fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

العودة إلى سوريا: اللعب في المسلسلات و”كسر خواطر” المُهجّرين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“العودة إلى سوريا” لا تقتصر على البعد الجغرافي، هناك عودة فنية عبر الشاشة، تدخّل فيها المال الإماراتي والقطري والسعودي، لخلق مساحة من “اللعب المشترك” بين ممثلين معارضين وآخرين؛ هم ليسوا فقط مؤيدين، بل على صلة وثيقة بالسلطة في سوريا وآل الأسد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“دخلت إلى سوريا وخرجت منها بشكل قانوني، في مناطق سيطرة السلطات السورية ولم تواجه أي مشكلة”، هكذا برر مجلس الدولة الهولندي هذا العام، رفض طلب اللجوء الذي قدمته مواطنة سورية، غادرت سوريا عام 2013 نحو مصر، ثم دخلت سوريا وخرجت منها ” 6 مرات على الأقل”، قبل أن تصل إلى هولندا وتطلب اللجوء عام 2021.

يزرع هكذا خبر، مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، الرعب في قلوب اللاجئين السوريين، خصوصاً غير المُجنسين بجنسيات الدول المُضيفة، لأننا حالياً أمام فئة تزور سوريا سراً أو علانية، الشأن الذي يرفد فرضية “سوريا مكان آمن” التي ينادي بها النظام  السوري وبعض الأحزاب الأوروبية.

على النقيض، تتصدر عبارات “سوريا مكان ليس بآمن” و”لا ينبغي التطبيع مع الأسد” البيانات والتصريحات في كل مرة تدّعي جهة أو حزب أوروبي  أن “الحرب انتهت”، ولا مانع من عودة اللاجئين، وتكثر التأكيدات والأرقام أن بطش النظام لم يتوقف.

 شهدت آخر محاكمة في فرنسا أدين فيها “علي مملوك، وجميل حسن، وعبد السلام محمود”، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تأكيداً من قبل المحامية الفرنسيّة كليمانس بيكتارك، محامية الأطراف المدنية في القضية، أن هذا الحكم “تاريخي” و”رسالة إلى قادة فرنسا والقادة الأوروبيين مفادها أنه لا ينبغي تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد مهما كان الثمن”.

العودة إلى سوريا يروج لها النظام أيضاً، فوزير الخارجية السوري فيصل المقداد، أكد أن “أسباب مغادرة سوريا اقتصادية وبسبب العقوبات والإرهاب”، ليضيف في تصريح غريب أن “اللجوء مسألة فيها عبء، لكن سوريا تريد لكل أبنائها اللاجئين أن يعودوا إلى وطنهم، ليكون هذا العبء على الوطن وليس على الآخرين!”.

هذا الترحيب باللاجئين في “حضن الوطن” يترافق مع صكوك المصالحة وتسوية الوضع، ومراسيم “العفو العام” و”إلغاء الخدمة العسكرية الاحتياطية لمن تجاوزوا الـ40″، مما خلق نوعاً من الأمل لدى الكثيريين بزيارة أوطانهم، حنيناً وشوقاً أو لتصريف الأعمال.

يخلق العائدون شعوراً لدى الكثير من المهجّرين أنهم طعنوا، فالعودة ترسيخ لـ”فشل الثورة”، يضاف إلى ذلك أن العودة نفسها  ذات تبعات سياسية تمس العاجزين عن العودة، فإعلان سوريا “بلداً آمناً”، يهدد حق اللجوء لدى الكثيرين، ويترجم بما حصل في الدنمارك التي أعلنت عام 2023 أن “هناك بعض المناطق الآمنة في سوريا”، مما يهدد الأشخاص القادمين من هناك ويحرمهم حق اللجوء، ناهيك بسحبها عام 2022 وضعية اللاجئ وتصاريح إقامة من 94 سورياً، بعد إعلان “دمشق والمنطقة المحيطة بها كمناطق آمنة”.

“الزيارات” التي يقوم بها بعض المجنسين أو غير المجنسين، تصب في  استراتيجية النظام القائمة على المصالحات وتسوية الوضع واستقبال السياح الأجانب المؤثرين، ويتجلى أثرها السياسي في موقف الدول الأوروبية التي تريد الحد من الهجرات واللجوء، ويلخصها تصريح وزير الداخلية الألماني هايكو ماس عام 2019، الذي قال: “إن قام أحدهم؛ لاجئ سوري، بزيارة سوريا بصورة متكررة لقضاء الإجازة، لا يستطيع الادعاء بأنه مطلوب في سوريا، وعلينا أن نسحب منه إقامة اللاجئ”، هذا التصريح ليس من فراغ، بل تكرر هذا العام في طلب أمام الحكومة، فالكثيرون يزورون سوريا وهم  لاجئون، والطريق مكشوف للجميع، زيارة لبنان كلاجئ ألماني، ثم دخول سوريا كسوري.

“العودة” عبر الشاشة وسؤال “ما العمل؟”

“العودة إلى سوريا” لا تقتصر على البعد الجغرافي، هناك عودة فنية عبر الشاشة، تدخّل فيها المال الإماراتي والقطري والسعودي، لخلق مساحة من “اللعب المشترك” بين ممثلين معارضين وآخرين؛ هم ليسوا فقط مؤيدين، بل على صلة وثيقة بالسلطة في سوريا وآل الأسد.

هذه المساحة ليست محايدة، افتتحت منذ عام 2018 مع افتتاح السفارة الإماراتية في دمشق، ودخلتها السعودية عبر “شاهد” والمسلسلات المقتبسة من التركية، وقطر عبر ذراعها الإنتاجي. نحن أمام شاشات، تدفع المشاهد إلى النظر في التوجه السياسي لمن يقومون باللعب، كون اللعب، ليس ببريء من السياسية أبداً.

إشكالية هذا “اللعب الفني” أنه يعيد تقديم متخيل أو احتمالات عن “الحلّ” الذي يرفضه الكثيرون لتجاهله العدالة، ويلخص الموقف منه بعبارة الممثل السوري فارس الحلو: “أرفض المشاركة في أيّ عمل يوجد فيه فنانون سوريون قبّلوا الحذاء العسكري بطريقة أو بأخرى…” أي بصورة ما، هل نتشاتم خارج الشاشة، ثم نلعب معاً وننسى الدماء ما إن يصرخ المخرج “أكشن”؟.

يتهم من يرصدون هذه الألعاب المشتركة أو “العمل” بأنهم ثوريون راديكاليون، أو ما زالوا متمسكين بعقلية “قوائم العار” التي تعود إلى عام 2011، تلك التي قسمت الساحة الفنية بين “معارض” و”موال”، ورفعت جداراً  أخلاقياً وسياسياً، بين أولئك الذين لا اعتراض لديهم  على سردية النظام السوري حول الثورة، وبين أولئك الذي رفضوها ودانوا القاتل بوضوح.

رفض البعض هذا “اللعب المشترك” نابع من احتجاج على الحكايات والإنتاجات التي تُرسخ سردية النظام أو تحابيها، وترى في شكل العلاقات بين السلطة- الوسط الفني، شأناً لا بد من التعايش معه، الموقف الذي يلخصه الممثل السوري باسم ياخور، صديق ماهر الأسد، بقوله: “ما حدا بقرب على شخص الرئيس…ما حدا بقرب بالنسبة إلي على مسائل إلها علاقة بالجيش السوري”.

هذه “العودة” عبر الشاشة والكوادر المشتركة، لها تبريرات كثيرة، كالحاجة إلى العمل، والرغبة في الجمهور، وغيرها من الأسئلة المتشعّبة، كــ”كيف سمح النظام السوري لممثلين بعضهم له صور مع بشار الأسد، بأن يقفوا أمام شاتمي سلالة الأسد بأكملها؟”، أسئلة تعتبر امتداداً للعودة الواقعية، وترسيخاً لسذاجة أن مساحة اللعب والعمل محايدة ولا سياسة فيها!.

جهود العودة الفنية يتبناها ممثلو النظام أنفسهم، وتقودها وجوه فنية بارزة، كدريد لحام  الذي صرّح: “أي فنان سوري يريد أن يرجع، وهو خائف، بلاقيه على الحدود، وبنزل بسيارتي بجيبه، ويا منروح على البيت يا منروح على السجن”.

 الأمر ذاته مع المغني علي الديك، الذي عاد بالمغني الشاب الشامي إلى دمشق بالسيارة، بعد 12 عاماً أمضاها الشامي مهجراً، وهنا بالطبع لا نشير إلى موقف الشامي السياسي، بل إلى سطوة الممثلين وقدرتهم على “تمرير” أمور من يريد الدخول بدون مشاكل.

تبقى هذه “العودة الفنية” محط تساؤلات، خصوصاً أنها تعكس طبقية اللاجئين، بين “المشاهير” وأصدقائهم وأصحاب العلاقات التي لم تهددها الثورة بشدة، مروراً بالذين استفادوا من “الخطر في سوريا” بشكل عام ليصبحوا “مغتربين”، و أولئك الأقل حظاً، كالمُعادين قسراً، الذين تجاوز عدد المعتقلين منهم الـ4500 هذا العام.

هل الممثل السوري أمام السؤال اللينيني الشهير “ما العمل؟”، بعض نجوم التلفزيون هبطوا إلى الاحتجاجات، انتقلوا من مساحة اللعب المتخيلة نحو مساحة الفاعلية السياسية، مما جعل متابعتهم امتداداً لمتابعة المسلسل، وهذا يبيح لنا طرح سؤال، كيف يمكن “التمثيل” أمام باسم ياخور؟ كيف يمكن لعب شخصية أمام ممثل لا يمكن إنكار تفانيه في دعم النظام السوري؟، أو كيف يمكن لمن تطالب بالمعتقلين في سوريا الوقوف أمام أيمن زيدان في الكادر نفسه؟، يبدو أن أول مكان للإجابة يبدأ بسؤال فتش عن المال الخليجي، والخشبة “المحايدة” التي يحاول خلقها!.

نطرح السؤال عن العلاقة بين الممثل والسلطة في سوريا من دون تبرئة أحد، قبل الثورة القطاع الفني كان على تماس دائم مع القطاع الأمني، والسلطة حاضرة عبر علاقات شخصية مع الممثلين والفاعلين الفنيين، لكن بعد لحظة الثورة وأكثر من 13 عاماً هل هي الرغبة في العمل؟ أم أن حال النظام تغير  في سطوته على عالم الفن؟، يمكن القول إن مقالب “اليوتوبرز” فضحت سطوة المخابرات، وشتائم الممثلين لبعضهم بعضاً، وسطوة بعضهم لدى رجال الأمن مع فرادة كل ممثل واختلاف مستوى شهرته.

فخ اليمين الأوروبي ومصادرة حق السوريين ب”الـنجاة” 

النظام السوري واع للمتغيرات السياسية ويقودها، ومحاولات “الصفح”  تكشفها أحاديث شخصية متفرقة، إذ اكتشف البعض بعد “تفييش” أسمائهم في سوريا،  أن لا تهم عليهم!، ترافق ذلك مع مراسيم بالعفو عن الجرائم التي يصدرها بشار الأسد، كمرسوم  العفو رقم 24 عام 2022، الذي تزامن مع لقاء جمع رئيس بعثة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في سوريا ووزير الداخلية محمد الرحمون، بهدف “تقديم جميع التسهيلات اللازمة لعودة المهجرين”.

 لكن هكذا استراتيجية حقيقة كانت أم مصطنعة، تصادر من السوريين حقهم بأنهم “ناجون”، ونقصد أولئك المهجرين في بقاع العالم ومدنه ومخيماته، فخطورة هذا “الصفح” من قبل النظام أنه  ذو أثر على اللاجئين في أوروبا،  يختزل بوصفهم”كاذبين” في ما يخص الخطر في سوريا، وعدم قدرتهم على العودة إليها.

هذا الكذب يرتبط بمفهوم “اللاجئ الكاذب” الذي  أشار إليه الأنثربولوجي الفرنسي ميشيل أجير في مقابلة معه نشرت في كتاب “من هم اللاجئون” عام  2017، وفيه أشار إلى اللاجئين السوريين الذين “حصلوا على حق اللجوء بمجرد حملهم جواز سفر سوري”، موجهاً النقد لمفهوم أسطورة “اللاجئ الكاذب”، التي يصفها بـ”عُرف” يطغى على إدارات الهجرة في فرنسا ( وفي كندا أيضاً) أي بصورة ما، كل لاجئ كاذب حتى يثبت العكس، لكن، من يغذي هذه الأسطورة/ الكذب؟.

 قرار اللجوء يعتمد على قدرة طالبه إثبات “الخطر الواقع على حياته” عبر “حكاية مكتوبة مدعومة بالأدلّة”، ثم  مقابلة شخصية، من يجري المقابلة ليس فقط موظف حكومي، بل شخص يشاهد الأخبار، ويرى مرشحة اليسار الفلسطينية – الفرنسية ريما حسن تزور سوريا، ويرى زيارة برلمانيين فرنسيين يمنيين إلى سوريا أيضاً، ويسمع أخباراً عن زيارة لاجئين سوريين بلدهم، مما يجعل “إثبات الخطر” أصعب وأشد إشكالية ويغذي “الأسطورة”.

هذه السذاجة التي تتحرك بين تجاهل تصرفات النظام والرغبة الشخصية في العودة، تشكل محركاً لليمين المتطرف المعادي للاجئين، الذي يلخص موقفه بالتالي: إن كان “نظامهم” قد أصدر عفواً، وبعضهم ذهب إلى سوريا لقضاء إجازة الصيف، أين الخطر على حياتهم؟ ولم علينا أن نصدق الباقين؟.

هذه الاستراتيجية من قبل النظام لا تصادر فقط حق السوريين بأنهم ناجون وضحايا، بل أيضاً تحولهم من وجهة نظر سوريي الداخل، من لاجئين ومهجّرين إلى “مغتربين” و”مقيمين في أوروبا”، ويمتلكون قوة اقتصادية تنقذ من هم في الداخل، وتضمن استمرار أكلهم وشربهم، وخروجهم عبر البحر لا يتجاوز سوى السعي نحو حياة أفضل لا الهروب من المقتلة!.

كسر خواطر المهجّرين

انتشرت شائعة مؤخراً مفادها أن الممثل السوري فارس الحلو، عاد إلى سوريا، وعلى الرغم من ثقة الكثيرين بموقف الحلو ورأيه، لكن الشائعة انتشرت كالنار في الهشيم، ومن يعرفون فارس نفوا الأمر، وفي حديث سريع مع الحلو في اليوم ذاته لانتشار الشائعة، أنهاه بعبارة: “أكثر ما أثار غضبي من الشائعة هو أنها كسرت خواطر الكثيرين، الذين اتصلوا بي بأصوات قلقة، وبعضهم عتب قائلاً: حتى أنت يا فارس صالحت النظام”.

كلمات الحلو، تفسر الظاهرة، خصوصاً مفهوم “كسر الخواطر”، الذي يحمل عتباً على تغيير مواقف البعض أو اختلاف حكاياتهم، ويحمل قيمة أخلاقية يمكن مساءلتها لدى العائدين، لكنه في الوقت ذاته ممتلئ بالعاطفة. 

فشل أطياف المعارضة في إيجاد “حلّ” ترك الكثيرين مُعلقين بأسماء رافقت الثورة وانتصرت لها، وبدّت “الموقف” على “العمل” و”الحنين” و”الشوق إلى الأهل“، ليظهر العتب هنا حاملاً مرارة احتمال “المصالحة” وما تحمله من هزيمة.

 في الوقت ذاته، الحق بـ”العودة” للجميع ولا يمكن مصادرته، سواء كان العائد شخصاً “عادياً” أو ممثلاً قرر “العودة إلى الشاشة”، لكن “كسر الخاطر” أيضاً حق المحرومين من العودة، وإن كان الإقرار بفشل الثورة يعني أن يعود المهجرون، فـ”حقّ السوريين في اللّا عودة” (الشعار الواقعي حد المأساة بحسب تعبير منذر مصري) لا ينمّ عن “تشابه مع النظام”، بل إن “الوطن” ما زال معسكر اعتقال كبيراً، وينتمي إليه من هم أشجع من غيرهم، ممن قرروا قطع حدود المصنع نحو دمشق، وهناك أيضاً من هم أكثر براغماتية من غيرهم، قرروا “اللعب” مع أصدقاء السلطة إرضاء للجمهور.

31.08.2024
زمن القراءة: 8 minutes

“العودة إلى سوريا” لا تقتصر على البعد الجغرافي، هناك عودة فنية عبر الشاشة، تدخّل فيها المال الإماراتي والقطري والسعودي، لخلق مساحة من “اللعب المشترك” بين ممثلين معارضين وآخرين؛ هم ليسوا فقط مؤيدين، بل على صلة وثيقة بالسلطة في سوريا وآل الأسد.

“دخلت إلى سوريا وخرجت منها بشكل قانوني، في مناطق سيطرة السلطات السورية ولم تواجه أي مشكلة”، هكذا برر مجلس الدولة الهولندي هذا العام، رفض طلب اللجوء الذي قدمته مواطنة سورية، غادرت سوريا عام 2013 نحو مصر، ثم دخلت سوريا وخرجت منها ” 6 مرات على الأقل”، قبل أن تصل إلى هولندا وتطلب اللجوء عام 2021.

يزرع هكذا خبر، مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، الرعب في قلوب اللاجئين السوريين، خصوصاً غير المُجنسين بجنسيات الدول المُضيفة، لأننا حالياً أمام فئة تزور سوريا سراً أو علانية، الشأن الذي يرفد فرضية “سوريا مكان آمن” التي ينادي بها النظام  السوري وبعض الأحزاب الأوروبية.

على النقيض، تتصدر عبارات “سوريا مكان ليس بآمن” و”لا ينبغي التطبيع مع الأسد” البيانات والتصريحات في كل مرة تدّعي جهة أو حزب أوروبي  أن “الحرب انتهت”، ولا مانع من عودة اللاجئين، وتكثر التأكيدات والأرقام أن بطش النظام لم يتوقف.

 شهدت آخر محاكمة في فرنسا أدين فيها “علي مملوك، وجميل حسن، وعبد السلام محمود”، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تأكيداً من قبل المحامية الفرنسيّة كليمانس بيكتارك، محامية الأطراف المدنية في القضية، أن هذا الحكم “تاريخي” و”رسالة إلى قادة فرنسا والقادة الأوروبيين مفادها أنه لا ينبغي تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد مهما كان الثمن”.

العودة إلى سوريا يروج لها النظام أيضاً، فوزير الخارجية السوري فيصل المقداد، أكد أن “أسباب مغادرة سوريا اقتصادية وبسبب العقوبات والإرهاب”، ليضيف في تصريح غريب أن “اللجوء مسألة فيها عبء، لكن سوريا تريد لكل أبنائها اللاجئين أن يعودوا إلى وطنهم، ليكون هذا العبء على الوطن وليس على الآخرين!”.

هذا الترحيب باللاجئين في “حضن الوطن” يترافق مع صكوك المصالحة وتسوية الوضع، ومراسيم “العفو العام” و”إلغاء الخدمة العسكرية الاحتياطية لمن تجاوزوا الـ40″، مما خلق نوعاً من الأمل لدى الكثيريين بزيارة أوطانهم، حنيناً وشوقاً أو لتصريف الأعمال.

يخلق العائدون شعوراً لدى الكثير من المهجّرين أنهم طعنوا، فالعودة ترسيخ لـ”فشل الثورة”، يضاف إلى ذلك أن العودة نفسها  ذات تبعات سياسية تمس العاجزين عن العودة، فإعلان سوريا “بلداً آمناً”، يهدد حق اللجوء لدى الكثيرين، ويترجم بما حصل في الدنمارك التي أعلنت عام 2023 أن “هناك بعض المناطق الآمنة في سوريا”، مما يهدد الأشخاص القادمين من هناك ويحرمهم حق اللجوء، ناهيك بسحبها عام 2022 وضعية اللاجئ وتصاريح إقامة من 94 سورياً، بعد إعلان “دمشق والمنطقة المحيطة بها كمناطق آمنة”.

“الزيارات” التي يقوم بها بعض المجنسين أو غير المجنسين، تصب في  استراتيجية النظام القائمة على المصالحات وتسوية الوضع واستقبال السياح الأجانب المؤثرين، ويتجلى أثرها السياسي في موقف الدول الأوروبية التي تريد الحد من الهجرات واللجوء، ويلخصها تصريح وزير الداخلية الألماني هايكو ماس عام 2019، الذي قال: “إن قام أحدهم؛ لاجئ سوري، بزيارة سوريا بصورة متكررة لقضاء الإجازة، لا يستطيع الادعاء بأنه مطلوب في سوريا، وعلينا أن نسحب منه إقامة اللاجئ”، هذا التصريح ليس من فراغ، بل تكرر هذا العام في طلب أمام الحكومة، فالكثيرون يزورون سوريا وهم  لاجئون، والطريق مكشوف للجميع، زيارة لبنان كلاجئ ألماني، ثم دخول سوريا كسوري.

“العودة” عبر الشاشة وسؤال “ما العمل؟”

“العودة إلى سوريا” لا تقتصر على البعد الجغرافي، هناك عودة فنية عبر الشاشة، تدخّل فيها المال الإماراتي والقطري والسعودي، لخلق مساحة من “اللعب المشترك” بين ممثلين معارضين وآخرين؛ هم ليسوا فقط مؤيدين، بل على صلة وثيقة بالسلطة في سوريا وآل الأسد.

هذه المساحة ليست محايدة، افتتحت منذ عام 2018 مع افتتاح السفارة الإماراتية في دمشق، ودخلتها السعودية عبر “شاهد” والمسلسلات المقتبسة من التركية، وقطر عبر ذراعها الإنتاجي. نحن أمام شاشات، تدفع المشاهد إلى النظر في التوجه السياسي لمن يقومون باللعب، كون اللعب، ليس ببريء من السياسية أبداً.

إشكالية هذا “اللعب الفني” أنه يعيد تقديم متخيل أو احتمالات عن “الحلّ” الذي يرفضه الكثيرون لتجاهله العدالة، ويلخص الموقف منه بعبارة الممثل السوري فارس الحلو: “أرفض المشاركة في أيّ عمل يوجد فيه فنانون سوريون قبّلوا الحذاء العسكري بطريقة أو بأخرى…” أي بصورة ما، هل نتشاتم خارج الشاشة، ثم نلعب معاً وننسى الدماء ما إن يصرخ المخرج “أكشن”؟.

يتهم من يرصدون هذه الألعاب المشتركة أو “العمل” بأنهم ثوريون راديكاليون، أو ما زالوا متمسكين بعقلية “قوائم العار” التي تعود إلى عام 2011، تلك التي قسمت الساحة الفنية بين “معارض” و”موال”، ورفعت جداراً  أخلاقياً وسياسياً، بين أولئك الذين لا اعتراض لديهم  على سردية النظام السوري حول الثورة، وبين أولئك الذي رفضوها ودانوا القاتل بوضوح.

رفض البعض هذا “اللعب المشترك” نابع من احتجاج على الحكايات والإنتاجات التي تُرسخ سردية النظام أو تحابيها، وترى في شكل العلاقات بين السلطة- الوسط الفني، شأناً لا بد من التعايش معه، الموقف الذي يلخصه الممثل السوري باسم ياخور، صديق ماهر الأسد، بقوله: “ما حدا بقرب على شخص الرئيس…ما حدا بقرب بالنسبة إلي على مسائل إلها علاقة بالجيش السوري”.

هذه “العودة” عبر الشاشة والكوادر المشتركة، لها تبريرات كثيرة، كالحاجة إلى العمل، والرغبة في الجمهور، وغيرها من الأسئلة المتشعّبة، كــ”كيف سمح النظام السوري لممثلين بعضهم له صور مع بشار الأسد، بأن يقفوا أمام شاتمي سلالة الأسد بأكملها؟”، أسئلة تعتبر امتداداً للعودة الواقعية، وترسيخاً لسذاجة أن مساحة اللعب والعمل محايدة ولا سياسة فيها!.

جهود العودة الفنية يتبناها ممثلو النظام أنفسهم، وتقودها وجوه فنية بارزة، كدريد لحام  الذي صرّح: “أي فنان سوري يريد أن يرجع، وهو خائف، بلاقيه على الحدود، وبنزل بسيارتي بجيبه، ويا منروح على البيت يا منروح على السجن”.

 الأمر ذاته مع المغني علي الديك، الذي عاد بالمغني الشاب الشامي إلى دمشق بالسيارة، بعد 12 عاماً أمضاها الشامي مهجراً، وهنا بالطبع لا نشير إلى موقف الشامي السياسي، بل إلى سطوة الممثلين وقدرتهم على “تمرير” أمور من يريد الدخول بدون مشاكل.

تبقى هذه “العودة الفنية” محط تساؤلات، خصوصاً أنها تعكس طبقية اللاجئين، بين “المشاهير” وأصدقائهم وأصحاب العلاقات التي لم تهددها الثورة بشدة، مروراً بالذين استفادوا من “الخطر في سوريا” بشكل عام ليصبحوا “مغتربين”، و أولئك الأقل حظاً، كالمُعادين قسراً، الذين تجاوز عدد المعتقلين منهم الـ4500 هذا العام.

هل الممثل السوري أمام السؤال اللينيني الشهير “ما العمل؟”، بعض نجوم التلفزيون هبطوا إلى الاحتجاجات، انتقلوا من مساحة اللعب المتخيلة نحو مساحة الفاعلية السياسية، مما جعل متابعتهم امتداداً لمتابعة المسلسل، وهذا يبيح لنا طرح سؤال، كيف يمكن “التمثيل” أمام باسم ياخور؟ كيف يمكن لعب شخصية أمام ممثل لا يمكن إنكار تفانيه في دعم النظام السوري؟، أو كيف يمكن لمن تطالب بالمعتقلين في سوريا الوقوف أمام أيمن زيدان في الكادر نفسه؟، يبدو أن أول مكان للإجابة يبدأ بسؤال فتش عن المال الخليجي، والخشبة “المحايدة” التي يحاول خلقها!.

نطرح السؤال عن العلاقة بين الممثل والسلطة في سوريا من دون تبرئة أحد، قبل الثورة القطاع الفني كان على تماس دائم مع القطاع الأمني، والسلطة حاضرة عبر علاقات شخصية مع الممثلين والفاعلين الفنيين، لكن بعد لحظة الثورة وأكثر من 13 عاماً هل هي الرغبة في العمل؟ أم أن حال النظام تغير  في سطوته على عالم الفن؟، يمكن القول إن مقالب “اليوتوبرز” فضحت سطوة المخابرات، وشتائم الممثلين لبعضهم بعضاً، وسطوة بعضهم لدى رجال الأمن مع فرادة كل ممثل واختلاف مستوى شهرته.

فخ اليمين الأوروبي ومصادرة حق السوريين ب”الـنجاة” 

النظام السوري واع للمتغيرات السياسية ويقودها، ومحاولات “الصفح”  تكشفها أحاديث شخصية متفرقة، إذ اكتشف البعض بعد “تفييش” أسمائهم في سوريا،  أن لا تهم عليهم!، ترافق ذلك مع مراسيم بالعفو عن الجرائم التي يصدرها بشار الأسد، كمرسوم  العفو رقم 24 عام 2022، الذي تزامن مع لقاء جمع رئيس بعثة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في سوريا ووزير الداخلية محمد الرحمون، بهدف “تقديم جميع التسهيلات اللازمة لعودة المهجرين”.

 لكن هكذا استراتيجية حقيقة كانت أم مصطنعة، تصادر من السوريين حقهم بأنهم “ناجون”، ونقصد أولئك المهجرين في بقاع العالم ومدنه ومخيماته، فخطورة هذا “الصفح” من قبل النظام أنه  ذو أثر على اللاجئين في أوروبا،  يختزل بوصفهم”كاذبين” في ما يخص الخطر في سوريا، وعدم قدرتهم على العودة إليها.

هذا الكذب يرتبط بمفهوم “اللاجئ الكاذب” الذي  أشار إليه الأنثربولوجي الفرنسي ميشيل أجير في مقابلة معه نشرت في كتاب “من هم اللاجئون” عام  2017، وفيه أشار إلى اللاجئين السوريين الذين “حصلوا على حق اللجوء بمجرد حملهم جواز سفر سوري”، موجهاً النقد لمفهوم أسطورة “اللاجئ الكاذب”، التي يصفها بـ”عُرف” يطغى على إدارات الهجرة في فرنسا ( وفي كندا أيضاً) أي بصورة ما، كل لاجئ كاذب حتى يثبت العكس، لكن، من يغذي هذه الأسطورة/ الكذب؟.

 قرار اللجوء يعتمد على قدرة طالبه إثبات “الخطر الواقع على حياته” عبر “حكاية مكتوبة مدعومة بالأدلّة”، ثم  مقابلة شخصية، من يجري المقابلة ليس فقط موظف حكومي، بل شخص يشاهد الأخبار، ويرى مرشحة اليسار الفلسطينية – الفرنسية ريما حسن تزور سوريا، ويرى زيارة برلمانيين فرنسيين يمنيين إلى سوريا أيضاً، ويسمع أخباراً عن زيارة لاجئين سوريين بلدهم، مما يجعل “إثبات الخطر” أصعب وأشد إشكالية ويغذي “الأسطورة”.

هذه السذاجة التي تتحرك بين تجاهل تصرفات النظام والرغبة الشخصية في العودة، تشكل محركاً لليمين المتطرف المعادي للاجئين، الذي يلخص موقفه بالتالي: إن كان “نظامهم” قد أصدر عفواً، وبعضهم ذهب إلى سوريا لقضاء إجازة الصيف، أين الخطر على حياتهم؟ ولم علينا أن نصدق الباقين؟.

هذه الاستراتيجية من قبل النظام لا تصادر فقط حق السوريين بأنهم ناجون وضحايا، بل أيضاً تحولهم من وجهة نظر سوريي الداخل، من لاجئين ومهجّرين إلى “مغتربين” و”مقيمين في أوروبا”، ويمتلكون قوة اقتصادية تنقذ من هم في الداخل، وتضمن استمرار أكلهم وشربهم، وخروجهم عبر البحر لا يتجاوز سوى السعي نحو حياة أفضل لا الهروب من المقتلة!.

كسر خواطر المهجّرين

انتشرت شائعة مؤخراً مفادها أن الممثل السوري فارس الحلو، عاد إلى سوريا، وعلى الرغم من ثقة الكثيرين بموقف الحلو ورأيه، لكن الشائعة انتشرت كالنار في الهشيم، ومن يعرفون فارس نفوا الأمر، وفي حديث سريع مع الحلو في اليوم ذاته لانتشار الشائعة، أنهاه بعبارة: “أكثر ما أثار غضبي من الشائعة هو أنها كسرت خواطر الكثيرين، الذين اتصلوا بي بأصوات قلقة، وبعضهم عتب قائلاً: حتى أنت يا فارس صالحت النظام”.

كلمات الحلو، تفسر الظاهرة، خصوصاً مفهوم “كسر الخواطر”، الذي يحمل عتباً على تغيير مواقف البعض أو اختلاف حكاياتهم، ويحمل قيمة أخلاقية يمكن مساءلتها لدى العائدين، لكنه في الوقت ذاته ممتلئ بالعاطفة. 

فشل أطياف المعارضة في إيجاد “حلّ” ترك الكثيرين مُعلقين بأسماء رافقت الثورة وانتصرت لها، وبدّت “الموقف” على “العمل” و”الحنين” و”الشوق إلى الأهل“، ليظهر العتب هنا حاملاً مرارة احتمال “المصالحة” وما تحمله من هزيمة.

 في الوقت ذاته، الحق بـ”العودة” للجميع ولا يمكن مصادرته، سواء كان العائد شخصاً “عادياً” أو ممثلاً قرر “العودة إلى الشاشة”، لكن “كسر الخاطر” أيضاً حق المحرومين من العودة، وإن كان الإقرار بفشل الثورة يعني أن يعود المهجرون، فـ”حقّ السوريين في اللّا عودة” (الشعار الواقعي حد المأساة بحسب تعبير منذر مصري) لا ينمّ عن “تشابه مع النظام”، بل إن “الوطن” ما زال معسكر اعتقال كبيراً، وينتمي إليه من هم أشجع من غيرهم، ممن قرروا قطع حدود المصنع نحو دمشق، وهناك أيضاً من هم أكثر براغماتية من غيرهم، قرروا “اللعب” مع أصدقاء السلطة إرضاء للجمهور.