أكثر من مؤشر في جنوب لبنان يأخذنا إلى الريبة في السلطة اللبنانية ممثّلةً برئيس مجلس النواب نبيه بري ومن خلفه حزب الله، من دون أن ننسى تواطؤ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. الأمر يتعدى انعدام المسؤولية حيال الجنوبيين خلال عودتهم المتعثّرة إلى قراهم المدمرة، ويتعدى أيضاً عدم مكاشفة أهل الجنوب بعد مصابهم بحقيقة ما أُطلق عليه في لبنان “اتفاق وقف إطلاق النار”، وما أُطلق عليه في إسرائيل “هدنة الستين يوماً”.
وصل العائدون إلى شريط القرى المدمّرة، ولم يجدوا أحداً بانتظارهم سوى ركام منازلهم، وما تنام عليه من قتلى تحت الركام. لا أحد كان بانتظارهم باستثناء أفيخاي أدرعي الذي راح يهدّدهم بمواصلة قتلهم. لا ماء ولا كهرباء ولا جيش ولا يونيفيل ولا متاجر يشترون منها حاجياتهم.
نعم علينا أن نرتاب بهذه السلطة التي سبق أن سرقت أموال اللبنانيين، وتآمرت عليهم مع المصارف. السلطة التي خاضت حرباً غير آبهة بحال الإفلاس الذي تسبّبت به. السلطة التي قال ممثلها، نبيه بري، للجنوبيين، عودوا إلى مدنكم وقراكم، هناك حيث كان أفيخاي أدرعي بانتظارهم، ولم يكن أحد غيره هناك، باستثناء عدد قليل من المقاتلين المنهكين، وكميات هائلة من الركام، ومن دفاتر تلامذة المدارس ملقاة على ما تناثر من أثاثات المنازل المدمّرة.
ما سر هذا الاتفاق الذي أبرمته السلطة ممثلةً بثنائيّها الشيعي مع إسرائيل؟ ثمة فضيحة يسعى مبرم الاتفاق الى مداراتها عبر “النصر” الذي صُوّر للناس بأنه في انتظارهم. إنذارات وجه الشؤم الناطق باسم جيش الاحتلال، تفصح عن الفضيحة أكثر مما يفصح عنها الناطقون اللبنانيون باسم “النصر”. الخرائط التي يرسلها إلينا هذا الرجل تقول إن ثمة منطقة عازلة وغير مأهولة بالسكان هي جزء من الصفقة! هذا على الأقل ما سنشهده خلال أشهر تتعدى فترة الستين يوماً. وليس مهماً لرجل مثل بري ألا يأوي أكثر من مئة ألف جنوبي إلى قراهم طالما أن الصفقة شملت حماية المنصب وعدم المحاسبة، وقد تأتي برئيس للجمهورية لا يطيح “الإنجازات” المحققة منذ انفجار المرفأ وصولاً إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
ما يدفعنا الى الاعتقاد بالمنطقة العازلة والخالية من السكان، هو أن مهمة التدمير أُنجزت بالكامل، والاحتلال أعدّ لها الخريطة وراح يذكرنا بها يومياً. لا تعودوا إلى هذه القرى، وسط صمت لبناني مدوٍّ. من قال للناس عودوا إلى قراكم لم ينطق ببنت شفة عندما شطب أدرعي وجهنا بخرائطه. العائدون إلى القرى لم يعثروا على من يجيبهم عن سؤال: “ماذا نفعل… هل نغادر”؟ لا أحد على الإطلاق! ثمة من خدع الناس، وثمة من لم يصارحهم بما وقّع عليه من اتفاقات خلف الاتفاقات.
أما ما يعزز الريبة أكثر فهو عدم وجود أي تصوّر لمستقبل هذا الركام، فإعادة الإعمار مرهونة، بحسب ما رشح من البنود السرية للاتفاق، ليس فقط بمدى التزام لبنان بالمطلوب منه في الجنوب، إنما أيضاً بإعادة تشكيل السلطة بدءاً من رئيس الجمهورية ووصولاً إلى الحكومة والبيان الوزاري.
إذاً، على الجنوبيين ممن دمرت مدنهم وقراهم ومنازلهم وأرزاقهم انتظار الستين يوماً مضافاً إليها أشهراً من مخاضات “إعادة تشكيل السلطة” حتى يجدوا من يباشر بتمويل إعادة الإعمار. هذا من دون التطرق إلى قضية المنطقة العازلة، ومستقبل أكثر من عشرين قرية يحذّر أذرعي يومياً سكانها من العودة إليها.
لا أحد يكاشف السكان بما إذا كانت مناطقهم محتلّة أم لا، وما إذا كانت عودتهم آمنة أم لا، وهل يباشرون بدفن أحبائهم أم ينتظرون الستين يوماً التي قد تصبح دهراً. إسرائيل تتصرف كما لو أن لها الحرية المطلقة في كل شيء. بالأمس، نفذت غارة على بعد نحو خمسين كيلومتراً من الحدود، واختطفت مواطنين من الخيام وهددت سكان نحو 71 قرية في الجنوب بضرورة عدم العودة. وفي لقائه الأخير مع قناة “الجديد”، كرر الوسيط الأميركي آموس هوكستين أكثر من خمس مراتٍ أن الحكومة اللبنانية وافقت على كل بنود الاتفاق ووقعت عليها. فعلى ماذا وقعتم أيها السادة؟ إجابتكم تتوقف عليها حياة أكثر من مئة ألف لبناني.
إقرأوا أيضاً: