارع لتفويضه بالقضاء على الإرهاب، سواء بمحاربة جماعة “الإخوان المسلمين” أو بمكافحة الجماعات الإرهابية في سيناء.
لكن يبدو أن هذا الملف، بدأ ينتقل جزئياً وربما قد ينتقل كلياً بعد شهور أو سنوات، إلى كيان مصري جديد، يسمى “اتحاد القبائل العربية في سيناء”، تحت إدارة إبراهيم العرجاني، الرجل الأكثر إثارة للجدل في مصر الآن، وليصبح الرئيس المصري الحالي مجرد رئيس شرفي له.
العرجاني الذي لا يتحرك سوى بمواكب من سيارات الدفع الرباعي، بات رجلاً يستعرض سلطة مطلقة مُنحت له مع مجيء السيسي؛ الذي يعد تميمة حظه، وخلق العرجاني من المجاز واقعاً، وهو يتجول كإمبراطور في مدينة سميت حديثا باسم “السيسي” في شمال سيناء.
قبل الحرب الأخيرة على غزة، كان نشاط العرجاني ابن مدينة الشيخ زويد وقبيلة الترابيين، معروفاً ضمن نطاق مجموعته الاستثمارية “العرجاني جروب “، التي ينضوي تحت لوائها عدة شركات أخرى، خاصة في مجال البناء والمقاولات والسياحة والصرافة، بعضها تم إنشاؤه بالشراكة مع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة المصرية، مما يشير إلى “بيزنيس” بالمليارات، يتم بين رجل الأعمال الصاعد والقوات المسلحة المصرية، بمظلة تخفي تحتها أكثر مما تُعلن.
من طريد العدالة إلى حليف لا يمكن الاستهانة به
مع استرداد سيناء من إسرائيل عقب حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، لم تحقق الدولة المصرية أية استفادة استراتيجية على هذه المساحات الشاسعة من الجبال الوعرة، التي خاضت من أجلها الحرب، وحظيت مدينة شرم الشيخ وحدها، باهتمام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، فأصبحت واجهة دبلوماسية وسياحية لباقي سيناء، المهملة والمتروكة في الفقر والعزلة وغياب الخدمات والحياة البدائية البدوية.
مع مرور السنوات شعر أهالي سيناء أن عليهم تدبير أنفسهم بأنفسهم، خاصة أنهم جغرافياً تحت حكم مصر، لكنهم واقعياً تحت حكم القبائل وشيوخها، حتى أن حلم التنمية الشاملة لسيناء تم نسيانه للأبد، وصار مشروعا “ترعة السلام” و”مدينة الفيروز”، أكبر مزحة تطلقها الأجيال السيناوية على حقبة مبارك الأكثر فشلاً في إحداث أي تنمية في سيناء.
عاش ثلاثة أجيال حتى الآن في سيناء، على أمل تحقق ورقة الرئيس أنور السادات الاستراتيجية، في التنمية بعد انتهاء الحرب واسترداد الأرض، لكن ثلاثة رؤساء ورابعهم الحالي، جمعهم فشل ملف تنمية سيناء، الذي كان معداً ومفصلاً في “ورقة أكتوبر1974”.
كانت سيناء وما زالت في بعض مناطقها، ترتع في حقول المخدرات والبانجو الجاف وتهريب وتصنيع الأسلحة والانضمام السلس للجماعات الإرهابية، ك”بيزنيس” حل محل التنمية الغائبة والمبتغاة، وقبل أن ينتهي حكم مبارك بثورة أطاحت به، كان العرجاني متورطاً في اشتباكات مع الشرطة المصرية عام 2008، وتم احتجازه مدة عامين، بعد اتهامه وعدد من رجال البدو، بخطف عشرات رجال الأمن المصري في سيناء.
ما يوجز هذا الإهمال ببساطة أنه وبعد أكثر من خمسين عاماً على استرداد سيناء، وافقت الحكومة أخيراً على إنشاء أول فرع لجامعة حكومية في جنوب سيناء، وحتى الآن لم يتم افتتاح هذا الفرع، لجامعة من المفترض أن يتم إنشاؤها على مساحة 100فدان!
جاء السيسي ومع بداية حكمه لمصر، ليضع سيناء في الأولوية، ليس كمنطقة مستهدفة تنموياً، بل كمنطقة حرب بين الجيش والجماعات المسلحة، التي ينتمي لها بعض قبائل البدو غير الموالية له، وكان العرجاني زعيم قبيلة الترابيين يسخر؛ ربما من ثقة الجيش المصري بمزاعمه المتعلقة بوقف الحرب ونزع السلاح في سيناء من دون الاستعانة بزعماء القبائل، وصارت الاشتباكات تتوالى بين القبائل والجيش، وكذلك الصراعات حول من هو الحامي الحقيقي والأدرى بتضاريس سيناء الجغرافية وطبيعتها الوعرة.
كلفت الحرب على الإرهاب في سيناء الدولة المصرية ضريبة باهظة في الأرواح والأموال، وبحسب تصريحات السيسي نفسه في حفل إفطار الأسرة المصرية في إبريل الماضي عام 2022، بلغت على الصعيد البشري 3277 شهيداً، إضافة إلى 12 ألف و280 مصاباً، أما على الصعيد المادي، فقد قُدرت التكلفة بحوالي 84 مليار جنيه حتى عام 2017، بتكلفة شهرية قدرها مليار جنيه.
رحلة الصعود السريعة ودخول مغارة على بابا
لم يخفِ جهاز تنمية المشروعات الوطنية التابع للقوات المسلحة، استحواذه على مشاريع التنمية وامتلاك الصفقات وإجبار كثير من حيتان “البيزنيس” في مصر، على الركوع والتنازل أمام “بيزنيس الدبابة”، وهذا ما كشفه رجل الأعمال المصري الهارب محمد علي، الذي ترك مصر إلى إسبانيا “متمرداً على الجيش والمخابرات بعد أكثر من 15 عاماً أمضاها في شركته، مقاولاً منفذاً للمشروعات التي يتوكل بها الجيش، وكشف أنه خسر أكثر من 220 مليون جنيه مصري بسبب الجيش المصري وتدخلاته”.
ومن لم يستطع الهروب من رجال الأعمال تعرض للسجن، منهم رجل الأعمال صفوان ثابت، مؤسس شركة “جهينة” للصناعات الغذائية الذي تم القبض عليه أواخر عام 2020، وبعدها بشهرين تم حبس ابنه سيف، وأمضيا عامين في محبسهما، بمزاعم تمويل جماعة “الإخوان المسلمين”.
لكن تعامل السيسي مع العرجانى كان أكثر ذكاءً، فلا مجال للمزاح مع شيخ قبيلة يملك نفوذ الأهل والعشيرة داخل سيناء وطرق المراوغة فيها، ويملك السلاح أيضاً، مما قد يجعل السيسي يخسر بروباجندا الحرب على الإرهاب في سيناء كاملة.
لم يكن السيسي وحده الأكثر ذكاءً، بل العرجاني أيضاً، فقد قدم للرئيس ولاءه الكامل والمشروط في نفس الوقت، وقال في لقاء تلفزيوني مع إحدى القنوات المصرية عام 2015: “إن نهاية التكفيريين ستكون على يد رجال القبائل، ونحن نستطيع الوصول إليهم حتى لو كانوا نياماً، نحن من القوات المسلحة والقوات المسلحة منا، إننا نحارب جنباً إلى جنب مع رجال الجيش”.
نال العرجاني مكافأته كما خطط لها، فقد أسند السيسي لشركتي “أبناء سيناء” و”مصر سيناء” التابعتين للعرجاني، أعمال التطوير والإنشاء و تنفيذ مشروع تطوير معبر رفح والتجلي الأعظم في سيناء، وتطوير مباني هيئات حكومية، بالإضافة إلى تولي مشروعات إعادة الإعمار في غزة بعد حرب غزة 2017
رشاوى شركة “هلا” وتأسيس “اتحاد القبائل” بشكل رسمي
مع بداية الحرب الأخيرة على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣ كشفت صحفية “نيويورك تايمز” عن رشاوى شركة “هلا للسياحة” المملوكة من قبل العرجاني، ربما تكون قد حققت أرباحاً تقارب 90 مليون دولار خلال بضعة أسابيع، نظير فرضها رسوماً تصل إلى خمسة آلاف دولار، على الفرد الواحد من سكان غزة، لقاء دخوله إلى مصر.
كشف تحقيق “شبه جزيرة العرجاني” المنشور على موقع “مدى مصر” أن ” التسعيرة الجديدة للفلسطيني؛ بحسب فلسطيني قام بالتسجيل بالفعل لدى الشركة، خمسة آلاف دولار للشخص الذي يتجاوز عمره 16 عاماً، و2500 دولار لمن هم أقل من ذلك، وحافظ سعر التنسيق للجواز المصري على مبلغ 650 دولار للجميع، و350 لمن هم أقل من 16 عاماً، فيما استمرت تسعيرة تنسيق حاملي الوثيقة المصرية للاجئين بمبلغ 1200 دولار لحاملها، وما تغير في حالتهم أن تسعيرة خروج الأقارب من الدرجة الأولى، الذين كان يُسمح بخروجهم بالسعر ذاته، أصبحت على النظام الجديد، كتسعيرة حامل الجواز الفلسطيني، أي خمسة آلاف دولار لمن هم فوق 16 عاماً و2500 دولار لمن هم أقل من ذلك”.
رشاوى شركة “هلا” ضاعفت اللغط حول اسم العرجاني، وكذلك البحث عن حجم نشاطه، وتربحه، وعدم الإفصاح الواضح عن إيرادات شركاته، ومن هم شركاؤه، وعالم المال الخفي، الذي كُشف خيطه الأول من خلال رشاوى شركة “هلا”.
لكن سياسة لجم الألسنة حدثت بذكاء، حيث تم الإعلان سريعاً، عن تأسيس “اتحاد القبائل العربية” مطلع الشهر الجاري، ليظهر العرجاني تحت حماية الدولة بالكامل، بل شرعنة وجوده، رغم مخالفة “اتحاد القبائل” لشروط إنشاء الجميعات الأهلية قانونياً، باعتباره كياناً يحمل طابعاً عسكرياً أو شبه عسكري، حتى ولو صرح أحد مؤسسي الاتحاد وهو مصطفى بكري أن “الأسلحة لديهم مرخصة”.
هذا التأسيس أثار حفيظة كثير من المصريين على منصات التواصل الاجتماعي، باعتباره أول شرعنة فعلية في تاريخ مصر، لكيان غير رسمي يحمل السلاح، وكان متورطاً في مهاجمة الأجهزة الأمنية قبل الثورة، ليصبح السؤال الأكثر تداولاً الآن: هل سيخلق السيسي بيديه حميدتي جديد؟
إقرأوا أيضاً: