منذ مطلع عام 2025، وحتى اليوم، لا يكاد يمضي شهر من دون أن نقرأ خبر قتل زوجة على يد زوجها في اليمن… حتى صار الأمر أشبه بعنوان ثابت في نشرات الأخبار: “زوج يقتل زوجته”… لكن، بطريقة مختلفة كل مرة.
بدأ العام بخبر قتل المعلّمة نسرين، حين اعترض زوجها الحافلة المدرسية التي كانت تقلّها مع تلاميذها إلى مقر عملها في عدن، أطلق النار عليها وأرداها قتيلة. وتناقلت المواقع صور الحافلة المضرّجة بالدماء. ثم تتابعت الأخبار، زوج يقتل زوجته بسلاحه الشخصي، وآخر يقتلها ذبحاً، وثالث ينهي حياتها بسبب خلاف على كسوة العيد، وصولاً إلى زوج يقتل زوجته في ظروف غامضة، وغيرها الكثير…
تتلاحق الأخبار فتصاب بالذهول. ومع غياب البيانات الرسمية، وتصاعد حدة الاستقطاب السياسي للمواقع الإخبارية، يصعب التحقق من كل جريمة يُعلن عنها. غير أن محكمة في صنعاء أصدرت، يوم الأربعاء 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، حكمها في قضية قتل نجاة العنسي (35 عاماً)، التي وقعت في حزيران/ يونيو الماضي. إذ أدانت المحكمة زوجها بجريمة القتل العمد وقضت بإعدامه.
تحدثتُ إلى شقيقة الضحية، الزميلة الصحافية فاطمة العنسي، التي وصفت الحكم بأنه “القصاص العادل لزوجة تحمّلت 14 سنة من العذاب، انتهت بقتلها”، ثم بدأت بسرد مأساة شقيقتها..
مأساة متكررة بوجوه مختلفة
لا تختلف قصة نجاة كثيراً عن قصص نساء أخريات من ضحايا العنف الزوجي: زواج سريع وحمل أسرع، تتكشف شيئاً فشيئاً طباع الزوج الحادة. يبدأ أولاً في توجيه بعض الكلمات الجارحة، إهانات وشتائم، تختار الزوجة الصمت وتكتم سرّها عن الجميع، حتى عن أهلها، تستمر في إقناع نفسها بأن الأمر لن يتكرر، وأن الأمور بخير… وأنها سعيدة.
لكن الأمر يتكرر، والأذى اللفظي يتحوّل إلى ندوب وعلامات ظاهرة على الجسد. تقول فاطمة: “كان يضربها في الليل ثم يتوسّل إليها في الصباح أن تسامحه، وألا تخبر أحداً، ويقسم لها أنها المرة الأخيرة”.
وبالطبع لا تكون المرة الأخيرة، بل يتمادى الزوج أكثر، ويصل إلى حد المجاهرة بالنوايا. تذكر فاطمة أنه كثيراً ما كان يهدّدها: “في إحدى المرات أرسل لها رسالة على الواتسآب: (حياتك ستنتهي على يدي). لم نعتقد حينها أنه يعني ما يقول، كنا نظنّها مجرد كلمات تقال في لحظة غضب”.
بعد كل اعتداء بالضرب، كانت نجاة تغادر منزلها مع قرار بعدم العودة. تضيف فاطمة: “لكن زوجها كان يسعى بشتى الطرق الى إقناعها بالرجوع. في الخلاف الأخير كتب تعهداً رسمياً بأنه لن يؤذيها مرة أخرى، وعدها ببداية جديدة (من أجل البنات) كما قال. وتحت ضغط الجميع، واشتياقها الشديد لبناتها، عادت إليه”.
تكمل فاطمة: “بعد عودتها الأخيرة، كانت تصف الوضع بأنه مختلف، وتصف زوجها بأنه هادئ على غير عادته. كانت تقول: ربما (الله هداه) هذه المرة فعلا”.
غير أن الهدوء الذي وصفته نجاة لم يكن الهداية المنتظرة.. فبعد أقل من شهرين من عودتها، قتلها زوجها وهي نائمة، بطلقة في الرأس.
تركت نجاة ثلاث طفلات: أكبرهن في الحادية عشرة، وأصغرهن لم تتجاوز الثالثة. تصف فاطمة الوضع الجديد: “لا تكف الطفلة الكبرى عن استحضار ذكرى أمها. تفتقد تفاصيلها الصغيرة اليومية: رائحتها، صوتها وهي تراجع معها دروسها، ونكهة طبخها، نقول لها إن ماما ذهبت إلى الجنة، فترد: أريد أن أعانقها لمرة واحدة فقط”.
لكن قصة نجاة ليست إلا جزءاً من واقع أوسع تعيشه كثيرات من النساء في اليمن، حين يواجهن الضرب والأذى بالصمت والدعاء، في انتظار هداية إلهية قد لا تأتي.
عنف يفاقمه الصمت والترهيب
غالباً ما يُنظر إلى العنف الزوجي في اليمن على أنه شأن عائلي خاصّ، لا يجوز لأحد التدخل فيه. بل إنه في كثير من الأحيان، لا يُعدّ عنفاً، وإنما “حق للزوج” وممارسة لدوره الطبيعي في تأديب زوجته وتقويم سلوكها. وهو ما يفسّر غياب الإحصاءات الدقيقة التي تكشف حجم المشكلة.
لكن فوزية مريسي، مديرة الدائرة الصحية والاجتماعية في اتحاد نساء اليمن، تؤكد أن حالات العنف الزوجي تفاقمت بشكل حاد خلال العامين الأخيرين: “كنا نستقبل 30 حالة في الشهر، اليوم يزيد العدد عن 100، جميعها تشمل الضرب والطرد من المنزل”.
تروي فوزية بعض الحالات المروّعة التي تصل إلى الاتحاد: “إحدى النساء كان زوجها يجبرها على التسوّل، جاءت إلينا منهكة وملابسها مغطاة بالغبار. حالة أخرى وصلت بأنف مكسور، وثالثة جرحها زوجها بالسكين في وجهها، أما الأخيرة فكان زوجها يضربها ويتبوّل عليها، وحين لجأت إلى أخيها، ذهب الزوج وفجّر قنبلة في دكّان الأخ”.
إقرأوا أيضاً:
وعن كيفية تعامل الاتحاد مع المعنّفات، تقول فوزية: “نعقد جلسات صلح، نستدعي الزوج الذي يتعهّد بعدم التعرّض لزوجته، لكن في كثير من الحالات يعود إلى ممارسة العنف بدرجة أشد، بل ويهدّدها أمامنا، حينها نساعد الزوجة على الحصول على الطلاق”.
تشير فوزية أيضاً إلى الصعوبات التي يواجهها الاتحاد: “تتوعدنا سلطات الحوثيين بإيقاف عملنا، وتصعّب علينا الحصول على التصاريح اللازمة لتنفيذ أنشطتنا. المساحات الآمنة للنساء المعنّفات أُغلقت في غالبيتها بالقوة، نُتّهم بأننا نحرّض النساء على أزواجهن، وأننا السبب في زيادة حالات الطلاق”.
وتوضح كذلك أبرز التحديات القانونية والمادية: ” نواجه ضعفاً في الميزانية وشحّاً في الدعم، فضلاً عن القيود القانونية التي تحدّ من عملنا وتنتقص من حقوق المعنّفات. ففي كثير من الحالات، ترفض المحكمة فسخ الزواج، إذ تشترط مرور أربع سنوات على تعرّض الزوجة للعنف قبل النظر في طلب الفسخ”.
وعن أسباب العنف، تشير فوزية إلى أن غالبية الحالات تحدث حين تطلب الزوجة النفقة من زوجها، لكن هل الفقر والظروف المعيشية الصعبة السبب الوحيد؟
للعنف جذور أعمق
على رغم أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والآثار النفسية للحرب ساهمت في تفاقم العنف الأسري، بما في ذلك العنف الزوجي، إلا أن جذوره كانت قائمة قبل النزاع المسلّح. فقد أظهرت دراسة أجريت قبل الحرب أن 65 في المئة من النساء الناجيات تعرضن لأشكال متعددة من العنف الأسري، أبرزها العنف الجسدي والتعذيب. ومع اندلاع الحرب، تفاقمت الظاهرة لتشمل أنماطاً أكثر حدّة مثل القتل والاغتصاب، إلى جانب تصاعد العنف الجسدي بشكل ملحوظ. كما سُجّلت حالات عنف لم تكن ناجمة عن الظروف الاقتصادية.
تشرح د. نجاة صائم خليل، أستاذة علم النفس الاجتماعي: “الظروف المعيشية الصعبة قد تحفّز العنف ولكنها ليست السبب الرئيسي. غالباً ما ينشأ سلوك الزوج العنيف عن مجموعة من العوامل الداخلية مثل الاستعداد النفسي والتكوين الشخصي، إلى جانب القيم الاجتماعية والدينية الخاطئة التي يتبناها تجاه المرأة”.
تحذر د. نجاة من العلامات المبكّرة للعنف وأنه يتصاعد تدريجياً: “يبدأ الأمر عادة بمزاح خفيف ثم يتطور ليشمل كل أنواع العنف اللفظي والجسدي والجنسي. يزداد الوضع سوءاً إذا تجاهلت الزوجة أو أهلها الأمر. لذلك على المرأة مراقبة أي تهديدات أو تغيّرات في سلوك الزوج، وطلب المساعدة فوراً من الأسرة أو من له سلطة”.
كما تشير إلى أن بعض الأزواج قد يستجيبون للعلاج النفسي والاجتماعي بما يساعد في تعديل سلوكهم وأفكارهم، لكنها تؤكد أن الحل الأمثل يبدأ من التنشئة الصحيحة منذ الصغر: “التنشئة السليمة للذكور والإناث على أسس الاحترام المتبادل داخل الأسرة وفي إطار علاقة الزوجية، وإعادة تفسير النصوص الدينية التي تُستخدم أحياناً لتبرير العنف، مثل ضرب الزوجات، الذي يُنظر إليه كأحد الحلول التي شرّعها الدين”.
هل القوانين وحدها تكفي؟
يكثر الحديث عن غياب قانون يجرّم العنف الأسري في اليمن، لكن ماذا سيغيّر القانون لو وُجد؟
تقول د. هبة عيـدروس، الخبيرة القانونية والباحثة الحقوقية: “قانون الجرائم والعقوبات في اليمن يحتاج إلى تعديلات كثيرة. فهو لا يوفر حماية حقيقية للمرأة من العنف الأسري. ليس المهم أن يُسنّ قانون خاص باسم العنف الأسري، بل أن يُدرج بند يضمن حماية المرأة ويمنع الاعتداء عليها في ظروف محددة، وقطعاً، هذا من شأنه أن يحل جزءاً كبيراً من المشكلة”.
لكن د. عيدروس ترى أن القانون وحده ليس كافياً: “التوعية ضرورية. هناك فكر مجتمعي يحتاج إلى تصحيح، إضافة إلى نقص وعي المرأة بحقوقها القانونية والشرعية، وخوفها من الكلام لشعورها بأن المجتمع لن يساندها. معنّفات كثيرات يتراجعن عن تقديم شكوى، ويعدن إلى أزوجهن بسبب غياب الحماية أو المأوى الآمن”.
وتوضح أن الأزمات كشفت السلوك غير السوي لبعض الأزواج: “المرأة معرّضة للعنف في كل الحالات، سواء كانت منكسرة وضعيفة، أو حين تبدأ بالمطالبة بحقوقها. إحدى الحالات التي ساعدتها لنيل حقوقها، تعرّضت للضرب من زوجها فور اكتشافه أنها تواصلت معي”.
يبقى أن صدور حكم الإعدام بحق قاتل “نجاة” ليس نهاية القصة، إذ تستعد فاطمة وأسرتها لمعركة قضائية جديدة للحصول على حق حضانة الابنة الثانية للضحية. أما الابنة الكبرى فلا تزال تتلقى العلاج النفسي، بعدما “استيقظت من نومها في منتصف الليل لتجد المنزل يعجّ برجال الشرطة، والدماء تلطّخ الدرج”.
ولعل الحكم الرادع يمنح شيئاً من الطمأنينة لقلوب الزوجات المعنّفات، إلا أنه لا يضمن أن تكون “نجاة” آخر الضحايا، فما دام هناك من يؤمن بأن الله خلق المرأة “كائناً معوّجاً” وخلق الرجل لتقويمه، وما دام المجتمع يغضّ الطرف عن العنف الزوجي ولا يعدّه جريمة، ستظل حياة نساء كثيرات مثل “نجاة” مهدّدة بالمصير ذاته.
إقرأوا أيضاً:













