في حلقة “صار الوقت” التي عُرضت مساء الخميس 3 نيسان/أبريل 2025 على شاشة MTV، افتتح مقدم ومعدّ البرنامج، مارسيل غانم، حلقته بتقرير مطوّل عن زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية برفقة مالك المحطة، في إطار حملة لجمع التبرعات لصالح مؤسسة رعائية تابعة مباشرة لطائفة مسيحية.
ظهر غانم إلى جانب أحد رجال الدين، الذي غالى في المجاملة إلى درجة إلباسه قلنسوته. وحرص غانم على تأكيد اهتمام الـMTV ومالكها بالحملة، في سياق الترويج لإنسانية المحطة وصاحبها.
ليست هذه المرة الأولى التي يدعم فيها البرنامج أو المحطة حملات تبرع لمؤسسات أو أفراد، لكنها ربما المرة الأولى التي يفتتح فيها غانم حلقته بتقرير بهذا الطابع التمجيدي لشخصه. وكان من الممكن أن يمر هذا المشهد مرور الكرام كأي انزلاق إعلامي في فخ النرجسية، لولا أن التقرير نفسه وُظّف لاحقًا في سياق الحلقة، في حملة سياسية موجّهة ضد جمعية “كلنا إرادة” ومنصات إعلامية مستقلة مثل “المفكرة القانونية”، و”ميغافون”، و”درج”.
في هذه الحملة، استدعى غانم مقدم برنامج “للوطن”، جو معلوف، الذي عرض تقريراً تخوينياً يهاجم فيه هذه المنصات، محاولاً التشكيك في مصادر تمويلها وأجنداتها. وعلى رغم أن الأسئلة حول تمويل المؤسسات الإعلامية تبقى مشروعة، بما فيها تلفزيون المر والجمعية التي يرأسها معلوف نفسه، إلا أن ما يهمني هنا هو التوظيف السياسي للعمل الخيري والديني من أجل شيطنة منصات علمانية ومجتمع مدني مستقل.
اتهم معلوف هذه المؤسسات بأنها تابعة لـ”التطرف اليساري”، ولاقاه غانم بتلميحات حول أن المموّل المفترض لتلك الهيئات يعمل على تقويض حملة التبرعات التي يقودها غانم. هكذا، تحوّل التقرير الافتتاحي من مشهد مفعم بالقداسة إلى مدخل لهجوم ممنهج على المنصات المدنية، عبر ثنائية “فاعل الخير” مقابل “اليساري المخرّب”.
هذا الاستخدام المدروس لمشهد العطاء، يستهدف تقليب الرأي العام، الذي غالباً ما يتعاطف تلقائياً مع فاعل الخير، بخاصة حين تكون الجهة المستفيدة مؤسسة دينية.
وهنا، تبرز الحاجة لتفكيك خطاب العمل الخيري بحد ذاته، باعتباره من أبرز أدوات الهيمنة في لبنان. لطالما استُخدم هذا الخطاب في ترسيخ الخصخصة الدينية والطائفية للخدمات العامة، وتحويل الحقوق الأساسية إلى امتيازات تمنحها مؤسسات محسوبة على الطوائف أو الطبقة السياسية. بهذا، تُرسَّخ التبعية بوصفها وسيلة وحيدة للوصول إلى أبسط الحقوق، مثل التعليم والصحة.
إقرأوا أيضاً:
العمل الخيري كأداة للهيمنة والاستلاب
في الدول التي تفتقر إلى أنظمة رعاية عادلة، تصبح الجمعيات الخيرية، وخصوصاً المرتبطة بمرجعيات دينية أو طائفية، المصدر الرئيسي للخدمات. وعلى رغم أهمية هذا الدور، إلا أن الإشكالية تكمن في التحوّل من تقديم الخدمة إلى إنتاج علاقة تبعية. فالمتلقي لا يعود مواطناً له حقوق، بل تابعاً ممتناً لجهة مانحة تمارس دور الوسيط بين الدولة والفرد.
تتخذ هذه الهيمنة أشكالاً متعددة، منها فرض سلوكيات “أخلاقية”، وربط المساعدة بالولاء، واستخدام الخطاب الديني كأداة ضبط. وفي كثير من الأحيان، تُستخدم هذه الحملات لتلميع صورة سلطات دينية أو ميليشيات سياسية، تشتري الولاء بالمساعدات الغذائية أو المالية.
العمل الخيري كسلاح ضد الخصوم
لا يتوقف الأمر عند كسب التعاطف، بل يتحول العمل الخيري إلى أداة لتصفية الحسابات. يُظهر طرفٌ ما نفسه بصورة “الفاعل الإنساني”، ليُدين الآخر المتقاعس أو “الخائن”. وتُربط صورة العطاء بصورة السياسي أو المرجعية، لتصبح العلاقة بين المتبرع والمستفيد علاقة ولاء، لا علاقة مواطنة.
وخير مثال على هذا، الإفطارات الرمضانية الرسمية، التي استُخدمت كأداة علاقات عامة. ففي أحد الإفطارات، استُضيف أطفال من مؤسسات رعائية على مائدة رئيس الحكومة تحت عنوان “إفطار الأيتام”. لكن هؤلاء الأطفال لم يكونوا يتامى، بل مفصولين عن عائلاتهم بسبب الفقر، لا بسبب فقدان الأبوين. فهل تساءلت الحكومة عن جدوى هذا الإفطار؟ وماذا عن الأطفال الذين لم يُدعوا؟ ألم يكن من الأجدى استثمار الكلفة في دعم إعادة دمجهم في أسرهم؟
بيداغوجيا المقهورين: بين الطاعة والوعي
يُحلّل المفكر البرازيلي باولو فريري في “بيداغوجيا المقهورين” العلاقة بين السلطة والمقهور، ويرى أن القهر لا يقتصر على الحرمان المادي، بل يشمل الهيمنة على الوعي. إذ يُقنع المقهور بأن خلاصه يكمن في الخضوع لا في النضال.
في هذا السياق، يتحول العمل الخيري المشروط إلى وسيلة لإنتاج التواطؤ. يشعر الفرد بالامتنان بدلاً من الغضب، ويقبل وضعه القائم بدلاً من تغييره. وهكذا، يُكرّس غياب العدالة باسم “الخير”.
العمل الخيري والعدالة: فرق جوهري
الخلط بين العمل الخيري والعدالة الاجتماعية خطرٌ داهم. فالصحة والتعليم والسكن ليست هبات، بل حقوق يجب أن تضمنها الدولة لكل مواطن، من دون وساطة المرجعيات. حين تتنازل الدولة عن هذا الدور، تفتح الباب أمام أنظمة بديلة تكرّس اللامساواة وتُضعف مؤسسات الدولة.
الدولة ليست أباً يمنح أو يمنع، بل هي مسؤولٌ أمام مواطنيه. وأي عمل خيري لا يجب أن يحل مكان السياسات الاجتماعية، بل أن يكمّلها بشكل مؤقت وظرفي.
في الهجوم الأخير على “كلنا إرادة” و”المفكرة القانونية” و”ميغافون” و”درج”، تتجلى خطورة تحويل العمل الخيري إلى سلاح شعبوي، يُشيطن المدني ويُلمّع المتسلّط. وفي ظل غياب العدالة، يتحوّل التواطؤ إلى سلوك جماعي نُهلل له باسم “الإصلاح”، ونحن جزءٌ من صناعته.
إقرأوا أيضاً: