الاغتيال هو عمل عدائي لا يمكن فصله عن النمط الاجتماعي والثقافي الطاغي. هذا النمط “علّمنا العنف”، سواء كان عنفاً “فاشياً” أو “ثورياً”. لقد تعلّمنا هذا الدرس القاسي من التجربة اللبنانية منذ الستينيات حتى الآن، حيث اُستُهدف كتّاب ومثقّفون تحت عنوان “الحماية”: حماية الهويّة؛ حماية القضيّة، حماية الوطن… كلّ حقبة سياسية في لبنان والعالم العربي شهدت نوعاً من الاغتيالات كوسيلة لإسكات النقيض “الآخر”، للحفاظ على رموز تاريخية كبرى و”مقدّسة”، ولو أتت على حساب تفاعلها مع حياة الإنسان “الفعلية”.
لحظة قتل تشارلي كيرك فضحت شكلاً من أشكال هذه “الهمجية” السياسية في المجتمع الأميركي. ولكن في منطقتنا، يوجد “تشارلي كيرك” لكلّ طائفة في لبنان والمنطقة، ويوجد نموذج من “العنف الثوري” لكلّ طائفة في لبنان والمنطقة. وفي الواقع، رغم حصول هذا العنف بإسم الثورات والتحرّر في بعض الأحيان، المنطقة تشهد مسابقة بين فاشيات متنازعة تستنسخ وتعمّم الهمجية والعنف كاللغة السائدة للسياسة في المنطقة. ولهذه التجربة خصيصتان: قبلية “فرق الفوتبول”، وشهوة الاغتيال “الثوري”.
فرق “الفوتبول”: الولاء والتكبّر كحياة سياسية “همجية”
في الداخل الأميركي، لعب تشارلي كيرك دوره كمشجّع محترف لفريق المحافظين البيض، ورجال الأعمال الكبار في الحزب الجمهوري، والذكوريين الذين عملوا على المنصّات لنشر أدبياتهم المعلنة. على المستوى العالمي، دافع تشارلي كيرك عمّا يسمّى “الحضارة الغربية” بتحريضه على الأقلّيات والمهاجرين. شيطن المسلمين ودافع بشراسة عن إسرائيل، واستند إلى “المسيح” والإنجيل” بدفاعه عن حكومة نتانياهو وحملة الإبادة في غزّة.
ولكن لهذه الأدبيات ترجمة خاصّة في منطقتنا، ولكيرك “سفراء” يسوّقون سياسته: علي حجازي أطلق العنان لنفسه ليتحدّث بهذه اللهجة عندما لوّح بإمكانية اندلاع حرب أهلية. وفي خضم الحرب الإسرائيلية على الضاحية والجنوب والبقاع، جاهر “الشامتون” بهذه اللغة حين اعتبروا العنف الإسرائيلي درع حماية في مواجهة عنف “حزب الله”. أمّا المتطرّفون الإسلامويون، فلم يتردّدوا في استخدام منابرهم ومنصّاتهم لنشر تبريراتهم “الخفيفة” لمجازر الساحل السوري.
إن وجود تشارلي كيرك يمثّل كلّ واحدة من فرق “الفوتبول” هذه، حيث يتنافسون على مصادر القوّة والسلطة، وعلى الحقيقة والأخلاق، من زاوية “حضارتهم الخاصّة”، وهي نظرة لا تعترف إطلاقاً بوجود “مشترك”. فعندما نشجّع فريقنا المفضّل أثناء مباراة كأس العالم، المشاهد “العادي”، في أغلب الأوقات، لن يفكّر بتقنيات اللعبة، ولن يكتب مسوّدة أو خارطة نقدية حول أخطاء فريقه. يتحوّل، في لحظة المباراة، إلى مشاهد غرائزي، حوله مشاهدون غرائزيون آخرون، يتنافسون على مكانة “جماعتهم” في تاريخ اللعبة، ويبحثون عن أسباب للشتائم المتبادلة.
هذه من الطقوس المهمّة في المباراة – تعلّمنا الولاء والوفاء لفريقنا، رغم الخسارة أو النجاح. تعلّمنا مبدأ “عدم التخلّي”، رغم كلّ التغيّرات والخسائر المحتملة. نتشدّد، نتكبّر، وننفعل بهدف الحفاظ على هيبة الفريق أمام الخصوم والأصدقاء. ومع أهمّية هذه الخصائص كقيم نطبّقها في علاقاتنا مع عائلاتنا وأصدقائنا، ترجمتها السياسية قد تلخّص مخاطر هذه المرحلة.
تشارلي كيرك هو ببساطة المسؤول الإعلامي لفريق فوتبول، فريق “صليبي” “غربي” يدّعي الدفاع عن “الحداثة”، ولكن بلغة “إمبراطور ما قبل الحداثة”. وحتى عندما يعترف مشجّع الفريق ببعض الخسائر والأخطاء عند لاعبيه، لن يعلن عنها بوضوح. سيغيّب عيوبه أمام الجمهور بهدف التكبّر على الخصم، بهدف الحفاظ على الولاء وسط محاولات النقد.
وهكذا تصرّف “الإعلامي الممانع” في المنطقة بعد فشل “جبهة الإسناد” و”وحدة الساحات”، و”مؤثّر الهيئة” في سوريا بعد مجازر الساحل والسويداء، و”إعلام المصارف” في لبنان بعد انهيار العملة. فمشجّع فرق الفوتبول، عندما يردّ على النقد، لا يردّ بالدليل والحجة والرأي. يرتكز خطابه على التشخيص الأخلاقوي المجحف، والتقييم الذي يهدف إلى خلق “البعبع” الجديد الذي يجب أن نخاف منه جميعاً.
منذ الطفولة، يكبر اللبنانيون في بيئة مشحونة بالانقسامات: تعلّمنا أننا نستطيع أن نتعامل مع الشيعة والموارنة، أو اليسار واليمين، أو الجنوب والشمال، أو السوريين واللبنانيين، أو العرب واليهود، أو إيران والسعودية، أو أميركا وروسيا… كأننا نتعامل مع الأنصار والنجمة، أو برشلونة وريال مدريد.
ومع اقتراب عدد من الاستحقاقات الانتخابية المهمّة في العالم، يبدو أن هذه الانقسامات ستستمرّ بشكل أو بآخر، وإن اتّخذت أشكالاً جديدة. في لبنان، حكومة نوّاف سلام مثّلت محاولة لإرساء قدر من الاستقلالية عن هذا الاستقطاب. ومع ذلك، يبقى المشهد مشحوناً، ولم يُفسَّر بعد البعد النفسي والاجتماعي لهذه الانقسامات، التي تبدأ من المدرسة حيث يُلقّن الأطفال شعارات سياسية ودينية تشدّ عصب الجماعة، وتظهر لاحقاً في الشارع مع الاستعراضات العسكرية والمواجهات الشعبية.
العنف السياسي: دوّامة دائمة لا خلاصة “ثورية”
عند حصول اغتيال سياسي في زمن مواقع التواصل والإعلام الجديد، يتسرّع المشاهد نحو “تقييم” الحدث قبل فهمه، وهو تقييم يشترط أوّلاً على هويّة الضحيّة والقاتل.
بالنسبة إلى مشجّعي فرق الفوتبول في منطقتنا، لا يتمحور النقاش التقييمي حول الاستراتيجيا والتكتيك وتداعيات هذه الخيارات الدموية، بل على خلطة ما بين خطاب “أخلاقي” وخطاب “أنطولوجي”. الأخلاق يكرّس “حقّ الدمّ”. والأنطولوجيا يكرّس “معنى الوجود”. فوجودنا، بغض النظر عن تقييمنا الأخلاقي له، أصبح قائماً على صراعات “حتمية” يفرضها “التاريخ”: 7 أكتوبر “ردّ فعل طبيعي” من قِبل “السكّان الأصليين” في مواجهة المستعمِر؛ الإبادة الإسرائيلية في غزّة “ضرورة تاريخية لإنهاء كلّ الحروب”؛ الاحتلال الإسرائيلي لسوريا “مهمّة تاريخية لإنقاذ الأقلّيات من البربرية الإسلامية”؛ “وحدة سوريا” تتطلّب حكماً مركزه دمشق وعلى رأسه أحمد الشرع. تتطلّب “رجل المهمّات الصعبة”، ذلك الذي “يصنع التاريخ” بإرادته “الأسطورية والاستثنائية”. وهي نفسها الإرادة المنفّذة لمجازر الساحل والسويداء، تلك المجازر التي “طهّرت سوريا من وحوشها”، كي “تعود سوريا التي نعرفها”، تحت هيمنة هويّاتية وقومية أحادية.
وطبعاً، بالنسبة إلى مشجّعي هذا العنف “التاريخي”: اغتيال تشارلي كيرك هو أيضاً “نتيجة طبيعية” لأقواله، لاصطفافه السياسي العنيف. والعنف “الثوري” اليوم أصبح مطروحاً كالحلّ الأوحد، بل “الطبيعي والتلقائي” لمعالجة عنف البنى السائدة.
ولكن على عكس توقّعات الثوريين، الاغتيالات والمجازر في لبنان وسوريا لم تنتج “الصمت”، بل أعادت إنتاج خطر الحرب الأهلية الدائمة، وسيطرة أمراء السلاح على إيقاع اللعبة السياسية. واغتيال تشارلي كيرك لن ينتج الصمت أو الخوف، بل سيعيد إنتاج كراهية اليمين المتشدّد. جسّد تشارلي كيرك القانون السائد في منطقتنا، وجسّد منفّذ اغتياله الردّ السائد على هذا القانون. فكما يقول المفكر الماركسي حسن حمدان (مهدي عامل) أحد ضحايا الاغتيال السياسي: “الطائفي لا يُنقَض بالطائفي، لا في الفكر ولا في السياسة، بل يتعزّز به حتى لو كان نقداً”.
فقد قُتل كيرك، المعروف بتأييده لسياسات ترامب “الحضاروية” المتشدّدة، على يد شخص أبيض من البيئة نفسها، فيما أشارت بعض التقارير إلى علاقة بأحد أفراد مجتمع الميم. هذا المثال يعكس أن الاغتيال لا يرتبط فقط بخلافات إيديولوجية وهويّاتية تقليدية، بل قد يصدر من البيئة ذاتها. وهذا الواقع ينقض قراءة “صراع الحضارات” الذي أسقطه المفكّر المحافظ صامويل هنتنغتون منذ 30 سنة.
رغم هذا الواقع المعقّد مقارنةً بقراءة هنتنغتون، توجد تداعيات ثقافية ومجتمعية كبيرة ومباشرة لقتل كيرك، ولذلك الاغتيال السياسي هو نوع من أنواع الثورة المضادّة؛ يحوّل الخلاف السياسي إلى صراع دموي أبدي، بدل أن يكون مساحة للتعدّدية والنقاش السلمي، تنقل مجتمعاتنا إلى بنى سياسية ومجتمعية جديدة، بعيدة عن رؤية تشارلي كيرك لحياتنا السياسية اليومية.
إقرأوا أيضاً:









