fbpx

العنصرية “الآمنة” في المسلسلات السورية- اللبنانيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يُكتفى في “النار بالنار” بالإشارة إلى العنصرية ضمن الخطوط الهامشية والأحاديث الجانبية، بل يتم إعادة تمثيل مشاهد تعتبر تابو في الدراما، أبرزها مشهد تعليق لافتة عنصرية لمنع تجول السوريين ليلاً؛ لافتة شبيهة بتلك التي مرت بمسلسل “طريق”!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي موجة من التعليقات الغاضبة في رمضان عام 2018،  في تعبير عن استياء الجمهور من لافتة عنصرية ظهرت في خلفية مشهد من المسلسل السوري- اللبناني المشترك “طريق”؛ فوراء الممثلة زينة مكي التي تركض في الشارع ظهر -بشكل غير مقصود- جزء من لافتة كُتب عليها: “ممنوع تجول الأجانب… حتى الساعة السادسة صباحاً”.

 الجميع كان يدرك أن اللافتة تستهدف السوريين، ووجد الجمهور أن الأمر ينطوي على مفارقة لكون المسلسل الذي أنتجته شركة “الصباح”، أخرجته السورية رشا شربتجي، وشارك فيه ممثلون سوريون بما فيهم البطل، عابد فهد.

يظهر السوريون في “طريق” بشكل مغاير للواقع المتداول، أو أغلبية الموجودين في لبنان، (علماً أن المسلسل مقتبس من القصة القصيرة “الشريدة” لنجيب محفوظ)، إذ نراهم ينتمون لطبقة الأغنياء وأصحاب النفوذ، التي كانت تنتمي إليها أغلب الشخصيات السورية في المسلسلات المشتركة تلك الفترة، حينها كانت هذه الدراما تقتبس معظم حكاياتها من أفلام ومسلسلات أجنبية لتهرب من الواقع ومواضيعه الشائكة، التي كانت العنصرية أبرزها من دون أدنى شك.

كانت الدراما المشتركة الملاذ الآمن الذي تم تأسيسه لاحتضان فئة من الفنانين السوريين بعد عام 2011، ففيها احتموا من حروب المواقف السياسية الطاحنة التي عرقلت ماكينة الإنتاج الدرامي المحلية، وإليها هربوا من المسلسلات المسيسة التي كانت تُنتج للترويج لبروباغندا النظام السوري.

كان من الطبيعي في المرحلة الأولى أن تكون هوية هذه الدراما مشوشة، الموجة الأولى من مسلسلات الـ”بان آراب” اتسمت بتوزيع الأدوار بطريقة عشوائية، إذ تعددت اللهجات ضمن العائلة الواحدة دون إيجاد مبررات، وتتسبب اللغة بكسر كل قواعد المنطق في مسلسلات تلك الفترة، كما هو الحال في مسلسل “الأخوة”.

الانتقادات التي لاحقت الموجة الأولى من المسلسلات المشتركة، كان لها الدور الأبرز بتحديد ملامح الموجة الثانية، التي بدأ فيها صنّاع الدراما يبحثون عن تبريرات لجمع السوريين واللبنانيين في تركيبة درامية أكثر تماسكاً، شريطة أن تبقى بعيدة عن الواقع وقضاياه الشائكة. في هذه المسلسلات من الممكن أن يجتمع الممثل السوري والممثل اللبناني بعائلة واحدة، لكن يجب أن يتم تبرير الأمر بالتنويه إلى ماضي تشكل العائلة والإشارة إلى علاقات الزواج التي تجمع بين شعبي البلدين، وقد تم تطوير المبررات وصياغة سياقات أكثر منطقية تدريجياً حتى وصلنا إلى مسلسل “الهيبة” عام 2017، الذي وجد أفضل مناخ درامي ممكن، في ضيعة على الحدود السورية- اللبنانية. 

في مسلسل “الهيبة”، إنتاج شركة “الصباح” أيضاً، تم تقديم شخصية “لاجئ سوري” في الدراما المشتركة، بدور ثانوي أدته الممثلة السورية يارا قاسم؛ قبل “الهيبة” لم تحضر شخصيات اللاجئين السوريين على الشاشة سوى بأعمال سورية خالصة، بعضها جرت أحداثه في لبنان، مثل “غداً نلتقي” (2015)، الذي غابت عنه الشخصيات اللبنانية، وبدت العنصرية فيه كجو عام ضبابي بالكاد يمكن تلمسه.  

لا بد من الإشارة إلى أن هامش الحرية ليس متوازناً بين الجانبين السوري واللبناني في الدراما المشتركة؛ فالجانب اللبناني دائماً يبدو أكثر جرأة وعتبة النقد عنده أعلى

عام 2020، وبعد وصول لبنان إلى حافة الانهيار، طرأت تحولات جذرية على الدراما المشتركة، فباتت أكثر ميلاً للواقع الذي تهربّت منه لسنوات؛ إذ صار الشعبان يعيشان وحدة حال، وتم تصوير حكايات تدور أحداثها في الأحياء الشعبية الفقيرة والمخيمات في لبنان، بعدما كانت الدراما المشتركة حبيسة القصور والمناطق السياحية. وفي الأحياء الفقيرة تم تصوير السوريين واللبنانيين كشركاء في المأساة، يتقاسمون كأس مرارة الواقع والمعاناة، من دون الإشارة إلى الأفكار والعوامل التي تؤدي إلى التفرقة بين الشعبين، فبقيت العنصرية الخط الأحمر الذي يُحرّم على الدراما تجاوزه. 

اختلف الأمر هذا الموسم الرمضانيّ، الذي انفجرت فيه فقاعة العنصرية ولطخت معظم المسلسلات السورية – اللبنانية؛ فتضمن مسلسل “أقل من عادي” حوارات صريحة عن العنصرية، وارتكبت الكثير من الأفعال العنيفة في مسلسل “وأخيراً” بدافع العنصرية فقط.

 المسلسل الذي بدا سباقاً في هذا السياق، هو “النار بالنار” للكاتب رامي كوسا والمخرج محمد عبد العزيز، الذي تتمحور حكاياته المشتتة حول العنصرية، والذي قيل إنه مستوحى من مسرحية “تاجر البندقية” لوليم شكسبير! كما أحاطت بمؤلفه موجة من الجدل و”المناصرة”، بعد إعلانه “تلاعب” المخرج بالنص وتعديله، ما دفعه إلى نشر حوارات من المسلسل على صفحته الرسميّة على فايسبوك، و”تبرؤه” من مشاهد وحكايات لم “يؤلفها”. 

 لا يُكتفى في “النار بالنار” بالإشارة إلى العنصرية ضمن الخطوط الهامشية والأحاديث الجانبية، بل يتم إعادة تمثيل مشاهد تعتبر تابو في الدراما، أبرزها مشهد تعليق لافتة عنصرية لمنع تجول السوريين ليلاً؛ لافتة شبيهة بتلك التي مرت بمسلسل “طريق”!.  المفارقة، أن بطل المسلسلين واحد؛ الممثل السوري عابد فهد، كما أن الممثلة زينة مكي التي اقترنت صورتها باللافتة العنصرية بمسلسل “طريق” تشارك في مسلسل “النار بالنار”، بشخصية عنصرية أيضاً، الأغرب من ذلك كله أن المسلسلين من إنتاج الشركة ذاتها، “الصباح”.

 ما الذي قلب الموازين بهذا الشكل الحاد؟ هل هو تطور عفوي للإنتاج الفني بعلاقته مع الواقع؟ أم أن تسليط الضوء على العنصرية  في الدراما بات يناسب المرحلة ؟. يمكن القول أن شركة الصباح تراهن على ما لايثير الجدل الجاد، بصورة أخرى، موجة العنصرية ضد اللاجئين التي تكتسح الساحة اللبنانية الآن، لم يعد من الممكن تجاهلها، بالتالي لا بد من “ظهورها” على شاشات الترفيه. وهنا يأتي دور شركة “الصباح”، التي تبحث عن “الربح” في ظل الواقع المأزوم، من دون الخوض به.  بصورة أخرى،  “النار بالنار” يتحرك  في المساحة الآمنة، نعم هناك استعراض للـ”عنصرية في المسلسل، لكنها بعيدة عن التوظيف السياسي للاجئين الذي نشهده حالياً، هي عنصرية أقرب لحكايات شعبيّة عن الكراهية المتبادلة بين سوري- لبناني، تلك التي أصبحت أشبه بنكتة، فالخراب وقضية اللاجئين أشد سطوة واختلافاً عما حصل أثناء الحرب الأهلية في لبنان.

تدور أحداث “النار بالنار” ضمن حي شعبي في لبنان لجأ إليه بعض السوريين. وفي هذا الحي نرى انعكاسات العلاقة التاريخية بين الشعبين السوري واللبناني، ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وتاريخياً. جرأة المسلسل بطرح القضية والطريقة التي رُسمت بها الشخصيات هي التي جعلت المسلسل يحظى باهتمام الجمهور، الذي تبدو فيه الحكاية مشتتة، تستند إلى خط رئيسي قائم على مثلث علاقات من الحب الذي يربط بين اللاجئة السورية “مريم” (كاريس بشار) التي سُرقت أوراقها باللحظة التي وطأت أقدامها الحي، مع الرجل اللبناني العنصري “عزيز” (جورج خباز) الناقم على السوريين، بسبب اختطاف أبيه من قبل حاجز لـ”قوات الردع” في أيام الحرب الأهلية اللبنانية، والضلع الثالث الذي يُكمل المثلث هو المُرابي “عمران” (عابد فهد)، ثنائي الجنسية، الذي يتحكم بالحي اقتصادياً. 

تبدو العلاقات بين الثلاثي جذابة ومثيرة للاهتمام في الحلقات الأولى، لكنها تفقد بريقها مع تدفق الحلقات، ولا سيما عندما صارت شخصية “عمران” تمثل الشر المطلق. هذا التحول فضح خبايا الحكاية، وجعل النهاية مقروءة، فالكفة سترجح بالنهاية إلى نجاح العلاقة بين مريم وعزيز، لرسم نهاية طوباوية مشرقة للعلاقة بين الرجل اللبناني العنصري واللاجئة السورية (بالطبع هذا تخمين كون المسلسل لم ينته بعد).

السؤال هنا، هل أصبحت العنصرية ضد اللاجئين قضية “رائجة” في المسلسلات، أي لم تعد تابو يتم تجاهله أو تفاديه؟ لا يمكن إنكار “جرأة”  مسلسل “النار بالنار” في الحديث عن العنصرية بكل وضوح، لكن أي عنصريّة بدقة؟ المشهد الذي أثار الجدل، يشير إلى دور الجيش السوري في الحرب الأهلية اللبنانيّة، وكيف أن السوريون وإن خرجوا جيشاً، عادوا بعد 2011.  لكن كيف عادوا؟ مهجّرين، هاربين، لاجئين. 

وهنا مرة أخرى، يمكن أن نعيد النظر بمفهوم “رواج العنصريّة” ضد اللاجئين في المسلسلات، هي عنصرية “آمنة”، لا علاقة لها بالشأن اللبنانيّ الحاليّ، أي السوريون لم يفجّرو المرفأ، ولم يسرقوا الودائع، ولم يعطلوا انتخابات البلديّة، ولم يكونوا سبب تعليق قضية ضحايا الانفجار، ولم يسرقوا المساعدات الأممية.

ظهور العنصريّة بالشكل السابق خيار غير إشكالي، يحرك العواطف، لكنه لا يتناول “الآن وهنا”، ولا نطالب المسلسل بذلك، وهنا يظهر الخيار الإنتاجيّ ربما، الحديث عن الآن بما يلائم الوضع القائم في ذات الوقت لا يثير مشكلات معه. وهنا نعيد السؤال، لم الآن بالذات، لم عام 2023، ربما الأمر محض مصادفة! لكن لا يمكن إنكار أن الحديث عن العنصرية جاء متأخراً، إذ يُعرض المسلسل بعد  تتالي الأخبار عن “برنامج العودة الطوعيّة” الذي بدأت السلطات في لبنان تنفيذه العام الماضي. الاستراتيجيّة المشبوهة التي يمكن القول إنها “قسريّة” لا “طوعيّة”. 

قضية اللاجئين في لبنان لطالما مثّلت الورقة التي تستخدم دوماً لتفسير” كلّ” ما يحصل في البلاد من مشكلات، الفساد، حجز الودائع، الحزب، الاستعصاء الرئاسي، هذه المشكلات تبدو هامشية في بعض حبكات المسلسلات المشتركة، أما “اللاجئون” ففي الواجهة، لكن الاختلاف، أنهم في المسلسل عاطفيون، خسارتهم نتيجة “أزمة” سابقة، لكن في الواقع، القضية راهنة وحاليّة، الأسد يفاوض الدول ليعود إلى الحضن العربي ناسياً شأن اللاجئين، لا يعني هذا غياباً كاملاً لما يحصل في لبنان، لكن عند الإشارة إلى قضية البنوك، تظهر شخصية السوري، بوصفه من يقتحم البنك للحصول على “وديعته”، كما فعلت شخصيّة “ياقوت” التي يؤديها الممثل قصي خولي في مسلسل “وأخيراً”، الذي أيضاً، من إنتاج شركة “الصباح”.

يجب التنبيه إلى أن هامش الحرية الذي اتسع في الدراما المشتركة لا يزال يقف عند خطوط حمراء، فلم تتم الإشارة بمسلسل “النار بالنار” إلى  جرائم النظام السوري الراهنة، التي أدت إلى تهجير السوريين، وتم الاكتفاء بإلقاء التهم على الجيش السوري في ملف اللبنانيين المغيبين قسراً؛ تهمة لا تصل إلى حد الإدانة، فهي جملة تتداولها الشخصيات العنصرية المتحاملة على السوريين أصلاً.  الأمر ذاته مع سبب الأزمة الحقيقية في لبنان، فهل شخص يحمل الجنسيتين السورية واللبنانية ويتحكم بـ”كهرباء” حارة بأكملها هو سبب الأزمة ؟، بصورة أخرى، المشكلة ليست أخلاق الشخصية التي يؤديها عابد فهد، لكن، لا وقت الآن للمشكلات، لا بد من الربح، الشركة المنتجة تريد صناعة تريند، وبيع المسلسل.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن هامش الحرية ليس متوازناً بين الجانبين السوري واللبناني في الدراما المشتركة؛ فالجانب اللبناني دائماً يبدو أكثر جرأة وعتبة النقد عنده أعلى، فتمر عبارات في المسلسل تشير إلى أن من يحكم لبنان اليوم هم أمراء الحرب، وتشير المعطيات إلى تورطهم بملفات المغيبين، لكن في الجانب السوري تضيق الهوامش، فالنظام القائم في سوريا اليوم مغيب تماماً عن الحوارات السياسية الجريئة، وهي حاجة لا بد من تلبيتها في البحث عن دراما حقيقية. 

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 11.10.2024

ضغط عسكري على الشمال ومجازر في جنوبه… عدوان “إسرائيل” في غزة لا يتوقّف

يمارس الجيش الإسرائيلي ضغطاً عسكرياً على سكان المخيم بهدف دفعهم إلى النزوح لجنوب القطاع، تنفيذاً لما يُعرف بخطة "الجنرالات" التي وضعها اللواء الإسرائيلي المتقاعد غيورا إيلاند، والهادفة إلى إجلاء المدنيين بعد حصار محكم.

لا يُكتفى في “النار بالنار” بالإشارة إلى العنصرية ضمن الخطوط الهامشية والأحاديث الجانبية، بل يتم إعادة تمثيل مشاهد تعتبر تابو في الدراما، أبرزها مشهد تعليق لافتة عنصرية لمنع تجول السوريين ليلاً؛ لافتة شبيهة بتلك التي مرت بمسلسل “طريق”!

اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي موجة من التعليقات الغاضبة في رمضان عام 2018،  في تعبير عن استياء الجمهور من لافتة عنصرية ظهرت في خلفية مشهد من المسلسل السوري- اللبناني المشترك “طريق”؛ فوراء الممثلة زينة مكي التي تركض في الشارع ظهر -بشكل غير مقصود- جزء من لافتة كُتب عليها: “ممنوع تجول الأجانب… حتى الساعة السادسة صباحاً”.

 الجميع كان يدرك أن اللافتة تستهدف السوريين، ووجد الجمهور أن الأمر ينطوي على مفارقة لكون المسلسل الذي أنتجته شركة “الصباح”، أخرجته السورية رشا شربتجي، وشارك فيه ممثلون سوريون بما فيهم البطل، عابد فهد.

يظهر السوريون في “طريق” بشكل مغاير للواقع المتداول، أو أغلبية الموجودين في لبنان، (علماً أن المسلسل مقتبس من القصة القصيرة “الشريدة” لنجيب محفوظ)، إذ نراهم ينتمون لطبقة الأغنياء وأصحاب النفوذ، التي كانت تنتمي إليها أغلب الشخصيات السورية في المسلسلات المشتركة تلك الفترة، حينها كانت هذه الدراما تقتبس معظم حكاياتها من أفلام ومسلسلات أجنبية لتهرب من الواقع ومواضيعه الشائكة، التي كانت العنصرية أبرزها من دون أدنى شك.

كانت الدراما المشتركة الملاذ الآمن الذي تم تأسيسه لاحتضان فئة من الفنانين السوريين بعد عام 2011، ففيها احتموا من حروب المواقف السياسية الطاحنة التي عرقلت ماكينة الإنتاج الدرامي المحلية، وإليها هربوا من المسلسلات المسيسة التي كانت تُنتج للترويج لبروباغندا النظام السوري.

كان من الطبيعي في المرحلة الأولى أن تكون هوية هذه الدراما مشوشة، الموجة الأولى من مسلسلات الـ”بان آراب” اتسمت بتوزيع الأدوار بطريقة عشوائية، إذ تعددت اللهجات ضمن العائلة الواحدة دون إيجاد مبررات، وتتسبب اللغة بكسر كل قواعد المنطق في مسلسلات تلك الفترة، كما هو الحال في مسلسل “الأخوة”.

الانتقادات التي لاحقت الموجة الأولى من المسلسلات المشتركة، كان لها الدور الأبرز بتحديد ملامح الموجة الثانية، التي بدأ فيها صنّاع الدراما يبحثون عن تبريرات لجمع السوريين واللبنانيين في تركيبة درامية أكثر تماسكاً، شريطة أن تبقى بعيدة عن الواقع وقضاياه الشائكة. في هذه المسلسلات من الممكن أن يجتمع الممثل السوري والممثل اللبناني بعائلة واحدة، لكن يجب أن يتم تبرير الأمر بالتنويه إلى ماضي تشكل العائلة والإشارة إلى علاقات الزواج التي تجمع بين شعبي البلدين، وقد تم تطوير المبررات وصياغة سياقات أكثر منطقية تدريجياً حتى وصلنا إلى مسلسل “الهيبة” عام 2017، الذي وجد أفضل مناخ درامي ممكن، في ضيعة على الحدود السورية- اللبنانية. 

في مسلسل “الهيبة”، إنتاج شركة “الصباح” أيضاً، تم تقديم شخصية “لاجئ سوري” في الدراما المشتركة، بدور ثانوي أدته الممثلة السورية يارا قاسم؛ قبل “الهيبة” لم تحضر شخصيات اللاجئين السوريين على الشاشة سوى بأعمال سورية خالصة، بعضها جرت أحداثه في لبنان، مثل “غداً نلتقي” (2015)، الذي غابت عنه الشخصيات اللبنانية، وبدت العنصرية فيه كجو عام ضبابي بالكاد يمكن تلمسه.  

لا بد من الإشارة إلى أن هامش الحرية ليس متوازناً بين الجانبين السوري واللبناني في الدراما المشتركة؛ فالجانب اللبناني دائماً يبدو أكثر جرأة وعتبة النقد عنده أعلى

عام 2020، وبعد وصول لبنان إلى حافة الانهيار، طرأت تحولات جذرية على الدراما المشتركة، فباتت أكثر ميلاً للواقع الذي تهربّت منه لسنوات؛ إذ صار الشعبان يعيشان وحدة حال، وتم تصوير حكايات تدور أحداثها في الأحياء الشعبية الفقيرة والمخيمات في لبنان، بعدما كانت الدراما المشتركة حبيسة القصور والمناطق السياحية. وفي الأحياء الفقيرة تم تصوير السوريين واللبنانيين كشركاء في المأساة، يتقاسمون كأس مرارة الواقع والمعاناة، من دون الإشارة إلى الأفكار والعوامل التي تؤدي إلى التفرقة بين الشعبين، فبقيت العنصرية الخط الأحمر الذي يُحرّم على الدراما تجاوزه. 

اختلف الأمر هذا الموسم الرمضانيّ، الذي انفجرت فيه فقاعة العنصرية ولطخت معظم المسلسلات السورية – اللبنانية؛ فتضمن مسلسل “أقل من عادي” حوارات صريحة عن العنصرية، وارتكبت الكثير من الأفعال العنيفة في مسلسل “وأخيراً” بدافع العنصرية فقط.

 المسلسل الذي بدا سباقاً في هذا السياق، هو “النار بالنار” للكاتب رامي كوسا والمخرج محمد عبد العزيز، الذي تتمحور حكاياته المشتتة حول العنصرية، والذي قيل إنه مستوحى من مسرحية “تاجر البندقية” لوليم شكسبير! كما أحاطت بمؤلفه موجة من الجدل و”المناصرة”، بعد إعلانه “تلاعب” المخرج بالنص وتعديله، ما دفعه إلى نشر حوارات من المسلسل على صفحته الرسميّة على فايسبوك، و”تبرؤه” من مشاهد وحكايات لم “يؤلفها”. 

 لا يُكتفى في “النار بالنار” بالإشارة إلى العنصرية ضمن الخطوط الهامشية والأحاديث الجانبية، بل يتم إعادة تمثيل مشاهد تعتبر تابو في الدراما، أبرزها مشهد تعليق لافتة عنصرية لمنع تجول السوريين ليلاً؛ لافتة شبيهة بتلك التي مرت بمسلسل “طريق”!.  المفارقة، أن بطل المسلسلين واحد؛ الممثل السوري عابد فهد، كما أن الممثلة زينة مكي التي اقترنت صورتها باللافتة العنصرية بمسلسل “طريق” تشارك في مسلسل “النار بالنار”، بشخصية عنصرية أيضاً، الأغرب من ذلك كله أن المسلسلين من إنتاج الشركة ذاتها، “الصباح”.

 ما الذي قلب الموازين بهذا الشكل الحاد؟ هل هو تطور عفوي للإنتاج الفني بعلاقته مع الواقع؟ أم أن تسليط الضوء على العنصرية  في الدراما بات يناسب المرحلة ؟. يمكن القول أن شركة الصباح تراهن على ما لايثير الجدل الجاد، بصورة أخرى، موجة العنصرية ضد اللاجئين التي تكتسح الساحة اللبنانية الآن، لم يعد من الممكن تجاهلها، بالتالي لا بد من “ظهورها” على شاشات الترفيه. وهنا يأتي دور شركة “الصباح”، التي تبحث عن “الربح” في ظل الواقع المأزوم، من دون الخوض به.  بصورة أخرى،  “النار بالنار” يتحرك  في المساحة الآمنة، نعم هناك استعراض للـ”عنصرية في المسلسل، لكنها بعيدة عن التوظيف السياسي للاجئين الذي نشهده حالياً، هي عنصرية أقرب لحكايات شعبيّة عن الكراهية المتبادلة بين سوري- لبناني، تلك التي أصبحت أشبه بنكتة، فالخراب وقضية اللاجئين أشد سطوة واختلافاً عما حصل أثناء الحرب الأهلية في لبنان.

تدور أحداث “النار بالنار” ضمن حي شعبي في لبنان لجأ إليه بعض السوريين. وفي هذا الحي نرى انعكاسات العلاقة التاريخية بين الشعبين السوري واللبناني، ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وتاريخياً. جرأة المسلسل بطرح القضية والطريقة التي رُسمت بها الشخصيات هي التي جعلت المسلسل يحظى باهتمام الجمهور، الذي تبدو فيه الحكاية مشتتة، تستند إلى خط رئيسي قائم على مثلث علاقات من الحب الذي يربط بين اللاجئة السورية “مريم” (كاريس بشار) التي سُرقت أوراقها باللحظة التي وطأت أقدامها الحي، مع الرجل اللبناني العنصري “عزيز” (جورج خباز) الناقم على السوريين، بسبب اختطاف أبيه من قبل حاجز لـ”قوات الردع” في أيام الحرب الأهلية اللبنانية، والضلع الثالث الذي يُكمل المثلث هو المُرابي “عمران” (عابد فهد)، ثنائي الجنسية، الذي يتحكم بالحي اقتصادياً. 

تبدو العلاقات بين الثلاثي جذابة ومثيرة للاهتمام في الحلقات الأولى، لكنها تفقد بريقها مع تدفق الحلقات، ولا سيما عندما صارت شخصية “عمران” تمثل الشر المطلق. هذا التحول فضح خبايا الحكاية، وجعل النهاية مقروءة، فالكفة سترجح بالنهاية إلى نجاح العلاقة بين مريم وعزيز، لرسم نهاية طوباوية مشرقة للعلاقة بين الرجل اللبناني العنصري واللاجئة السورية (بالطبع هذا تخمين كون المسلسل لم ينته بعد).

السؤال هنا، هل أصبحت العنصرية ضد اللاجئين قضية “رائجة” في المسلسلات، أي لم تعد تابو يتم تجاهله أو تفاديه؟ لا يمكن إنكار “جرأة”  مسلسل “النار بالنار” في الحديث عن العنصرية بكل وضوح، لكن أي عنصريّة بدقة؟ المشهد الذي أثار الجدل، يشير إلى دور الجيش السوري في الحرب الأهلية اللبنانيّة، وكيف أن السوريون وإن خرجوا جيشاً، عادوا بعد 2011.  لكن كيف عادوا؟ مهجّرين، هاربين، لاجئين. 

وهنا مرة أخرى، يمكن أن نعيد النظر بمفهوم “رواج العنصريّة” ضد اللاجئين في المسلسلات، هي عنصرية “آمنة”، لا علاقة لها بالشأن اللبنانيّ الحاليّ، أي السوريون لم يفجّرو المرفأ، ولم يسرقوا الودائع، ولم يعطلوا انتخابات البلديّة، ولم يكونوا سبب تعليق قضية ضحايا الانفجار، ولم يسرقوا المساعدات الأممية.

ظهور العنصريّة بالشكل السابق خيار غير إشكالي، يحرك العواطف، لكنه لا يتناول “الآن وهنا”، ولا نطالب المسلسل بذلك، وهنا يظهر الخيار الإنتاجيّ ربما، الحديث عن الآن بما يلائم الوضع القائم في ذات الوقت لا يثير مشكلات معه. وهنا نعيد السؤال، لم الآن بالذات، لم عام 2023، ربما الأمر محض مصادفة! لكن لا يمكن إنكار أن الحديث عن العنصرية جاء متأخراً، إذ يُعرض المسلسل بعد  تتالي الأخبار عن “برنامج العودة الطوعيّة” الذي بدأت السلطات في لبنان تنفيذه العام الماضي. الاستراتيجيّة المشبوهة التي يمكن القول إنها “قسريّة” لا “طوعيّة”. 

قضية اللاجئين في لبنان لطالما مثّلت الورقة التي تستخدم دوماً لتفسير” كلّ” ما يحصل في البلاد من مشكلات، الفساد، حجز الودائع، الحزب، الاستعصاء الرئاسي، هذه المشكلات تبدو هامشية في بعض حبكات المسلسلات المشتركة، أما “اللاجئون” ففي الواجهة، لكن الاختلاف، أنهم في المسلسل عاطفيون، خسارتهم نتيجة “أزمة” سابقة، لكن في الواقع، القضية راهنة وحاليّة، الأسد يفاوض الدول ليعود إلى الحضن العربي ناسياً شأن اللاجئين، لا يعني هذا غياباً كاملاً لما يحصل في لبنان، لكن عند الإشارة إلى قضية البنوك، تظهر شخصية السوري، بوصفه من يقتحم البنك للحصول على “وديعته”، كما فعلت شخصيّة “ياقوت” التي يؤديها الممثل قصي خولي في مسلسل “وأخيراً”، الذي أيضاً، من إنتاج شركة “الصباح”.

يجب التنبيه إلى أن هامش الحرية الذي اتسع في الدراما المشتركة لا يزال يقف عند خطوط حمراء، فلم تتم الإشارة بمسلسل “النار بالنار” إلى  جرائم النظام السوري الراهنة، التي أدت إلى تهجير السوريين، وتم الاكتفاء بإلقاء التهم على الجيش السوري في ملف اللبنانيين المغيبين قسراً؛ تهمة لا تصل إلى حد الإدانة، فهي جملة تتداولها الشخصيات العنصرية المتحاملة على السوريين أصلاً.  الأمر ذاته مع سبب الأزمة الحقيقية في لبنان، فهل شخص يحمل الجنسيتين السورية واللبنانية ويتحكم بـ”كهرباء” حارة بأكملها هو سبب الأزمة ؟، بصورة أخرى، المشكلة ليست أخلاق الشخصية التي يؤديها عابد فهد، لكن، لا وقت الآن للمشكلات، لا بد من الربح، الشركة المنتجة تريد صناعة تريند، وبيع المسلسل.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن هامش الحرية ليس متوازناً بين الجانبين السوري واللبناني في الدراما المشتركة؛ فالجانب اللبناني دائماً يبدو أكثر جرأة وعتبة النقد عنده أعلى، فتمر عبارات في المسلسل تشير إلى أن من يحكم لبنان اليوم هم أمراء الحرب، وتشير المعطيات إلى تورطهم بملفات المغيبين، لكن في الجانب السوري تضيق الهوامش، فالنظام القائم في سوريا اليوم مغيب تماماً عن الحوارات السياسية الجريئة، وهي حاجة لا بد من تلبيتها في البحث عن دراما حقيقية.