fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

 العلاج أصبح “للأثرياء فقط”:
طبيب  مصري يشكك في تديُّن “المُتعبين نفسياً” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أخاف أن أذهب إلى الطبيب النفسي فأكون قد أكدت هذا الاقتناع بأن علاجي بالطب وليس بالدين، ويترتب على ذلك أن أكونَ كافرة أو مذنبة لأني فضلت الطب على الدين”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أثارت تصريحات الطبيب المصري حسام موافي، أستاذ الحالات الحرجة في كلية طب قصر العيني، بشأن الصحة النفسية، وقوله إن الأمراض النفسية لا تصيب مؤمناً، غضباً كبيراً في الأوساط الطبية والعلمية وبين الجمهور المصري، لربطه بين التدين والإيمان من جانب، ومعدلات الصحة النفسية من جانب آخر، واعتباره الاضطرابات النفسية بُعداً من الله والدين، ليضاعف الألم الذي يشعر به المصابون باضطرابات نفسية مختلفة الأسباب. 

وإلى جانب ما يعنيه وصم المصابين باضطرابات نفسية بالابتعاد من الدين، ووصف علاجات روحية كالصلاة والاستغفار والتقرب إلى الله، يتجاهل الطبيب الجدل القائم حول الصحة النفسية، التكلفة العالية للعلاج النفسي، مقارنةً بمعدلات الدخل والحد الأدنى للأجور في مصر. 

وزارة الصحة المصرية أجرت مسحاً قومياً للصحة النفسية، لقياس معدل انتشار الاضطرابات النفسية بالجمهورية، وأعلنت نتائجه عام 2018، ليؤكد المسح أن شخصاً من كل 4 أشخاص في مصر لديه عرض أو اضطراب نفسي، أي 25 في المئة من المصريين يعانون نفسياً، لكن 0.4 في المئة فقط يتلقون العلاج.

وأشار المسح “الرسمي” إلى أنّ 43.7 في المئة من المصابين يعانون من الاكتئاب، وبمرور 4 سنوات، رجّحت بعض التقديرات وصول نسبة المصريين المصابين بالاكتئاب إلى 60 في المئة. 

تزايدت خلال السنوات الأربع معدلات الانتحار والجرائم وأعداد المنتحرين وتنوعت دوافعهم، لم تتخذ الحكومة المصرية إجراءً أو تقود مبادرة قومية- كما المبادرات الأخرى المهتمة بالبناء وتشييد المدن العملاقة- لتوقيع الكشف النفسي على المصريين، والارتقاء بحالاتهم أو تقديم الدعم النفسي لهم، برغم ما خلّفه فايروس “كورونا” المستجد من اضطرابات وأزمات نفسية بدأت حكومات العالم التعامل معها بصور مختلفة، لم تكن الحكومة المصرية من بينهم.

كيف بدأ العلاج النفسي الكاذب بـ”الصلوات والتسابيح”؟

كان التداوي بالدين والإيمان والصلوات- لوقت طويل في الأوساط المصرية- بديلاً من مراجعة الطبيب النفسي، عبر التاريخ، وتزايدت تلك النزعة مع صعود ما يعرف بالصحوة الإسلامية، إذ كانت نصائح المشايخ- في ذلك الوقت- تشجّع على الرقية باعتبارها سنةً عن النبي محمد، مع الكثير من التفسيرات والتشخيصات الدينية للمرض النفسي. يقول د. إبراهيم حسين، مختص الطب النفسي، في حديث لـ”درج” إن “الأنظمة السياسية العربية، وتحديداً في مصر، استخدمت صعود مشايخ السلفيين ما بعد عام 2000، في ظل التواطؤ الصريح بينهما، لتحريض المشايخ ضد الطب النفسي، فتولّد لدى الناس- إلى جانب الخوف من الوصم حال الذهاب إلى طبيب نفسي- نوعاً من الشعور بالذنب إذا شعروا بإرهاق نفسي”. 

ويجيب على السؤال حول سبب ذلك، بتأكيده أنّ “المشايخ والدعاة- في الفضائيات والدروس وخطب الجمعة- كانوا يردّون على سائليهم حول ما يفعلونه إذا شعروا بالضيق أو لازمهم الحزن، بالتشجيع على الصلاة ونقاء القلب والإيمان بالله أكثر، والتسليم للأقدار، وعدم الاعتراض على إرادة السماء، ويتّهمون من يعاني اضطراباً نفسياً ناتجاً عن أي شيء بالتقصير دينياً، والبعد من الله”.

ويرى المختص النفسي، أن “هناك سبباً آخر، وهو سياسي بالدرجة الأولى، وهو أنّ نظام مبارك في مصر أطلق أصوات السلفيين وخطابهم فوق المنابر وعلى شاشات التلفزيون كي يعملوا كمسكّن للناس، وليمنعوهم من الشعور بالغضب أو الثورة، كبديل ديني لجماعة الإخوان المسلمين التي كانت تحشد دوماً للغضب، فكان دورُ الدعوة السلفية تهدئة الناس، وإرجاع الكرب الذي يشعرون به، إلى سوء نوعية حياتهم الذي أنتجته سياسات خاطئة وفساد الدولة، إلى بُعدهم من الله، ونقائص أخرى في تديّنهم، حتى يشعروا بالذنب بدلاً من الشعور بالغضب، فكان معظم الدعاة يجيبون أسئلة المصابين باضطرابات نفسية بإقناعهم بأهمية قيام الله وصلاة الفجر والرقية الشرعية، واستمر ذلك الخطاب حتى الآن، اعتاده المجتمع، وأصبح جزءاً من تكوينِه ووعيِه الجمعي، ويعاد إنتاج ذلك الخطاب باستمرار وبأشكال مختلفة، في الغالب، تزيد اكتئاب المصابين، ولا تداويهم”.

إقرأوا أيضاً:

الرقية الشرعية وسورة البقرة… “روشتة” الشعراوي ومحمد حسان للتعافي من الاكتئاب

بالبحث في مواقع الحصول على الفتاوى والآراء الدينية، بدا أن معظم السائلين يضعون التديّن والطب النفسي في تنافس، وكأنها يتصارعان، باعتبار أن طلب المساعدة الطبية “ذنب”. وعلى موقع “إسلام ويب” الأشهر في ذلك المجال بالمحتوى العربي، تشكو إحدى السائلات من معاناتها من الوسواس القهري في الطهارة والصلاة وأمور أخرى، وتؤكد أنها حاولت التخلص منه “عن طريق الاستعاذبة ولكني لم أستطع، ففكرت بالذهاب إلى الطبيب النفسي، ولكنني أرى أنني بذهابي إلى الطبيب النفسي أكون مقتنعة بأنّ ما عندي لا يذهب بالتدين ولكن بالطب، وكأنني فضلت الطب على الدين، لأنني في أوقات كثيرة أقتنع بأن علاجي يكون بالطب وليس بالدين”. 

وتضيف السائلة: “أخاف أن أذهب إلى الطبيب النفسي فأكون قد أكدت هذا الاقتناع بأن علاجي بالطب وليس بالدين، ويترتب على ذلك أن أكونَ كافرة أو مذنبة لأني فضلت الطب على الدين”. وتتسائل: “هل أذهب للطبيب النفسي أم لا؟ وهل إذا ذهبت مع اقتناعي أن علاجي بالطلب وليس الدين، أي فضلت الطب على الدين، أكون كافرة أم مذنبة؟

يشعر كثيرون بالقلق من أن يكون زيارة الطبيب النفسي تفضيلاً للطب على الدين، وكفراً بالنصوص الدينية، التي يعتبرون أن دورها هو إراحة القلب والعلاج الروحي والنفسي، ولم تكنّ فتوى “إسلام ويب” بعيدة من ذلك كثيراً، فاقترحت العلاج بشيئين، أولهما الرقية الشرعي: “بأن ترقي نفسك أو يرقيك غيرك مع المحافظة على الأذكار والدعاء لله تعالى بصدق وإخلاص”. وثانيهما، حال فشل الرقية في المواجهة، بـ”الذهاب إلى الطبيب النفسي وتناول الدواء المناسب”.

لم تكن تلك الفتوى متداولة في عصور سابقة، حين كان الدعاة الإسلاميون يخصّصون حلقات وساعات هواء وخطب كاملة لتوضيح أسباب الاكتئاب وعلاجه، وهو عنوان إحدى خطب شيخ السلفية الأبرز، محمد حسان، وكذلك تقديم علاج للقلق والخوف والوسواس القهري، إحدى خطب الشيخ متولي الشعراوي، وزير الأوقاف المصري السابق، إلى جانب سلسلة من الحلقات والخُطَب والفتاوى حول أبسط الطرق لعلاج الوسواس القهري، والخوف والقلق. 

ويلخّص “حسان” علاج الخوف والقلق والوسواس القهري، قائلاً: “العلاج كلمة واحدة… الإيمان”، ويقدم أفضل طريقة للتخلص من الاكتئاب (طبقاً لعنون المقطع بموقع يوتيوب)، وهي: “العودة إلى رب الأرض والسموات، الوحيد الذي يشعرك بالأنس والسعادة والرضا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟”.

وفي حلقة تلفزيونية أخرى، بُثّت عام 2009، يستخرج علاج الوسواس القهري من القرآن والسنة، بفتوى تقول: “من ابتُلي بذلك المرض عليه أن يحقق العبودية لله، وأن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يجدّد التوبة والأوبة، والمواظبة على قراءة سورة البقرة، وإذا استطاع أن يقرأها في كل 3 ليالٍ مرة، فليفعل، لأن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة”. 

أما الشعراوي، ضمن حلقاته التي كانت تتصدّر التليفزيون الرسمي المصري أيام الجمعة طوال سنوات “حديث الشعراوي”، فيستعين بوصفة قدّمها جعفر بن أبي طالب، وهي: “أن تقول حسبنا الله ونعم الوكيل، لأن كل ما يخيفك دون قوة الله، وعجبت ممّن اغتمّ (أي أصيب بالغم، وهو كآبة النفس من شيء قد لا تعرف مصدره)، ولم يفزع إلى قول الله تعالى: لا إله إلا أنت سبحانك… إني كنت من الظالمين”. 

تحوّلت الرسائل الدينية، التي احتوتها خطب وشرائط وحلقات تلفزيونية، إلى وعي جمعي لدى المصريين، يزيد اضطراباتهم النفسية، ويضاعف صمتهم عليها، فضلاً عن شعورهم العميق بالذنب، الذي يعطّل حياتهم ويزيدها صعوبة رغم أن الأطباء النفسيين يملكون دواءً قد يحلّ المشكلة، ويرى د. إبراهيم حسين، أنّ “تلك النغمة بدأت تعود مجدداً، مع ضيق الحال وتزايد الفقر والغلاء وحالات الانتحار والجرائم إلى تشير إلى خلل نفسي كبير أصاب أعداداً هائلة من المصريين، حتى تبرئ النظام السياسي القائم من المسؤولية عن ذلك، وتحيل الخلل النفسي إلى ضعف إيمان الشعب، وابتعاده عن الله، وعدم رضاه بالقدر والمقسوم، وذلك هو الخطر الذي يحيط بنا الآن، بخاصة أن الاضطرابات النفسية في تزايد ملحوظ وآثارها تهدد تماسك المجتمع وقد تفتك به”.

العلاج النفسي “خارج التغطية” في مصر

يرى الطبيب النفسي المصري، أحمد عكاشة، المستشار النفسي لرئيس الجمهورية، أن 24 في المئة من المصريين مصابون باضطراب نفسي، مؤكداً أن “70 في المئة منهم يُعالَجون بالخرافات”. ويملك عكاشة، ضمن منتجعه الصحي الكبير للطب النفسي في القاهرة الجديدة، أكبر أرشيف معلومات وأبحاث حول الصحة النفسية للمصريين، وأكثر ما يصيبهم من اضطرابات وأمراض نفسية، لكن لا يزال ذلك المركز الطبي الفخم “للأثرياء فقط”، إذ إنّ سعر الجلسة الواحدة به تصل إلى 1000 جنيه مصري (نحو 53 دولاراً)، إذ يمرّ المصاب بأطباء، من درجات طبية مختلفة، وتلتقي الحالات الحرجة فقط – بعد الكثير من الجلسات- بالدكتور “عكاشة”، المُلقّب بـ”الطبيب النفسي للمشاهير”. 

العلاج النفسي لا تغطيه غالباً عقود التأمين الصحي “الحكومية والخاصة”، ما يدفع المتعبين نفسياً إلى توقيع الكشف الطبي في مستشفيات خاصة على نفقتهم، تفادياً لسوء المستوى الطبي والمعاملة بالمستشفيات العامة، وبالبحث عبر موقع “شيزلونج“، المتخصّص في الجلسات النفسية عبر الإنترنت، فأقل سعر لجلسة مدتها 60 دقيقة هو 260 جنيهاً (نحو 14 دولاراً). وبحسب موقع “فيزيتا“، المتخصّص في تنفيذ الحجوزات بالعيادات والمستشفيات، لا يقل سعر الجلسة “وجهاً لوجه” عن 300 جنيه (نحو 16 دولاراً). وهي مبالغ لا تتناسب والحد الأدنى للأجور في مصر، الذي يبلغ 128 دولاراً فقط، وهو ما يعني أن سعر جلستين نفسيتين شهرياً (وهو الحد الأدنى) سيقتطع رُبع الراتب، إذا تطابق مع الحد الأدنى للأجور.

“الجلسات تستنزف أكثر من ربع راتبي”!

التجربة التي يشهدها المصاب باضطراب نفسي، حين يقرر اللجوء إلى الطبيب، لم تكن بأفضل ما يكون بالنسبة إلى أحمد يوسف، وهو شاب مصري في العقد الثالث من عمره. يروي لـ”درج”، أنه اختار إحدى العيادات القريبة من منزله وتتناسب مع الميزانية التي اقتطعها من راتبه المحدود كي يتخلّص من متاعبه النفسية. يضيف: “قلت إنني لو رأيت شيئاً لم يعجبني قبل توقيع الكشف سأرحل، وهناك، وجدت أسراً تقابل مُحتجزين وتناولهم الطعام وتحاول إسعادهم للحظات، ولم يكن ذلك في غرف منفصلة أو خاصة، وكان هؤلاء المحتجزون بحال يرثى لها”. 

أشفق أحمد على المصابين باضطرابات شديدة، وكادت تلك المشاهد تقصي فكرة العلاج النفسي من رأسه: “خفت أن أتحوّل إلى واحد من هؤلاء يوماً ما”. دخل إلى عيادة الطبيب ليجده وبجواره طبيب آخر متدرّب، وهو المشهد الثاني الذي أزعجه: “شعرت بعدم الارتياح لوجود شخص بجوار الطبيب، وسرّب إليّ ذلك تململاً وحرجاً من الفكرة بالكامل، من هذا؟ ولماذا يجلس هكذا؟… عرفت أنه متدرّب، يتدرّب علينا!”.

ويروي أنه صار يصف الدواء نفسه للأصدقاء، للتوفير على جيوبهم، ومنعاً لمرورهم بتجربة سيئة، حين لاحظ أن معظم الأطباء ينصحون مرضاهم بتناول مضادات اكتئاب: “أسعار العلاج باهظة، فأن تذهب إلى طبيب وتدفع مبلغاً مالياً كبيراً، هذه رفاهية، أما أن تفعل ذلك وتشتري العلاج أيضاً وتداوم على شرائه وتناوله لفترة ليست قصيرة، فذلك يحتاج إلى مليونير”.

يشارك محمد صلاح، وهو مصري في العقد الرابع من عمره، يقول لـ”درج”: “رسمت سيناريو استوحيته مما كنت أشاهده في الأفلام، لكن التجربة مختلفة تماماً، لم يعد الأطباء النفسيون يهتمون بسماعنا، وذلك أفسد عليّ التجربة، فأنا أفضل الطريقة التقليدية في العلاج، أحب أن أبوحَ بما في داخلي، وأحضر عدة جلسات حتى أرتاح، لكن الطبيب حسم الأمر في أول جلسة، ومنحني مضاد اكتئاب أستمر عليه لمدة شهر ثم أعود إليه”. 

ويؤكّد أن حالته تحسّنت على العلاج، لكن “توقفت عن تناول الدواء، لأنه سبب لي عجزاً جنسياً موقتاً، وهو ما أدى إلى شعور سيئ لا يقل عن الاكتئاب، كما أنه كان علاجاً باهظ الثمن، لم أكن أستطيع تدبير ثمنه شهرياً، فبدأت تناوله ثم الانقطاع عنه، وحين تسوء حالتي، أعود إليه”.

يشكّل المصريون، في معظم تجاربهم مع العلاج النفسي، ذكريات سيئة، تساعدهم قليلاً، وتجرح مشاعرهم وميزانياتهم كثيراً، بينما يهمل النظام السياسي الصحة النفسية ويترك المستشفيات بحال يرثى لها، وينشغل ببناء الكباري والمدن الجديدة، على حساب صحة الإنسان.

إقرأوا أيضاً:

https://www.youtube.com/watch?v=jWeSU5KXOJY
06.07.2022
زمن القراءة: 8 minutes

“أخاف أن أذهب إلى الطبيب النفسي فأكون قد أكدت هذا الاقتناع بأن علاجي بالطب وليس بالدين، ويترتب على ذلك أن أكونَ كافرة أو مذنبة لأني فضلت الطب على الدين”

أثارت تصريحات الطبيب المصري حسام موافي، أستاذ الحالات الحرجة في كلية طب قصر العيني، بشأن الصحة النفسية، وقوله إن الأمراض النفسية لا تصيب مؤمناً، غضباً كبيراً في الأوساط الطبية والعلمية وبين الجمهور المصري، لربطه بين التدين والإيمان من جانب، ومعدلات الصحة النفسية من جانب آخر، واعتباره الاضطرابات النفسية بُعداً من الله والدين، ليضاعف الألم الذي يشعر به المصابون باضطرابات نفسية مختلفة الأسباب. 

وإلى جانب ما يعنيه وصم المصابين باضطرابات نفسية بالابتعاد من الدين، ووصف علاجات روحية كالصلاة والاستغفار والتقرب إلى الله، يتجاهل الطبيب الجدل القائم حول الصحة النفسية، التكلفة العالية للعلاج النفسي، مقارنةً بمعدلات الدخل والحد الأدنى للأجور في مصر. 

وزارة الصحة المصرية أجرت مسحاً قومياً للصحة النفسية، لقياس معدل انتشار الاضطرابات النفسية بالجمهورية، وأعلنت نتائجه عام 2018، ليؤكد المسح أن شخصاً من كل 4 أشخاص في مصر لديه عرض أو اضطراب نفسي، أي 25 في المئة من المصريين يعانون نفسياً، لكن 0.4 في المئة فقط يتلقون العلاج.

وأشار المسح “الرسمي” إلى أنّ 43.7 في المئة من المصابين يعانون من الاكتئاب، وبمرور 4 سنوات، رجّحت بعض التقديرات وصول نسبة المصريين المصابين بالاكتئاب إلى 60 في المئة. 

تزايدت خلال السنوات الأربع معدلات الانتحار والجرائم وأعداد المنتحرين وتنوعت دوافعهم، لم تتخذ الحكومة المصرية إجراءً أو تقود مبادرة قومية- كما المبادرات الأخرى المهتمة بالبناء وتشييد المدن العملاقة- لتوقيع الكشف النفسي على المصريين، والارتقاء بحالاتهم أو تقديم الدعم النفسي لهم، برغم ما خلّفه فايروس “كورونا” المستجد من اضطرابات وأزمات نفسية بدأت حكومات العالم التعامل معها بصور مختلفة، لم تكن الحكومة المصرية من بينهم.

كيف بدأ العلاج النفسي الكاذب بـ”الصلوات والتسابيح”؟

كان التداوي بالدين والإيمان والصلوات- لوقت طويل في الأوساط المصرية- بديلاً من مراجعة الطبيب النفسي، عبر التاريخ، وتزايدت تلك النزعة مع صعود ما يعرف بالصحوة الإسلامية، إذ كانت نصائح المشايخ- في ذلك الوقت- تشجّع على الرقية باعتبارها سنةً عن النبي محمد، مع الكثير من التفسيرات والتشخيصات الدينية للمرض النفسي. يقول د. إبراهيم حسين، مختص الطب النفسي، في حديث لـ”درج” إن “الأنظمة السياسية العربية، وتحديداً في مصر، استخدمت صعود مشايخ السلفيين ما بعد عام 2000، في ظل التواطؤ الصريح بينهما، لتحريض المشايخ ضد الطب النفسي، فتولّد لدى الناس- إلى جانب الخوف من الوصم حال الذهاب إلى طبيب نفسي- نوعاً من الشعور بالذنب إذا شعروا بإرهاق نفسي”. 

ويجيب على السؤال حول سبب ذلك، بتأكيده أنّ “المشايخ والدعاة- في الفضائيات والدروس وخطب الجمعة- كانوا يردّون على سائليهم حول ما يفعلونه إذا شعروا بالضيق أو لازمهم الحزن، بالتشجيع على الصلاة ونقاء القلب والإيمان بالله أكثر، والتسليم للأقدار، وعدم الاعتراض على إرادة السماء، ويتّهمون من يعاني اضطراباً نفسياً ناتجاً عن أي شيء بالتقصير دينياً، والبعد من الله”.

ويرى المختص النفسي، أن “هناك سبباً آخر، وهو سياسي بالدرجة الأولى، وهو أنّ نظام مبارك في مصر أطلق أصوات السلفيين وخطابهم فوق المنابر وعلى شاشات التلفزيون كي يعملوا كمسكّن للناس، وليمنعوهم من الشعور بالغضب أو الثورة، كبديل ديني لجماعة الإخوان المسلمين التي كانت تحشد دوماً للغضب، فكان دورُ الدعوة السلفية تهدئة الناس، وإرجاع الكرب الذي يشعرون به، إلى سوء نوعية حياتهم الذي أنتجته سياسات خاطئة وفساد الدولة، إلى بُعدهم من الله، ونقائص أخرى في تديّنهم، حتى يشعروا بالذنب بدلاً من الشعور بالغضب، فكان معظم الدعاة يجيبون أسئلة المصابين باضطرابات نفسية بإقناعهم بأهمية قيام الله وصلاة الفجر والرقية الشرعية، واستمر ذلك الخطاب حتى الآن، اعتاده المجتمع، وأصبح جزءاً من تكوينِه ووعيِه الجمعي، ويعاد إنتاج ذلك الخطاب باستمرار وبأشكال مختلفة، في الغالب، تزيد اكتئاب المصابين، ولا تداويهم”.

إقرأوا أيضاً:

الرقية الشرعية وسورة البقرة… “روشتة” الشعراوي ومحمد حسان للتعافي من الاكتئاب

بالبحث في مواقع الحصول على الفتاوى والآراء الدينية، بدا أن معظم السائلين يضعون التديّن والطب النفسي في تنافس، وكأنها يتصارعان، باعتبار أن طلب المساعدة الطبية “ذنب”. وعلى موقع “إسلام ويب” الأشهر في ذلك المجال بالمحتوى العربي، تشكو إحدى السائلات من معاناتها من الوسواس القهري في الطهارة والصلاة وأمور أخرى، وتؤكد أنها حاولت التخلص منه “عن طريق الاستعاذبة ولكني لم أستطع، ففكرت بالذهاب إلى الطبيب النفسي، ولكنني أرى أنني بذهابي إلى الطبيب النفسي أكون مقتنعة بأنّ ما عندي لا يذهب بالتدين ولكن بالطب، وكأنني فضلت الطب على الدين، لأنني في أوقات كثيرة أقتنع بأن علاجي يكون بالطب وليس بالدين”. 

وتضيف السائلة: “أخاف أن أذهب إلى الطبيب النفسي فأكون قد أكدت هذا الاقتناع بأن علاجي بالطب وليس بالدين، ويترتب على ذلك أن أكونَ كافرة أو مذنبة لأني فضلت الطب على الدين”. وتتسائل: “هل أذهب للطبيب النفسي أم لا؟ وهل إذا ذهبت مع اقتناعي أن علاجي بالطلب وليس الدين، أي فضلت الطب على الدين، أكون كافرة أم مذنبة؟

يشعر كثيرون بالقلق من أن يكون زيارة الطبيب النفسي تفضيلاً للطب على الدين، وكفراً بالنصوص الدينية، التي يعتبرون أن دورها هو إراحة القلب والعلاج الروحي والنفسي، ولم تكنّ فتوى “إسلام ويب” بعيدة من ذلك كثيراً، فاقترحت العلاج بشيئين، أولهما الرقية الشرعي: “بأن ترقي نفسك أو يرقيك غيرك مع المحافظة على الأذكار والدعاء لله تعالى بصدق وإخلاص”. وثانيهما، حال فشل الرقية في المواجهة، بـ”الذهاب إلى الطبيب النفسي وتناول الدواء المناسب”.

لم تكن تلك الفتوى متداولة في عصور سابقة، حين كان الدعاة الإسلاميون يخصّصون حلقات وساعات هواء وخطب كاملة لتوضيح أسباب الاكتئاب وعلاجه، وهو عنوان إحدى خطب شيخ السلفية الأبرز، محمد حسان، وكذلك تقديم علاج للقلق والخوف والوسواس القهري، إحدى خطب الشيخ متولي الشعراوي، وزير الأوقاف المصري السابق، إلى جانب سلسلة من الحلقات والخُطَب والفتاوى حول أبسط الطرق لعلاج الوسواس القهري، والخوف والقلق. 

ويلخّص “حسان” علاج الخوف والقلق والوسواس القهري، قائلاً: “العلاج كلمة واحدة… الإيمان”، ويقدم أفضل طريقة للتخلص من الاكتئاب (طبقاً لعنون المقطع بموقع يوتيوب)، وهي: “العودة إلى رب الأرض والسموات، الوحيد الذي يشعرك بالأنس والسعادة والرضا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟”.

وفي حلقة تلفزيونية أخرى، بُثّت عام 2009، يستخرج علاج الوسواس القهري من القرآن والسنة، بفتوى تقول: “من ابتُلي بذلك المرض عليه أن يحقق العبودية لله، وأن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يجدّد التوبة والأوبة، والمواظبة على قراءة سورة البقرة، وإذا استطاع أن يقرأها في كل 3 ليالٍ مرة، فليفعل، لأن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة”. 

أما الشعراوي، ضمن حلقاته التي كانت تتصدّر التليفزيون الرسمي المصري أيام الجمعة طوال سنوات “حديث الشعراوي”، فيستعين بوصفة قدّمها جعفر بن أبي طالب، وهي: “أن تقول حسبنا الله ونعم الوكيل، لأن كل ما يخيفك دون قوة الله، وعجبت ممّن اغتمّ (أي أصيب بالغم، وهو كآبة النفس من شيء قد لا تعرف مصدره)، ولم يفزع إلى قول الله تعالى: لا إله إلا أنت سبحانك… إني كنت من الظالمين”. 

تحوّلت الرسائل الدينية، التي احتوتها خطب وشرائط وحلقات تلفزيونية، إلى وعي جمعي لدى المصريين، يزيد اضطراباتهم النفسية، ويضاعف صمتهم عليها، فضلاً عن شعورهم العميق بالذنب، الذي يعطّل حياتهم ويزيدها صعوبة رغم أن الأطباء النفسيين يملكون دواءً قد يحلّ المشكلة، ويرى د. إبراهيم حسين، أنّ “تلك النغمة بدأت تعود مجدداً، مع ضيق الحال وتزايد الفقر والغلاء وحالات الانتحار والجرائم إلى تشير إلى خلل نفسي كبير أصاب أعداداً هائلة من المصريين، حتى تبرئ النظام السياسي القائم من المسؤولية عن ذلك، وتحيل الخلل النفسي إلى ضعف إيمان الشعب، وابتعاده عن الله، وعدم رضاه بالقدر والمقسوم، وذلك هو الخطر الذي يحيط بنا الآن، بخاصة أن الاضطرابات النفسية في تزايد ملحوظ وآثارها تهدد تماسك المجتمع وقد تفتك به”.

العلاج النفسي “خارج التغطية” في مصر

يرى الطبيب النفسي المصري، أحمد عكاشة، المستشار النفسي لرئيس الجمهورية، أن 24 في المئة من المصريين مصابون باضطراب نفسي، مؤكداً أن “70 في المئة منهم يُعالَجون بالخرافات”. ويملك عكاشة، ضمن منتجعه الصحي الكبير للطب النفسي في القاهرة الجديدة، أكبر أرشيف معلومات وأبحاث حول الصحة النفسية للمصريين، وأكثر ما يصيبهم من اضطرابات وأمراض نفسية، لكن لا يزال ذلك المركز الطبي الفخم “للأثرياء فقط”، إذ إنّ سعر الجلسة الواحدة به تصل إلى 1000 جنيه مصري (نحو 53 دولاراً)، إذ يمرّ المصاب بأطباء، من درجات طبية مختلفة، وتلتقي الحالات الحرجة فقط – بعد الكثير من الجلسات- بالدكتور “عكاشة”، المُلقّب بـ”الطبيب النفسي للمشاهير”. 

العلاج النفسي لا تغطيه غالباً عقود التأمين الصحي “الحكومية والخاصة”، ما يدفع المتعبين نفسياً إلى توقيع الكشف الطبي في مستشفيات خاصة على نفقتهم، تفادياً لسوء المستوى الطبي والمعاملة بالمستشفيات العامة، وبالبحث عبر موقع “شيزلونج“، المتخصّص في الجلسات النفسية عبر الإنترنت، فأقل سعر لجلسة مدتها 60 دقيقة هو 260 جنيهاً (نحو 14 دولاراً). وبحسب موقع “فيزيتا“، المتخصّص في تنفيذ الحجوزات بالعيادات والمستشفيات، لا يقل سعر الجلسة “وجهاً لوجه” عن 300 جنيه (نحو 16 دولاراً). وهي مبالغ لا تتناسب والحد الأدنى للأجور في مصر، الذي يبلغ 128 دولاراً فقط، وهو ما يعني أن سعر جلستين نفسيتين شهرياً (وهو الحد الأدنى) سيقتطع رُبع الراتب، إذا تطابق مع الحد الأدنى للأجور.

“الجلسات تستنزف أكثر من ربع راتبي”!

التجربة التي يشهدها المصاب باضطراب نفسي، حين يقرر اللجوء إلى الطبيب، لم تكن بأفضل ما يكون بالنسبة إلى أحمد يوسف، وهو شاب مصري في العقد الثالث من عمره. يروي لـ”درج”، أنه اختار إحدى العيادات القريبة من منزله وتتناسب مع الميزانية التي اقتطعها من راتبه المحدود كي يتخلّص من متاعبه النفسية. يضيف: “قلت إنني لو رأيت شيئاً لم يعجبني قبل توقيع الكشف سأرحل، وهناك، وجدت أسراً تقابل مُحتجزين وتناولهم الطعام وتحاول إسعادهم للحظات، ولم يكن ذلك في غرف منفصلة أو خاصة، وكان هؤلاء المحتجزون بحال يرثى لها”. 

أشفق أحمد على المصابين باضطرابات شديدة، وكادت تلك المشاهد تقصي فكرة العلاج النفسي من رأسه: “خفت أن أتحوّل إلى واحد من هؤلاء يوماً ما”. دخل إلى عيادة الطبيب ليجده وبجواره طبيب آخر متدرّب، وهو المشهد الثاني الذي أزعجه: “شعرت بعدم الارتياح لوجود شخص بجوار الطبيب، وسرّب إليّ ذلك تململاً وحرجاً من الفكرة بالكامل، من هذا؟ ولماذا يجلس هكذا؟… عرفت أنه متدرّب، يتدرّب علينا!”.

ويروي أنه صار يصف الدواء نفسه للأصدقاء، للتوفير على جيوبهم، ومنعاً لمرورهم بتجربة سيئة، حين لاحظ أن معظم الأطباء ينصحون مرضاهم بتناول مضادات اكتئاب: “أسعار العلاج باهظة، فأن تذهب إلى طبيب وتدفع مبلغاً مالياً كبيراً، هذه رفاهية، أما أن تفعل ذلك وتشتري العلاج أيضاً وتداوم على شرائه وتناوله لفترة ليست قصيرة، فذلك يحتاج إلى مليونير”.

يشارك محمد صلاح، وهو مصري في العقد الرابع من عمره، يقول لـ”درج”: “رسمت سيناريو استوحيته مما كنت أشاهده في الأفلام، لكن التجربة مختلفة تماماً، لم يعد الأطباء النفسيون يهتمون بسماعنا، وذلك أفسد عليّ التجربة، فأنا أفضل الطريقة التقليدية في العلاج، أحب أن أبوحَ بما في داخلي، وأحضر عدة جلسات حتى أرتاح، لكن الطبيب حسم الأمر في أول جلسة، ومنحني مضاد اكتئاب أستمر عليه لمدة شهر ثم أعود إليه”. 

ويؤكّد أن حالته تحسّنت على العلاج، لكن “توقفت عن تناول الدواء، لأنه سبب لي عجزاً جنسياً موقتاً، وهو ما أدى إلى شعور سيئ لا يقل عن الاكتئاب، كما أنه كان علاجاً باهظ الثمن، لم أكن أستطيع تدبير ثمنه شهرياً، فبدأت تناوله ثم الانقطاع عنه، وحين تسوء حالتي، أعود إليه”.

يشكّل المصريون، في معظم تجاربهم مع العلاج النفسي، ذكريات سيئة، تساعدهم قليلاً، وتجرح مشاعرهم وميزانياتهم كثيراً، بينما يهمل النظام السياسي الصحة النفسية ويترك المستشفيات بحال يرثى لها، وينشغل ببناء الكباري والمدن الجديدة، على حساب صحة الإنسان.

إقرأوا أيضاً:

https://www.youtube.com/watch?v=jWeSU5KXOJY