من الساعة الخامسة فجراً يستيقظ محمد الزعيم (48 عاماً) ويشق طريقه برفقة عدد من جيرانه إلى إحدى المناطق الزراعية القريبة من مدينة رفح، التي تتعرض لهجوم إسرائيلي عنيف منذ شهر أيار/ مايو الماضي، بحثاً عن مكان لا يوجد فيه نازحون، لنصب الشباك بهدف صيد العصافير.
يبدأ الزعيم بنصب شباكه في أرض خالية من الأشجار، بعدما اقتلعها النازحون إلى مدينة رفح واستخدموها لإعداد الطعام والتدفئة.
داخل الشباك التي كان يقتنيها قبل الحرب، يضع الزعيم بعض الماء وفتات الخبز المبلل لجذب الطيور إلى الفخاخ.

يصطاد الزعيم يومياً قرابة 40 عصفوراً، ويستخدمها لإطعام أولاده، وهي الوجبة الوحيدة التي يحصلون عليها خلال اليوم، بسبب المجاعة التي تضرب قطاع غزة.
يقول الزعيم لـ”درج”: “لا يوجد في البيت دقيق لإعداد الخبز منذ أيام طويلة، والأطفال يطلبون الطعام وأنا أقف عاجزاً حائراً أمام طلباتهم، فجاءت لي فكرة صيد العصافير لطهيها لهم، وتعويضهم حرمانهم من تناول اللحوم”.
توفر الـ40 عصفوراً للزعيم قرابة الربع كيلوغرام من اللحوم (250 غراماً)، يطهيها بالماء، ويتناولها أطفاله الخمسة بشكل شبه يومي لعدم وجود أي خيار آخر لديهم.
يوضح الزعيم أن المكان الذي يصطاد فيه العصافير قريب من مدينة رفح، وذهب إليه مجبراً لعدم وجود مكان آخر في الأراضي الزراعية لنصب شباكه، بسبب انتشار مئات الآلاف من خيام النازحين، وقطعهم آلاف الأشجار.

تحذيرات أمميّة
حرم جيش الاحتلال الإسرائيلي سكان قطاع غزة من أصناف غذائية مختلفة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بخاصة اللحوم الحمراء والبيضاء، والمجمدات والخضروات والفواكه.
وتسبب حرمان الاحتلال سكان قطاع غزة من إدخال الطعام، بظهور المجاعة وسوء التغذية، وفقاً لتقارير أممية وحقوقية.
وسبق أن حذرت منظمة الصحة العالمية من أن قطاع غزة، لا سيما شطره الشمالي، يعاني من نقص حاد في الأدوية والأغذية والوقود والمأوى، مطالبة الكيان الإسرائيلي بالسماح بدخول مزيد من المساعدات إليه وتسهيل العمليات الإنسانية.
وقال المدير العام للمنظمة أدهانوم غيبريسوس، إن الحياة في الخيام تجعل النازحين “عرضة لأمراض الجهاز التنفسي وغيرها، في حين يتوقع أن يؤدي الطقس البارد والأمطار والفيضانات إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية”.
وحذّر من أن “الوضع الغذائي مروّع، بخاصة في شمال غزة، حيث بدأ الجيش الإسرائيلي عملية واسعة النطاق في المنطقة مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي”.
كذلك، أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن 50 ألف طفل فلسطيني يعانون في قطاع غزة من سوء تغذية حاد، بسبب إطباق الاحتلال الإسرائيلي حصاره على السكان، في حين أكدت وزارة الصحة في غزة أن مليون طفل يتهددهم سوء التغذية.

إقبال الغزيين
صائد العصافير الزعيم انتقل من إطعام ما يصطاده لأولاده إلى بيعه لبعض جيرانه المحرومين من تناول اللحوم منذ فترة طويلة.
يبيع الزعيم العصفور الواحد بشيكلين (0.55 دولار)، وتحتاج الأسرة المكونة من فردين إلى 50 عصفوراً لتحصل على وجبة غذائية تساوي ربع كيلوغرام من اللحم.
ناجي عبد الهادي، نازح جائع في جنوب قطاع غزة، اشترى 50 عصفوراً من أحد الصيادين بمبلغ 100 شيكل (30 دولاراً) وعاد بها إلى أطفاله في خيمة نزوحه في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس.
يقول عبد الهادي لـ”درج”: “العصفور الواحد بالكاد تجد به بعض الغرامات من اللحم، ولكننا نضطر لاستهلاكه بسبب المجاعة وندرة أي صنف من أصناف الطعام في الأسواق، وفي حال توافرها فإنها تحتاج إلى أموال لشرائها”.
يتناول عبد الهادي لحم العصافير مضطراً لاشتياقه إلى أي نوع من اللحوم، وحرمانه منها لشهور طويلة بسبب منع الجيش الإسرائيلي دخولها.
لم تكفِ الكمية التي تناولها عبد الهادي وأطفاله لسد جوعهم، لقلة وزن العصفور، وعدم دراية أطفاله بأكلها وخوفهم من هياكلها الواضحة.
يصف عبد الهادي كمية اللحم في العصفور الواحد بحبة الملح، ولكن عند تجميع عدد من العصافير يمكن الحصول على كمية قليلة من اللحوم قد تكفي لشخص واحد. ولكن في ظل الحرب على قطاع غزة وغياب الحلول، فهي البديل الوحيد لهم لسد جوعهم.
من جهته، يضع محمود علوان شباكه عند الحدود الشرقية لمدينة خان يونس القريبة من الحدود مع إسرائيل. يضطر علوان إلى الذهاب إلى الحدود كما يوضح لـ”درج” بدافع “اكتظاظ غالبية أماكن مدينة خان يونس بالنازحين وندرة الأشجار فيها. أما وجود المناطق الشرقية بالقرب من الحدود، فقد حافظ على الأشجار فيها، وبالتالي ما زالت مسكناً للعصافير”.
يقول علوان: “في بداية الصيد كنت أصطاد من مئة إلى مئة وعشرين عصفوراً في اليوم، ولكن مع مرور الأيام تراجع العدد إلى 40 بسبب هروب الطيور واستمرار وقوع الصواريخ التي ترهبها”.
التنوع البيولوجي
أثّرت الحرب الإسرائيلية على أشكال الحياة في قطاع غزة، ومنها الأشجار والطيور التي بدأ الناس بأكلها لعدم وجود لحوم.
تؤكد سلطة جودة البيئة الفلسطينية، أن الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة لا تشكّل كارثة إنسانية فحسب، بل تدمر أيضاً جميع مكونات التنوع البيولوجي من نبات وكائنات حية.
وتوضح سلطة جودة البيئة في بيان لها، أن مكونات الحياة البرية من تنوع نباتي وحيواني على اليابسة وفي عرض بحر القطاع، تعرضت لأقوى أشكال التدمير على مر العصور، نتيجة استخدام أنواع من المتفجرات والأسلحة.
وتبيّن أن استخدام تلك الأسلحة أدى إلى تدمير موائل الحيوانات البرية وقتلها وحرق كل أشكال الحياة النباتية، بما في ذلك الأشجار والشجيرات والأعشاب التي منها ما هو متوطن في ظروف البيئة الساحلية وشبه الساحلية، وهو ما يؤدي إلى خسارة أنواع بعينها من الحياة البرية وحتى اختفائها بشكل دائم.
وتشير إلى أن العدوان من خلال تدمير الحجر والشجر والبنية التحتية، أدى إلى تلويث المياه والهواء والتربة، وحرق الأرض بكل تضاريسها، محولاً المكان إلى جبال تتكون من ملايين الأطنان من النفايات الإنشائية (نتيجة قصف المنازل والمنشآت) المختلطة بالنفايات الطبية والمنزلية ومياه الصرف الصحي ومياه الأمطار، ليصل جزء كبير منها إلى البحر مروراً بمحمية وادي غزة.
وتلفت إلى أن محمية وادي غزة (جنوب مدينة غزة) تحوّلت اليوم بفعل الأسلحة المحرمة دولياً إلى مقبرة جماعية لكل أشكال الحياة من بشر ونبات وحيوان، ما أدى إلى تدمير أحد أهم مسارات هجرة الطيور العالمية في فصول مختلفة من السنة.
إقرأوا أيضاً: