في سوريا اليوم، حيث تسود الفوضى ويعم الارتجال المشهد السياسي والاجتماعي بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تتجلى تغييرات جذرية طاولت موازين السلطة وأطرها القانونية مع توقيف العمل بالدستور وعدم وجود بديل قانوني يحظى بشرعية سياسية وشعبية.
قبل سقوط النظام، كانت سوريا دولة ذات هيكلية مركزية قوية، تسيطر فيها الأجهزة الأمنية على جميع مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية على حساب حقوق المواطنين وحرياتهم. ووظّف النظام القضاء أداة لخدمة مصالحه السياسية، لكن انهيار هذه المركزية لم يؤدّ إلى تعزيز الحريات أو العدالة كما كان مرجواً، بل خلق فراغاً مؤسسياً ملأته قوى متعددة الأطراف، استخدمت العدالة، وبشكل أدق الانتقام، كأداة لفرض القوة بعيداً عن أي إطار قانوني جامع أو رؤية موحّدة.
وهنا، انتشر حديثاً مقطع فيديو من منطقة ركن الدين في دمشق، يظهر عناصر مسلحة من “هيئة الإدارة العامة”، وهم يقصون شعر ثلاثة مراهقين، لا تتجاوز أعمارهم الـ16 عاماً، بتهمة “التلطيش”. المراهقون، وهم طلاب مدرسة، تعرضوا للإهانة العلنية كعقاب على تصرفات يُفترض أن يتم التعامل معها ضمن إطار تربوي أو قانوني منظم، وليس بقرارات ارتجالية تنتهك كرامتهم وترسل رسالة قمعية الى المجتمع.
غياب القانون وفوضى العقاب
ويفترض أن هؤلاء المسلّحين، الذين أدّبوا سابقاً عدداً من السوريين لتهم مختلفة (تلطيش، سرقة…الخ) أصبحوا جزءأً من الجيش السوري مع اتجاه وزارة الدفاع لإعادة هيكلة الجيش والفصائل المعارضة، لكن غياب الهيكلية الواضحة لمهامهم ولمن يتبعون، جعل من أفعالهم مرآة لحالة الفوضى في البلاد.
هذه الحادثة تلقي الضوء على أثر غياب القانون على النسيج الاجتماعي، لأنه عندما تُنفذ العقوبات بشكل علني ومهين، تتعمق الهوة بين المجتمع والسلطات المحلية. والأفعال العقابية التي تهدف إلى “إصلاح السلوك” تترك غالباً آثاراً نفسية طويلة الأمد على الضحايا، خصوصاً المراهقين، ما يؤدي إلى شعور بالاغتراب عن الدولة وعدم الثقة بها.
في مثل هذه الأوضاع، يتحول الخوف من العقاب إلى إحساس بالخضوع القسري بدلاً من الالتزام الطوعي بالقانون، ما يُضعف الروابط بين المواطنين والسلطات ويزيد من الانقسام داخل المجتمع. ما يعزز مناخاً من الإقصاء والاضطراب المستمر.
والسؤال الذي يطرح نفسه يتمحور حول السبب الذي يتابع فيه جنود في الجيش، كما يفترض، قضية بسيطة مثل التلطيش الذي يحدث في المدارس. وهو سلوك لا يمكن تبريره بالطبع، لكنه لا يقتضي تحركاً من الجيش أصلاً، لكن لنفترض أن “الجيش” مختلف عن الشرطة أو الأمن العام، هل هذه العقوبات مرتجلة أم منصوص عليها؟ وتتبع ذلك تساؤلات إن كانت هذه النوعية من العقوبات تأتي بشكل ممنهج من قيادة ما أم هي تحرك فردي من الجنود أنفسهم. وهل يرى أولئك الجنود أنفسهم جزءاً من الجيش أم أنهم يتصرفون بمبدأ ميليشياوي أو جهادي، من باب الغيرة على الدين أو حماية النساء بوصفهن ضعيفات ويحتجن إلى “قوامة”، أي وصاية الرجل على المرأة الضعيفة.
وفي حادثة أخرى، اعتُقل الدكتور سلطان الصلخدي، وهو أستاذ جامعي (70 عاماً)، أثناء إلقائه محاضرة في قاعة التدريس بـ”جامعة الشام” في منطقة التل، حيث دخلت دورية إلى القاعة واعتقلته أمام طلابه بشكل مهين ومن دون مراعاة لحرمة المكان أو مكانته العلمية، علماً أن الاعتقال أتى بناءً على شكوى قدمتها طالبة، من دون إجراء تحقيق أولي للتأكد من صحة الادعاءات التي تبين لاحقاً أنها كيدية، ما يعيد إلى الأذهان أنماطاً مشابهة من الانتهاكات التي كانت تحدث في ظل النظام السابق، حيث كان يتم استغلال السلطة لإذلال الأفراد وقمعهم علناً، بغض النظر عن صحة الاتهامات أو وجودها.
هذا النمط المتكرر من الاعتقالات العشوائية يعكس غياباً مستمراً لآليات العدالة والشفافية، ويُبرز الحاجة إلى نظام قانوني يعزز الثقة ويحمي حقوق الأفراد. الحادثة لم تؤثر فقط على الدكتور الصلخدي بل تركت أثراً عميقاً على طلابه والمجتمع الأكاديمي بكامله، إذ كرست الإحساس بالضعف أمام السلطات وعدم وجود أي حماية قانونية تذكر.
تكريس الشعور بعدم الأمان
هذه الأمثلة ليست مجرد وقائع فردية، بل تجليات واضحة لفقدان سلطة القانون واستبدالها بقرارات عشوائية تصدر عن لجان ودوريات غير منضبطة. مفهوم “اللجان” و”الدوريات” كما تتبناه الهيئة يعكس نوعاً جديداً من هرميات القوة التي تمارس سلطتها بطرق مختلفة ويكشف عن غياب إطار موحد للسلطة، ما يجعل العقوبات تعتمد بشكل كبير على السياق والشخص المنفّذ.
في حالة “التلطيش”، يُستخدم العقاب العلني كوسيلة لإذلال الأفراد وترهيب المجتمع، بينما في حالة اعتقال الدكتور الصلخدي، يبرز البلاغ الكيدي كيف تُستخدم السلطة لأهداف انتقامية وشخصية. هذا التداخل بين الأدوار والغياب الواضح للفصل بين المهام القضائية والتنفيذية يكرس الفوضى ويُعمق شعور المواطنين بعدم الأمان في أي مكان، سواء كانوا في الجامعة، الشارع، أو حتى في منازلهم.
غياب الفصل بين السلطات يجعل السلطة التنفيذية (إن صحت تسميته هكذا، البعض يصنفها كضابطة عدليّة بسبب تعطيل الدستور!) تتجاوز دورها وتقتحم مجالات القضاء، ما يؤدي إلى انتهاكات صارخة لحقوق الأفراد. هذا النمط يُعيد إلى الأذهان ما حدث في رواندا بعد الإبادة الجماعية، حيث أدى غياب الفصل بين السلطات إلى تفاقم الانتهاكات. في المقابل، تُظهر تجربة جنوب أفريقيا أهمية الفصل بين السلطات في تحقيق المصالحة الوطنية وبناء الثقة بالمؤسسات. وبإمكان سوريا بالمثل، اعتماد لجان تحقيق شفافة ومحاكم خاصة لمعالجة الانتهاكات، مع التركيز على كشف الحقيقة وتعويض الضحايا.
في ضرورة فصل السلطات
والحال أن الفصل بين السلطات ليس مجرد مفهوم نظري، بل ضرورة عملية لضمان تطبيق العدالة بشكل نزيه وإعطاء إصلاح النظام القانوني أولوية قصوى، يبدأ بوضع دستور جديد يعيد تعريف العلاقة بين السلطات ويضمن الحقوق الأساسية للمواطنين.
على سبيل المثال، في جنوب أفريقيا، أُنشئ نظام محاكم دستورية مستقل لعب دورأً محورياً في ضمان العدالة والمساءلة بعد سقوط نظام الفصل العنصري، إذ تم تعزيز الرقابة القضائية على أداء السلطتين التنفيذية والتشريعية. وفي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ساهم الدستور الجديد في بناء نظام قانوني قوي يضمن التوازن بين السلطات ويمنع تغوّل السلطة التنفيذية.
هذه التجارب تُظهر كيف بإمكان نظام يعتمد على الفصل بين السلطات أن يُرسخ الثقة بالمؤسسات ويحمي الحقوق الأساسية للمواطنين. هذا الدستور يجب أن يكون نتاج عملية تشاركية حقيقية تضم ممثلين عن جميع الأطياف السياسية والاجتماعية، مع إشراف دولي لضمان النزاهة.
إلى جانب صياغة الدستور، يجب إعادة هيكلة الجهات التنفيذية التي تتولى تطبيق القانون. تحويل اللجان والدوريات الحالية إلى أجهزة شرطة مدنية محترفة، هو خطوة حاسمة. هذه الأجهزة يجب أن تُبنى على أسس مهنية، مع توفير تدريب شامل يركز على احترام حقوق الإنسان والالتزام بالمعايير الدولية. كما يجب أن تخضع لآليات رقابة مستقلة تضمن الشفافية وتحاسب على التجاوزات.
إقرأوا أيضاً: