على كثرة ما كُتب عن العلويين، ومحاولة فهم علاقتهم بالسلطة الأسدية، لم تُبذل محاولات مماثلة إزاء فهم علاقتهم بسوريا نفسها. ثمة كليشيهات شائعة على هذا الصعيد، من موقع اتهامي غالباً، تتعلق بعريضة وقّعها وجهاء علويون، طالبوا فيها فرنسا بإبقاء انتدابها على سوريا. وقد اشتُهرت العريضة بسبب ما أُشيع عن توقيع جدّ بشار الأسد عليها، برغم ما هو معروف عن عدم انتماء العائلة إلى فئة الوجهاء، ومن المرجّح أن يكون شخص آخر هو الموقِّع على البيان، وأن ثمّة تشابهاً وخلطاً بين الأسماء.
هناك أيضاً، من الموقع المضاد نفسه، كليشيه عن جيش الشرق الذي أُنشئ أيام فرنسا واعتمد على الأقليات، ثم صار الجيش السوري الرسمي. وفق هذه الرواية، فخّخت فرنسا الدولةَ السورية الوليدة بتحالف عسكري للأقليات، وهذا التحالف أوصل سوريا إلى انقلاب البعث، ثم إلى هيمنة العلويين المطلقة على السلطة بعد انقلاب الأسد. وهذه الرواية، التي تبدو كأنها تُكمل سابقتها، لا تقول شيئاً يُذكر عن حقبة الخمسينيات التي تبقى كأنها فجوة زمنية لا أكثر، وتعزّز كسابقتها الظنّ بأن العلويين هم ضد الدولة السورية، بدءاً من رفض استقلالها عن فرنسا، وصولاً إلى الهيمنة عليها في عهد الأسد.
بخلاف هذه الصورة التبسيطية، نزعم أن العلويين تحديداً لا خيار لهم سوى الدولة السورية، وأنهم كانوا معنيين (ربما أكثر من الجماعات السورية الأخرى) بالكيان السوري الوليد. الأمر لا يتعلق هنا بالتوجهات الشخصية لأي منها، بل تحكمه الوقائع، والأخيرة تقول إن معظم الجماعات السورية الأخرى لها امتدادات تفيض على حدود الكيان السوري، بخلاف العلويين الذين ليس لديهم في مخيالهم الجمعي (إن جاز التعبير) هذا الامتداد، ولا هو موجود في إرث رمزي متداول.
الجماعة العربية السنية هي الأكثرية العددية الساحقة في سوريا، لكن هذا لا يقول كل شيء عن موقعها، فهذه الجماعة تستند أيضاً إلى محيط جغرافي واسع؛ سنّي وعربي- سني، ما يجعلها أشد اطمئناناً إلى أكثريتها المحلية.
وكما نعلم، شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تدخلاً أوروبياً حثيثاً في بلاد الشام، من أجل حماية الطوائف المسيحية، على خلفية الأحداث والمذابح الطائفية التي حدثت آنذاك. هذا، من دون الوقوع في فخّ الاتهام والتبسيط، منحَ الطوائف المسيحية اطمئناناً إلى كونها مسنودة بالغرب القوي، فوق القرابة الدينية. والانتماء المزدوج، إلى الغرب والشرق معاً، نجد له إرثاً رمزياً شديد الصراحة في الأدبيات اللبنانية، خصوصاً المسيحية منها.
وعلى رغم تأخر الكرد في بلورة تنظيمات سياسية، يجوز القول إنهم إجمالاً غير راضين عن تقسيم المنطقة الذي نشأ بموجبه الكيان السوري. يستند الكرد في عدم الرضا، إلى إغفال القسمة الدولية إقامةَ دولة كردية، ليبقى الكرد موزّعين بين أربع من دول المنطقة. لكن، بناء على القسمة ذاتها، يمكن القول إن كرد سوريا لديهم إحساس بالوجود خارج حدود الدولة السورية، بدءاً من العمق العراقي الذي كان له بدايةً الأثر الأكبر (من خلال ثورة البارزاني) في تشكيل إرث رمزي نضالي، وصولاً إلى الارتباط بكرد تركيا عبر منظومة حزب “العمال الكردستاني”.
درزياً، يمكن أيضاً الحديث عن عمق درزي يتجاوز الحدود السورية إلى لبنان وفلسطين، وكان دروز سوريا قد حصلوا على اعتراف معنوي مهم، بالتوافق الذي حدث على تسمية سلطان باشا الأطرش قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى، ما جعلهم ينظرون إلى أنفسهم (وقتها ولاحقاً) بوصفهم عنوان الوطن السوري. يُضاف إلى العامل الأخير أن الدروز نالوا الاعتراف بهم كطائفة، لجهة قوانين الأحوال الشخصية ذات الأهمية الكبرى للحفاظ على الطائفة قليلة العدد نسبياً.
لا يمكن، في المقابل من الامتدادات العابرة للحدود للجماعات السورية، الحديث عن عمق خارجي للعلويين، باستثناء جزء من سكان لواء إسكندرون الذي أُعطي لتركيا عام 1939. الوجود العلَوي في تركيا لا يشكّل عمقاً، لأسباب تتعلق بالاختلاف المذهبي بين الطرفين، وأيضاً بالاختلاف اللغوي، فضلاً عن الجرح العلَوي “السوري” من الدولة العثمانية، ما يجعل العلويين بعيدين كلياً عن كل ما يمتّ بصلة إلى “الحضن” التركي.
واحد من الدلالات العميقة التي تؤكد أن سوريا هي عمق العلويين، الواقعي والرمزي، أنهم “تاريخياً” الأقل هجرة واغتراباً. هذا لا يُردّ فقط إلى الوجود في السلطة بدءاً من الستينيات، لأنه يصحّ على المستفيدين منها، ولا يصحّ على الفقراء منهم الذين لم يهاجروا بدوافع اقتصادية أسوة بأمثالهم من بقية السوريين. واليوم واحد من رهانات الوطن السوري ألا يشعروا بأن عمقهم السوري مهدَّد، وأن يضطروا إلى توسّل عمق خارجي بديل. هذا لا يخص العلويين وحدهم، بل ينسحب على مختلف الجماعات السورية التي يؤمل أن تجد عمقها، وأن تتبدد هواجسها، في دولة المواطنة.
العبودية للأسد لم تكن ممكنة بالبطش وحده، لأن ولاء العبد يُحصَّل بالعنف عند اللزوم، وبما يبقيه على الحياة وعلى ولائه عندما لا يكون العنف ضرورياً.
العبودية للأسد
بعد سقوط الأسد بثلاثة أيام، أجرت قناة “بي بي سي” مقابلة مع حافظ منذر الأسد، حفيد جميل الأسد شقيق حافظ الأسد. حافظ الصغير يوصف بحسب “بي بي سي”، بأنه حاكم اللاذقية، وهو متهم بالعديد من التهم التي ينفيها، أقلّها شأناً ضلوعه في تجارة الكبتاغون. ينفي حافظ الصغير ما أمكن تورّطه في استخدام العنف ضد المعارضين، ومشاركته في تصنيع وتجارة الكبتاغون.
إلا أن ما يهمنا في هذا السياق هو استخدامه كلمة الدولة من أجل تبرير القليل مما يعترف به، وبرغم ما في الاستخدام من استغلال وتلطٍّ وراء الكلمة، لكن شيوعه يستحق الانتباه إلى ما تعنيه الدولة حقاً في مخيال الجماعة.
“لسنا مذنبين، لقد كنا تحت سقف دولة”، يقول حافظ الصغير. مضيفاً أنه جاهز للعدالة ومستعد للحوار إذا كانت هناك (دولة نظامية) مستشهداً بمثال رامي مخلوف، ليؤكد أن التحديات التي واجهتها العائلة كانت أكبر من تلك التي يواجهها “الغريب”! ثم يضيف أيضاً أن دوره العسكري مع النظام اقتصر فقط على توفير/ تجنيد الأشخاص وإرسالهم إلى الفروع الأمنية، مثل الأمن العسكري أو الفرقة الرابعة، مؤكداً أن هذه الأعمال كانت تتم تحت مظلة (الدولة) وبطلب منها.
ولا يجد أدنى تعارض مع هذا الدور وقوله: أنا مثلي مثل غيري، لم أدخل في السياسة أو الدين ولا علم لدي بالمعتقلين. وفيما يتعلق بالاتهامات الموجهة إليه باستخدام العنف ضد المتظاهرين، نفى حافظ ذلك تماماً، قائلاً: غير صحيح، كنت تاجراً وممولاً فقط تحت (سقف الدولة) ولم أكن في موقع عسكري أو أمني!.
كما يُلاحَظ من أقواله، يفصل حافظ أفعاله عن مسؤوليته الشخصية عنها، بما أنها بطلب من الدولة. والدولة، بحسب هذا السياق، هي بمثابة شبح كليّ السطوة، غير متعيّن بمستويات متدرجة من السلطة والمسؤولية عنها. هي الصنم الذي يُعبَد، ويُطاع بلا تدقيق في كنه هذا الصنم أو كنه العبودية له.
وربما يكون صادماً قولنا إن صاحب هذه الأقوال لا يتلطّى كاذباً فقط وراء (الدولة) بل يستند أيضاً إلى إرث رمزي جماعي تحضر فيه (الدولة العثمانية) كقاتلة على الهوية، وكمُقصية للجماعة جغرافياً وسياسياً واقتصادياً. استيلاء حافظ الأسد على السلطة لم يغيّر من صورتها، حتى لدى الذين امتلكوا حصة من السلطة، أو الذين صار لديهم وهْم امتلاكها.
ومن الشائع أن الأسد في بداية انقلابه غازل بقايا البرجوازية المدينية السنية، إلا أن شهر العسل بين الطرفين انتهى على أبعد تقدير عام 1976، مع دخول قواته إلى لبنان. الدخول إلى لبنان، بعد الشعبية التي نالها إثر حرب تشرين 1973، أتاح له الشروع في إرساء دولته، ومرة أخرى كان صنم الدولة مطلوباً، مثلما كان مطلوباً تصنيع عبيدها. ولا غرابة في أن التاريخ نفسه، عام 1976، شهد استهلال صعود رفعت الأسد مع ملمح طائفي لا يمكن إلا أن يكون متعمّداً، ومع استعراض مفرط للقوة من خلال قيادته ميليشيا “سرايا الدفاع”، ومن خلال كونه شقيقاً للرئيس.
يجوز القول إن الوحش الذي صنعه الأسد يلاقي صورة وحش الدولة في أسوأ تجلياتها، ضمن المخيال العلوي عن زمن التهجير العثماني وقتل الذكور وبقر بطون الحوامل؛ بصرف النظر عن دقة المعلومات وموثوقيتها تاريخياً. وهذا التلاقي لا يجعل من الوحش الأسدي انتقاماً من وحش الماضي، عن طريق الانتقام من أدواته المحلية طائفياً، فالأهم أنه يعزز فكرة (وحش الدولة) وأن الدولة كانت وستبقى على هذا المنوال. بعد تعزيز هذه الفكرة، سيكون من الأنسب بالتأكيد امتلاك الوحش بدل الوقوع ضحيته، أو أن يكون وهم امتلاكه لدى البعض بديلاً عن الخشية منه، بما أنه حال الدولة الذي لا يتغير.
لن يتأخر حافظ الأسد نفسه عن أن يكون تجسيداً صنمياً لوحش الدولة، والإشارة هنا تذهب إلى الواقع قبل المجاز. إذ مع إظهاره توحش دولته، بالاعتقالات والتعذيب أولاً، ثم بمجازر صغيرة تُوِّجت بمجزرة حماة، مع هذا التوحّش الفاجر راحت تماثيله تغزو كافة أنحاء سوريا، وصارت البلديات الصغيرة والكبيرة كافة، ملزمة بوضع صنمه على المداخل الرئيسية وفي الساحات الكبرى.
صنم حافظ الأسد المُستنسخ على طول البلاد وعرضها، هو تجسيد لكائن الدولة الخرافي، المتعالي على “رعاياها”، وهو يُعبَد لتماهيه مع هذه المنزلة. والعبودية للأسد لم تكن ممكنة بالبطش وحده، لأن ولاء العبد يُحصَّل بالعنف عند اللزوم، وبما يبقيه على الحياة وعلى ولائه عندما لا يكون العنف ضرورياً. على هذا الصعيد، كانت النماذج جاهزة أمام حافظ الأسد ليستلهم منها خلطته، بدءاً من النموذج السوفيتي الأم، مروراً بالنموذج الكوري الشمالي، وصولاً إلى تشاوشيسكو في رومانيا.
نحن لا نستطيع الحديث عن عبودية للأسد، ما لم تكن أيضاً عبودية للدولة التي أرساها، والتي ليست مخابرات وجيشاً فقط، أو حتى تنظيمات حزبية وأخرى رديفة لها على الصعيد غير العسكري المباشر. فالدولة الأسدية هي نمط استُهل مع انقلاب البعث، من خلال التوجه إلى النموذج الاشتراكي، فصدرت قرارات التأميم والإصلاح الزراعي، إلا أنه تفاقم في السبعينيات مع تضخم القطاع العام، سواء على الصعيد البيروقراطي المحض، أو على صعيد شركات القطاع العام الخدمية، أو في مضمار بعض الصناعات، ومنها شركات كانت قد أُمّمت.
ما حدث لا ينطبق عليه وصف “رأسمالية الدولة” الذي يُطلق على تجارب دول أخرى في القطاع العام، فالدولة الأسدية لم تنشئ صناعات يُعتد بها، والطابع المهيمن عليها هو قطاع عام مهلهل، يعتمد جيش موظفّيه على اقتصاد ريعي؛ جزء من الريع تكفّلت به المساعدات الخليجية التي لم تنقطع إلا لسنوات قليلة، وجزء آخر يعتمد على الثروات العامة. ولا أهمية إطلاقاً لتحصيل الضرائب، لأن النشاط الاقتصادي الخاص لم يكن المعترف به رسمياً.
وكانت الدولة الأسدية قد ورثت معاهد التأهيل المهني من الحقبة السابقة، إلا أنها صارت بلا وظيفة مع التراجع عن نمط الإنتاج الرأسمالي، وكذلك سيكون حال المدارس الثانوية- الليسيه المهنية التي أُنشئت أيام الأسد، إذ لم تقم بدور يُذكر لتأهيل الكوادر من أجل سوق العمل كما هو مفترض نظرياً. في الحصيلة، الحديث هو عن ملايين، عن النسبة الأكبر من السوريين الذين اشتغلوا عند “الدولة”، ولو بمواصفات عمل أشبه بالبطالة المقنَّعة، واشتغل معظمهم خارج المهارات العصرية المطلوبة في سوق العمل، وضمن دخل كان يتردّى باستمرار ليكون وصف وضعهم بالعبودية للدولة أقرب وصف.
من المؤكد أن نسبة ساحقة من الذين انضووا ضمن عبودية الدولة تعود أصول أفرادها إلى الأرياف، وهؤلاء اكتسبوا “مهارتهم” الوحيدة من التعليم الحكومي الذي كان يتردّى بدوره. ومن المعلوم أن أبناء المدن لا يكنّون احتراماً للوظيفة العامة، بقدر ما يهتمون بالحرف والصناعات التي لبعضها إرث قديم، ولهذا أهمية خاصة مع عدم وجود منهجية عامة للتعليم المهني على النحو، الذي تعتمد عليه مكاتب العمل في الدول الرأسمالية.
ما ينطبق على الأرياف السورية عموماً ينطبق على العلويين، مع التنويه بأن نسبة الريفيين بينهم هي الأكبر بالمقارنة مع الجماعات السورية الأخرى، وهذا الواقع معطوف على أن المدن كانت تاريخياً إلى حدّ كبير مركزاً للسلطة متماهياً معها دينياً. أي أن ما يصحّ في الكلام عن عبودية الدولة الأسدية على الجماعات السورية عموماً يصحّ بنسبة أكبر على العلويين، وهم “أكثر من غيرهم” متضررون من نمط الدولة الأسدية الاقتصادي، لأنه جعل العبودية بديلاً من مسارات أخرى هي الأفضل، ومنها “مثلاً لا حصراً”، مساهمة الدولة في تنمية المهارات ودعم الحرف والمشاريع الصغيرة وتمكينها… إلخ.
في تعبير عن وطأة ما حدث خلال عقود، سخر كثر على وسائل التواصل الاجتماعي من مطالبة “أو حتى سؤال” علويين عن رواتبهم بعد سقوط الأسد. وجه السخرية، الذي يبدو منطقياً جداً، هو أن الذين يطالبون بذلك كان البعض منهم موظّفاً في هياكل شاركت في قتل سوريين أثناء الثورة، والأولى بهم المطالبة بالعفو أو بالصفح. لكن هذا المنطق يواجهه منطق آخر، لا يقلّ تماسكاً من جهته، هو أحقية أولئك برواتبهم ما لم يكونوا موقوفين بجرم ما، وبالنسبة لكثر منهم قد يكون توقيفهم أرحم لأسرهم، إذا تكفّلت الدولة بتأمين الخبز لأولادهم، بدل تركهم طلقاء بلا رواتب.
وعلى رغم أن حافظ الأسد لاقى مبكراً معارضة بين العلويين، فإن اجتماع العبودية لدولته مع صورة وحش الدولة (أو صنمها) جعل فكرة معارضة (الدولة) غير واردة على نطاق واسع، كما هو الحال خاصة في أوساط مدينية “سنية غالباً” منفصلة عن العبودية المعيشية للدولة، ويتطلّع أثرياؤها إلى ترويض الوحش، لا الانصياع له. أي أن فكرة المعارضة كانت مستهجنة لدى شرائح واسعة تقبل الدولة الأسدية بكل توحّشها، بل تراه من (طبيعة الدولة) وتقبل بعبوديتها التي تراها أيضاً من طبائع الأمور.
في حادثة نعرفها عن كثب: راج بعد الثورة في بعض أوساط العلويين وضع لوائح بأسماء الخونة “المعارضين”، وكان ذلك بمثابة استباحة لهم، إذا قرر الشبيحة استهداف مَن يَرِد اسمه. ذلك دفع بواحد من “الخونة” إلى تهديد من وضعوا اسمه في اللائحة بمقاضاتهم، وكان أن ذهب إلى ممرضة مساهمة في التحريض، تعمل في مستشفى عام، ولما عرّفها بنفسه قالت بتعجّب شديد وحقيقي وكأنها ترى كائناً خرافياً من كوكب آخر: أنت المعارض ع.ح شخصياً! فما كان منه إزاء تعجّبها إلا أن قال لها: وما رأيك أن تأخذي صورة تذكارية معي؟
إقرأوا أيضاً:
العلويون والدولة السورية الجديدة
سقط الأسد، ولا يُعرف بعد المسار الذي ستسلكه سوريا والدولة السورية الوليدة بعد ما يزيد عن نصف قرن من دولة الأسد. المؤكد أن المسارات جميعها شائكة، ومفخّخة بانقسامات أهلية، وبالانقسامات التي حدثت على خلفية الثورة عام 2011. الأنظار متجهة أولاً إلى تعزيز السلم الأهلي بالمعنى المباشر للكلمة، لأن السيطرة على الانفلات “إذا حدث” قد لا تكون ممكنة بسهولة، ومن المرجّح أن تكون مكلفة على الصعيدين القريب والبعيد.
لكن، إذا لم يكن سيناريو الفوضى هو الذي سيسود، فسنكون إزاء دولة جديدة، مغايرة كلياً لما سبقها. وقد صار واضحاً منذ الأيام الأولى أن علاقة العلويين بالسلطة قد انفصمت قسراً، وأنها لن تعود إلى عهدها السابق، وثمة خشية من ألا يمرّ الانفصام على النحو السلمي الذي طبع الأيام الأولى. فهناك شبيحة الأسد المهدَّدون بالمحاكمة على جرائمهم، وقد لا تخلو الجهة المقابلة من متعطّشين للانتقام، ما يجعل المخاوف من موجة عنف، قائمة.
وفق السيناريو الأسوأ، السيناريو الانتقامي، ستحتل الدولة الجديدة مكانة وحش الدولة الذي أشرنا إليه سابقاً، وهذا بطبيعة الحال سيفخخ علاقة العلويين بسوريا كلها، مع بقائها وطن الضرورة الذي لا بديل منه، ولا عمق لهم خارجه. وحتى إذا لم ينطلق هذا الاحتمال من دورة عنف، فإن حدوثه عبر نهج من الإقصاء والتهميش الناعميْن لا يغيّر في الخلاصة، مع التأكيد أن النتائج لن تكون مماثلة لما كان عليه انكفاء العلويين في الجبال والأرياف القصية خلال مئات السنين عقب دخول العثمانيين إلى المنطقة.
أما إذا استبعدنا أن يطلّ وحش الدولة القديم برأس جديد، فإنه من الضروري التوقف ملياً عند آثار العبودية لدولة الأسد، وما ستفعله الدولة الجديدة على هذا الصعيد، وما تستطيع واقعياً فعله. فمن المؤكد أن الدولة السورية، بصرف النظر عمّن يحكمها، لن تعيد سيرة القطاع العام الذي يرمز إلى العبودية القديمة. هذا لم يعد واراداً، وكما نعلم فإن النماذج “الأفضل” لهذه التجربة قد انقضى زمنها عالمياً، حتى إذا لم نأخذ في الحسبان الميل الراهن إلى التملّص من الدور الاجتماعي للدولة بكافة أشكاله، وفي مختلف أنحاء العالم.
التحوّل عن القطاع العام لم يكن يسيراً في أي من التجارب المعروفة، برغم أن الحديث هو عن بلدان لم تكن على شاكلة سوريا اليوم، من حيث الدمار الذي يتطلب مئات مليارات الدولارات من أجل إعادة الإعمار. وعملية التحوّل هذه تصيب على نحو خاص العلويين، إذا أخذنا في الحسبان ما آلت إليه الأوضاع في عموم المناطق السورية بعد الثورة والحرب. ففي مناطق إدلب التي تحكمها “هيئة تحرير الشام” لا وجود للقطاع العام بالمعنى السابق، وكذلك هو الحال في مناطق الشمال الخاضعة للنفوذ التركي، وفي مناطق الإدارة الذاتية الكردية، برغم أن الأخيرة بقيت أقرب إلى الوظائف العامة لاعتمادها على ريع النفط.
في المناطق التي كان يسيطر عليها الأسد قبل سقوطه، نستطيع التكهن بأن نسبة موظفي القطاع العام لدى الحلبية والشوام أدنى مما هي عليه لدى العلويين، للأسباب التي ذكرناها عن شيوع الحرَف والمهن المستقلة، وربما شهدت المدينتان من قبل مشاكل تتعلق بالبطالة لدى عمال القطاع الخاص، بسبب هروب الرأسمال الصناعي الكبير منهما. أي أن نسبة كبيرة من أيتام الدولة، بموجب التحول الاقتصادي، ستكون من العلويين، وهو ما قد يضيف بعداً طائفياً “غير مقصود أصلاً” إلى عملية التحول.
نضيف إلى آثار عملية التحوّل عن القطاع العام نتيجةً من نتائج استعادة النشاط الاقتصادي، وبوتيرة أعلى من المعتاد، من خلال إعادة الإعمار. إذ من الحتمي في هذه الحالة أن تشهد البلاد ارتفاعاً كبيراً في معدل النمو، والأثر النموذجي سيكون بمزيد من التضخم الذي ستذهب ضحيته الفئات الأفقر والأضعف. هذا بلا شك سيكون ثقيل الوطأة جداً على أيتام الدولة، لأن الأخيرة ستكون مطالَبة بالقيام بدور اجتماعي إزاءهم، على غرار ما يحدث أيضاً في الرأسماليات “الشرسة” أيام الأزمات، وليس بالضرورة على غرار ما كان يحدث في رأسماليات تؤدي فيها الدولة دوراً اجتماعياً أساسياً في كافة الأوقات.
الحديث هو عن استحقاق باهظ جداً، لا يتعلق بالعلويين وحدهم، لكنهم معنيون به بنسبة أكبر من الجماعات الأخرى. السيناريو النموذجي في هذه الحالة أن تعمل الدولة على مسارين، تعيد في الأول تأهيل الموظّفين لسوق العمل، بشقيه الخاص والعام، وتمنح تقاعداً كافياً لأولئك الفائضين عن حاجتها، أو المسرَّحين “تعسفياً” لأي سبب كان، والذين لا تسمح أعمارهم بإعادة تأهيلهم لسوق العمل. ومع أخذ الوضع الاقتصادي المنهار في الاعتبار، على السلطة السورية وضع هذه المشكلة أمام المانحين، لأنها أكبر من قدراتها، وهي بحاجة إلى دعم مادي وخبرات دولية من دول لديها تجارب جيدة في تأهيل العمالة للسوق.
إذا أُريد لهذا الانتقال أن يمرّ بالحد الأدنى من القسوة والآثار المكلفة للبلد ككل، لا بدّ من رعاية اجتماعية تقدّمها الدولة لأبنائها في مرحلة “الفطام” هذه. وإذا حدث الانتقال بيسر، يكون قد حدث تحرير العلويين من الدولة على نحو جيد أيضاً، لا “تحريرها” منهم، كما يصوّر بعض أصحاب الثأر الطائفي. ونعود للتذكير بأن هذا يخصّهم من بين ملايين آخرين من المتضررين بالنقلة الجديدة التي ستحدث، والتي ستعني في جانب حميد منها تحرير ملايين السوريين من التبعية الاقتصادية للسلطة، وتحريرهم تالياً من العبودية لها. وهي نقلة سيكون لها أثر سياسي مهم جداً، ولو على المدى البعيد نسبياً، لأن الاستقلال عن التبعية المباشرة سيجعل أصحابه أكثر حرية في النظر إلى الدولة، أي أنهم سيصبحون فاعلين سياسيين، ومشاركين في ترويض وحش الدولة الذي لن ينقرض فوراً، أو نهائياً.
نشير أخيراً إلى أننا استخدمنا تعبير “الجماعة”، وهو استخدام تقني اقتضته الضرورة، ولا يذهب إلى احتساب أية جماعة سورية بوصفها تكتلاً منسجماً. تحاشينا استخدام كلمة طائفة، إلا في الإشارة إلى جماعات سورية تقدّم نفسها كطوائف، ولو انطلاقاً فقط من تميّزها بقوانين خاصة للأحوال الشخصية.
إقرأوا أيضاً: