الحقيقة اللبنانية الوحيدة هي أن البؤس العمومي والتوجّس، ليسا حكراً على الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع وحدها. وليس صحيحاً أن المدن اللبنانية، من العاصمة مروراً بمدن الشمال والجبل، غير مكترثة؛ فقد مرت عليها المحنة اللبنانية الأخيرة، وما سبقها وما قد يليها، هكذا مرور الكرام. بل نحن إزاء ظاهرة فريدة من أسباب عبثية وغير عبثية، أدّت إلى تكوين مثل هذه الفكرة المغلوطة، بأن لبنان جمهوريات شتّى، لندفع عنّا هذا العقم اللصيق حتّى الانصهار في نسيج الحياة اللبنانية. عقم وشلل أبعد من السياسة، وصراع المحاور، وورقة توم باراك، وخطب نعيم قاسم، والدمار والركام المحيط بنا أينما ولّينا وجوهنا؛ بل يتجاوز ذلك بأشواط. عقم يغوص عميقاً بمفعوله المكثّف والعنيف؛ كأنّما كانت المحنة الأخيرة، المتمثّلة بالحرب، فاتحة كشفته وعرّته وعرضته أمامنا مجرّداً مرئيّاً؛ وكأنّها الإصبع التي أشارت إلى الفيل المهول المتربّص بنا؛ والتجربة الحاسمة لنظرتنا إلى أنفسنا وإلى العالم.
في هذه الساعة المتأخّرة من تاريخ العالم، وبعد كلّ ما حدث ويحدث عالمياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، قد يصبح مجرّد التفكير بالتغيير – فما بالك بإعادة كتابة عقد اجتماعي جديد؟! – ضرباً من الهذيان والطوباوية. أمّا في لبنان، حيث المجتمع سريع الاستياء وسريع الاستسلام، فإن جرعات مضاعفة من الإحباط وتثبيط الهمم، جعلت حتّى مجرّد التخيّل بأن التغيير في شارع موارب أمر سوريالي. لم تعد مقارنة واقعنا اليوم بما كان عليه لبنان في قرنه الأوّل إلّا مفارقة رديئة؛ حصيلتها تحسّر مبتذل لا جدوى منه، ويأس محبط. ربّما يحقّ لنا القول إن التسليم المطلق بـ”الأمر الواقع” – بوصفه عنصراً تاريخياً ناشطاً في حياكة نسيجنا الاجتماعي – صنع جمهورية تتقن الاستتباب المؤقّت، وتؤجّل خاتمتها السعيدة على نحو أبدي، وتستبطن ذاكرة مخرّبة تُستعاد مع كلّ عيد ومحطّة. وتحت هذه الفكرة وفي مدارها، يعيش اللبنانيون اليوم في حالة قلقة ومتناقضة: شعب مفقّر ومتوجّس، مراقب ومضطرب الهوّية؛ غاضب لكنّه أحياناً متزمّت وأحياناً منفتح؛ مزدوج الجنسيّة والانتماء؛ طامح ويائس في آن معاً؛ فاسد ومستقيم في الوقت نفسه. وكأنّ السياسة لم تعد تعاقداً عاماً بقدر ما صارت ملاحة بين جزر حماية وولاءات.
زمن معلّق وعقد متآكل: بين “المقاومة” وغياب المستقبل
منذ انتهاء الحرب الأهلية واتّفاق الطائف (1989)، لم يجرِ ترسيخ عقد اجتماعي حديث على أسس صلبة. رُحّلت أسئلة جوهرية تتعلّق بالقوّة والحقوق والتمثيل إلى تسويات مؤقّتة، وتوافقات هشّة باسم “الديموقراطية التوافقية”. في هذا الفراغ، صعدت حقبات الاحتلال السوري الّتي تلت الطائف، ثمّ “الرعاية” الإيرانية عبر دولة “حزب الله”، بحيث لم تكونا مجرّد ترتيبات نفوذ خارجي، بل آليّتين لإعادة صياغة العقد الاجتماعي من داخله. تحوّل اتفاق الطائف إلى مصنع لـ”عقد حماية” تُستبدل فيه الحقوق بإذن المرور عبر شبكات الولاء؛ فيرتقي السلاح من مادّة قتال إلى سردية تأسيسية تنظّم المعنى كما تنظّم توزيع الريع والخدمات، فتغدو المواطنة عضوية في شبكة. هكذا أُفرغ “الطائف” من وظيفته العقدية، وتحوّلت الدولة إلى إدارة دنيا تحت سقف أمني أعلى، فيما أُعيد تعريف الشرعية بخلطة قدسية/أمنية/خدمية تعلو على المساواة والقانون. النتيجة، كان اقتصاد هيمنة يدمج الخدمة بالحرب ويؤبّد الحاضر المعلّق.
بالمعيار الدستوري الصريح، يعد العقد اللبناني بمساواة في الحقوق (المادّة 7) وبحرّيات القول والاجتماع (المادّة 13) وبمبدأ ميثاقي “لا شرعية لأيّ سلطة تناقضه”. واتّفاق الطائف نقل هذه الوعود إلى معادلة مؤسّساتية أنهت الحرب، ورسمت توازنات جديدة لتوزيع السلطة، وضبط السلاح، وتسليم قرار الحرب والسلم للدولة. غير أن ما تلا الطائف لم يثبت كعقد اجتماعي مكتمل: سبقت إعادة الإعمار إصلاحات إدارية، وتراجعت قاعدة “الدولة ترعى” لصالح قاعدتي “الدولة تداور” و”الأحزاب تسدّ الفراغ”. ومع الزمن، تضاءلت قدرة المؤسّسات على احتكار العنف الشرعي وتقديم المنفعة العامّة، فانبثقت شرعيات موازية وممرّات جانبية للأمن والخدمات. هذا الانزياح عن نصّ العقد إلى واقعه، لا يختصره خلل مالي أو إداري؛ بل هو بالأحرى تحوّل في بنية الضمان: تكتسب الحقوق بقربك من شبكة ما، لا بالمواطنة المجرّدة. ومع كلّ أزمة كبرى – 2006، ثمّ الانخراط في سوريا، وصولاً إلى موجات التوتّر الأخيرة – تجلّى هذا الخلل بصورة أكثر فجاجة: ازدواجية في القرار الأمني، وتنازع في تعريف “المصلحة الوطنية”، ومزيد من تحويل الخدمة إلى مكافأة، والولاء إلى بوليصة تأمين.
قد تفيد هنا استعارة العدسة التي تقترحها سينما المافيا الحديثة: في Gomorrah، لا بطولات ولا أناشيد؛ “السيادة” تُباع بالقطعة، والعدالة “خدمة خاصّة” تسبق القانون العامّ وتلغيه. في النظرية، الدولة الحديثة، كما صاغ ماكس فيبر، هي جماعة بشرية تدّعي بنجاح احتكار الاستخدام المشروع للقوّة داخل إقليم معيّن. ليس المقصود أنها “تُكثر العنف”، بل إن بوابة العنف واحدة ومشروطة بالقانون العامّ. أيّ تعدّد في بوابات العنف يُنقِص من الدولة ويردّنا إلى منطقة رمادية بين قانون عامّ و”قوانين” أهلية. إسقاط هذه العدسة على لبنان يضيء مساراً مضنياً: كلّ تراجع في قدرة الدولة على توفير المنفعة العامّة – صحّة وتعليماً وكهرباء وقضاء نزيهاً – يفتح هامشاً أوسع لعقود حماية موازية، حزبية وطائفية ومحلّية وإقليمية. شيئاً فشيئاً، تتبدّل مفردات العقد: الحقّ يتحوّل إلى “منّة”، والمواطنة تستبدل بعضوية الشبكة، وينتقل مركز الثقل من القانون إلى الوساطة.
إقرأوا أيضاً:
يشير محلّلون إلى أن مشروع القوى المهيمنة – وعلى سبيل المثال لا الحصر “حزب الله” – يقوم ضمنياً على “كره المستقبل” أو إدامة الحاضر المعلّق. فمنذ العام 2000 (بعد تحرير الجنوب) لم يسمح منطق “المقاومة الدائمة” بإغلاق ملفّ الماضي وفتح دورة سياسية جديدة. تحوّل الاستثناء الأمني إلى قاعدة حكم، وحبس البلد في حالة تعبئة دائمةٍ ضدّ عدوّ ما، ما عطّل إمكانيّة بناء رؤية مشتركة للمستقبل يمكن أن يقوم عليها عقد اجتماعي جديد. والمفارقة أن سردية “التحرير والانتصار”، التي كان يفترض أن تؤسّس لوعد مدني جامعٍ لجميع اللبنانيين، أعادت إنتاج شرط أمني دائم حال دون ترجمة ذلك الوعد إلى واقع. هذا الواقع المستدام لحالة الاستثناء أضعف النقاش الديمقراطي الطبيعي؛ فخطاب “المقاومة” المعلّقة من جهة عزّز ولاءات لا تخضع للمراجعة أو المساءلة، وأعفى القوى المهيمنة من اختبارات الأداء في الاقتصاد والحكم والعدالة من جهة ثانية. وهذا الاستمرار في حالة الهياج والخوف وتصفير المستقبل أمام الأجيال، كان ثمنه الاجتماعي تعطيل أيّ عقد مدني متين. وبدل أن تكون السياسة سعياً لتحسين شروط الحياة اليومية للمواطنين ضمن قواعد مشتركة، باتت أسيرة شعارات كبرى لا تُقاس نتائجها، كـ”الكرامة” و”الانتصار الإلهي” وما شابه.
آليّات الأحزاب… حين تصنع السياسة سوقاً
آلات التعبئة، والانضباط التنظيمي، والمنابر الإعلامية، وشبكات الخدمة، والتمويل، وإعادة الإعمار: عناصر صارت في لبنان بنية حكم موازية بحدّ ذاتها. قوّة بعض الأحزاب تكمن في أنها مؤسّسات فاعلة في بلد تتعثّر فيه “المؤسّسة”. لكنْ، لهذه القوّة وجه آخر: لا تماثل في القواعد، وتنافس انتخابي يتجاوز البرامج إلى موازين مسبقة. عند تعميم هذا النمط، يكاد البلد يغدو “اتّحاد شبكات” بدل أن يكون دولة حقوق. والنتيجة أنّ مفهوم الشرعية نفسه لم يعد نقيّاً: هو خليط من الرمزي والقدسي والخدمي والأمني، تُقاس به السياسة كما تُقاس به الأخلاق…
فمثلاً لو كان الأمر يقتصر على “السلاح” بمعناه المادّي – مدافع وصواريخ وعتاد ثقيل – لهان النقاش على “حزب الله” وعلى خصومه معاً. فهذا السلاح، بحسب التجربة المكثّفة، لم يعد يغيّر المعادلات الإقليمية، بقدر ما يخلّف أكلافاً فادحة على حامليه وبيئتهم: موت ونزوح وخراب للمنازل والأعمال، وخسائر لا تعوّض للأرض والبلاد. لكنّ اختزال المسألة في الحديد والبارود تبسيط مضلّل؛ فالسلاح في التجربة اللبنانية الراهنة ليس مجرّد أدوات قتال؛ إنه نظام حياة كامل بنظمه ومعانيه ومؤسّساته. لذا يُصاغ التمسّك بالسلاح كقضيّة “وجود أو فناء”، ويُرى “تسليمه” بوصفه “انتحاراً” للجماعة؛ فليست المسألة “مستودع رصاص” بل سردية تأسيسية تمنح شرعية بديلة. عملياً، ازدواج القوّة وقرار الحرب/ السلم يهشّم ركناً مؤسّساً من العقد الاجتماعي، وتحويل الرعاية إلى قناة ولاء يعيد تعريف الحقّ العامّ؛ ومن ثمّ لا يستقيم نقاش السلاح من دون نقاش النظام الذي يعيد إنتاج معناه السياسي.
منذ 2006، ملأ “الوعد” و”جهاد البناء” فراغ الدولة وراكما رأسمالاً ولائياً، ثم ثبّتت الحرب السورية تداخل “الأمن الإقليمي” و”العقد الوطني” وحوّلت السجال إلى تخوين. ومع التوتّرات الأخيرة نعيش قواعد اشتباك مضمرة، وسياسة على إيقاع الاستثناء وحياة على حافّة “تعليق المستقبل”. النتيجة: لم يسقط العقد القانوني، لكنّه انحسر لصالح عقد مواز بلغة “الحماية” لا “الحقّ”.
ليست المسألة “شيطنة” طرف أو “تبرئة” آخر؛ إنها أقرب إلى توصيف واقع يضاعف كلفة العودة إلى قناة واحدة اسمها الدولة. ومن هنا، قد يلوح أن أيّ نقاش جدّي في السلاح، لا يستقيم بمعزل عن نقاش في النظام، الذي يعيد إنتاج معناه السياسي داخل الاجتماع اللبناني. حصيلة هذه العوامل كلّها كانت اختلالاً جوهرياً في العقد الاجتماعي اللبناني، تجلّى في سقوط احتكار الدولة القوّة وقرار السلم والحرب، فتبع أمن الناس لانتماءاتهم، وقيام رعاية حزبية بديلة حوّلت الحقّ إلى هبة مشروطة بالولاء، وتوقّف التداول السلمي والتخطيط البعيد فاستحكم انتظار عقيم، وتبدّل مصدر الشرعية من الدستور إلى رموز دينية/ أمنية/ خدمية عصيّة على المحاسبة، وانغلاق النقاش في ثنائيات التخوين/ الولاء التي أقصت السياسة العقلانية؛ لذلك نعيش “جمهوريات متوازية” داخل دولة واحدة، ويغدو أيّ حديث عن عقد جديد بلا تغيير جذري عبثاً.
والحال، فإن المسألة لا تُحلّ بالصدام، بل بتقنية سياسية تُبدّل الحوافز وتجمع القوّة والخدمة تحت سقف القانون: ليس المطلوب كسر السيف، بل وضع غمد قانوني يصون الردع ويُنهي حكم الاستثناء؛ تُعلَن استراتيجية دفاع وطنية تُدرِج القدرات ضمن سلسلة قيادة شرعية خاضعة للمساءلة، فننتقل من “سلاح معنى” فوق العقد، إلى قدرة دفاعية داخله. وبالموازاة، تُوحَّد معايير الخدمة العامّة عبر دمج تدريجي لشبكات الصحّة والتعليم والإغاثة، في برامج وطنية بنموذج “شراء خدمة” شفّاف، يحفظ دور المجتمع الأهلي، ويُسقط الثمن السياسي للخدمة. وتستقيم السياسة حين يُرى على فاتورتها: قانون عصري للأحزاب يكشف المال والإعلام الانتخابي ويُنعش الديمقراطية الداخلية، فتعود المنافسة إلى البرامج والأداء لا إلى تراتبية الشبكات. وعلى الأرض، لا مركزية بمحاسبة: صلاحيات أوسع للبلديات مقابل موازنات معلَنة ومؤشّرات أداء وقياس رضى، فتنشغل القوائم بفعالية الخدمة لا بهوّيتها. أمّا الاعتراضات الجاهزة—”الدولة فاشلة” و”الاحتكار غير واقعي” – فيُجاب عنها بهدوء: الردع لا يُناقض المأسسة، وتُهم الخيانة تُغلق النقاش بدل صيانته. الهدف ليس إلغاء أي حزب ولا التسليم بدولة معطوبة، بل هندسة انتقالية تعيد ربط قرار القوّة بالشرعية الدستورية، تفصل الحقّ عن الولاء، وتفتح الزمن السياسي على استحقاقات طبيعية؛ عندها تُستعاد لغة العقد: دولة تُحاسَب على خدمتها، أحزاب تتنافس ببرامج قابلة للقياس، ومجتمع ينتقد من دون فزّاعة.
في نهاية المطاف، سيكون على اللبنانيين الاختيار بين استمرار العيش في “سوق حماية” تتفكّك فيه الدولة إلى جزر وولاءات متناحرة، وبين بناء عقد مواطنة جديد، يُعيد الى الدولة دورها كإطار جامع ووحيد للجميع. الطريق الأوّل هو مسار اللادولة واللامستقبل، أما الطريق الثاني فهو وحده الكفيل بنقل لبنان من حالة الاستثناء والفوضى إلى الحالة الطبيعية التي يستحقّها أبناؤه – حيث الدولة هي الراعي والحكم، والمواطنون متساوون في ظلّها، والحياة السياسية قائمة على عقد اجتماعي واضح يحترم ويجدّد باستمرار.
إقرأوا أيضاً:











