fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

العودة إلى شقرا: “الحكي مش متل الشوفة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تكن شقرا في الليلة الشتوية التي زرتها بها إلا “قرية أشباح”، كنت العابر الوحيد لشوارعها، حيث جبال الركام، هي أول ما تقع عليه العين. كان الركام “جريمة” أكبر من أن يسترها ليل، تنام فيه أجساد قتلى “شقرا” الذين قاربوا الستين تحت الحديد والحطام، والذين، لم “يرفع” سوى جثامين 15 منهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

المثل العامي الشائع عن التباين الكبير بين ما نسمع وما نرى، فرضته عودتي إلى بلدتي شقرا بعد سبعين يوماً من النزوح، وبدت “شقرا” غير ما  كنا سمعناه، وغير ما كان يصلنا من توثيق عن ركامها وحطامها.

 مع مباشرة هدنة الستين يوماً التي أعقبت الحرب في جنوب لبنان، دخلت قريتي في ليلة شتويّة، ظناً مني أن ذلك قد يخفف من قساوة مشاهد الدمار التي سبق وتحشدت فيها.

  لكن الليل ليس ستراً كما يشاع، فجبال الركام هي أول ما تقع عليه العين، التي تتبع ركاماً متواصلاً، فضح ستر الليل. كان ليل شقرا غير ضنين بركامها، ولعل الأخير كان “جريمة” أكبر من أن يسترها ليل.

 إنها السابعة مساءً، وهذا وقت ستبقى ذاكرتي تتداوله كأسوأ المواقيت، هو موعد أفضى إلى مشهدية توارت في الذاكرة من يفاعتها حتى راهنها كوهمٍ، إذ طالما بدت “مدينة الأشباح” في الوعي الطفولي مجرد سردية خوف يرويها كبارنا، ثم عايشناها مراهقين  كأفلام في السينما والتلفزيون، لكنها ظلت وهماً بدّد حقيقته أننا لم نعش في مدينة أشباح.

لم تكن شقرا في تلك الليلة إلا “قرية أشباح”، كانت مخيفة، والود المكنون لها كان يصنع فائض التحدي لدخولها.

تلك الليلة لم يضاهِ سوادها وحلكتها ليل، وكانت مدعاة لمشاعر شتى هي مزيج من الخوف والرهبة، ولكن أيضاً الرغبة في معايشة مفتعلة لوقائع عايشتها شقرا، وعايشها من بقي فيها خلال الحرب. البلدة أمست خرساء، والأمان المنبعث من صمتها يفضي إلى منازلة نفسية، مع شعور واقعي بأنك العائد الوحيد.

 لم يكن هناك ما يشي بأن آخرين ارتكبوا معي هذه المنازلة، فأنا، كنت العابر الوحيد لشوارعها. وهي منذ تراءت لي، تراءت من عتمة كان ضوء السيارة الخافت وحده مؤشراً الى الحياة. أنا الآن في النهار. إنه اليوم التالي. عائدون، وبتواتر، راحوا يفدون إليها. بدا ذلك توطئة لعودة جمعية لم يلبث أن بدد أفيخاي أدرعي أمانها، كما أمان العائدين.

إذ نشر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي خريطة حمراء للقرى التي لا تزال على خط التوتر الأمني، وشقرا منها، ما أفضى إلى مناخ من الخوف استدعى “تقشفاً” في العودة، والأهم خوف من عادوا وعاينوا صنائع الحرب. منتصف النهار، شطب الكثيرون خريطة أدرعي من مخيلتهم، وكسروا معها حاجز الخوف الذي بدّده مخزون عاطفي عميق صنع فيهم هذا التوق العميم الى التماس أهلهم ومنازلهم.

 المفارقة، أن فائض التوق الى اللقاء تأتى في كثير منه فوق ركام المنازل، أو قربها، وركام “شقرا” المتشظّي على أحيائها كلها، كانت له مع شارعها الرئيسي، وركيزة اقتصادها، مشهدية أخرى.

 “أدخلوا البيوت من أبوابها” هي هذه المشهدية الحزينة، والمرعبة في آن، التي صنعتها إسرائيل، وعلى الأرجح كمدخل متعمد لجرائمها، وهو المشهد الذي انسحب على غالبية شريط القرى المقابلة لإسرائيل، أو القريبة منه.

  الشارع الرئيسي في “شقرا” هو بابها، وهو المكان الأكثر جذباً لساكنيها وقاصديها. ومشهدية الموت والركام، فيه وعليه، التي ارتكبتها إسرائيل، تتبدى كمسح لذاكرة هؤلاء، وأيضاً كمفضٍ الى مشهد دموي يراد منه أن يسقط على وعي الكثيرين وأعينهم عن مآل الحرب معها.

 مثّل هذا الشارع بحيويته الاجتماعية والاقتصادية، ميداناً عن محاكاة إسرائيل للجريمة. فتبديد “الأمن الغذائي” تمثل بتدمير التعاونيات الكبرى التي توفر المواد الغذائية للمواطنين، والتي استدعت من العائدين توفيرها من أماكن النزوح، وهذا في أحسن الأحوال رتق غذائي آني لن يلبث أن يتبدى كأزمة تستدعي منهم توفيرها من أماكن بعيدة، وهو حالهم أيضاً مع تدمير محال الألبسة مع مباشرة فصل الشتاء.

  عودٌ على بدء إلى ليل “شقرا”، أنا في ثاني ليالي القهر، الآن أقدح ذاكرتي على وجع قريب، يتسرب أيضاً من بين الركام، فيضفي على المأساة معناها الأشد.

  ليلٌ جديد تنام فيه أجساد قتلى “شقرا” الذين قاربوا الستين، تحت الركام، وقد أتاح أول نهاراتها بعد الحرب “رفع” جثامين خمسة عشر منهم.

29.11.2024
زمن القراءة: 3 minutes

لم تكن شقرا في الليلة الشتوية التي زرتها بها إلا “قرية أشباح”، كنت العابر الوحيد لشوارعها، حيث جبال الركام، هي أول ما تقع عليه العين. كان الركام “جريمة” أكبر من أن يسترها ليل، تنام فيه أجساد قتلى “شقرا” الذين قاربوا الستين تحت الحديد والحطام، والذين، لم “يرفع” سوى جثامين 15 منهم.

المثل العامي الشائع عن التباين الكبير بين ما نسمع وما نرى، فرضته عودتي إلى بلدتي شقرا بعد سبعين يوماً من النزوح، وبدت “شقرا” غير ما  كنا سمعناه، وغير ما كان يصلنا من توثيق عن ركامها وحطامها.

 مع مباشرة هدنة الستين يوماً التي أعقبت الحرب في جنوب لبنان، دخلت قريتي في ليلة شتويّة، ظناً مني أن ذلك قد يخفف من قساوة مشاهد الدمار التي سبق وتحشدت فيها.

  لكن الليل ليس ستراً كما يشاع، فجبال الركام هي أول ما تقع عليه العين، التي تتبع ركاماً متواصلاً، فضح ستر الليل. كان ليل شقرا غير ضنين بركامها، ولعل الأخير كان “جريمة” أكبر من أن يسترها ليل.

 إنها السابعة مساءً، وهذا وقت ستبقى ذاكرتي تتداوله كأسوأ المواقيت، هو موعد أفضى إلى مشهدية توارت في الذاكرة من يفاعتها حتى راهنها كوهمٍ، إذ طالما بدت “مدينة الأشباح” في الوعي الطفولي مجرد سردية خوف يرويها كبارنا، ثم عايشناها مراهقين  كأفلام في السينما والتلفزيون، لكنها ظلت وهماً بدّد حقيقته أننا لم نعش في مدينة أشباح.

لم تكن شقرا في تلك الليلة إلا “قرية أشباح”، كانت مخيفة، والود المكنون لها كان يصنع فائض التحدي لدخولها.

تلك الليلة لم يضاهِ سوادها وحلكتها ليل، وكانت مدعاة لمشاعر شتى هي مزيج من الخوف والرهبة، ولكن أيضاً الرغبة في معايشة مفتعلة لوقائع عايشتها شقرا، وعايشها من بقي فيها خلال الحرب. البلدة أمست خرساء، والأمان المنبعث من صمتها يفضي إلى منازلة نفسية، مع شعور واقعي بأنك العائد الوحيد.

 لم يكن هناك ما يشي بأن آخرين ارتكبوا معي هذه المنازلة، فأنا، كنت العابر الوحيد لشوارعها. وهي منذ تراءت لي، تراءت من عتمة كان ضوء السيارة الخافت وحده مؤشراً الى الحياة. أنا الآن في النهار. إنه اليوم التالي. عائدون، وبتواتر، راحوا يفدون إليها. بدا ذلك توطئة لعودة جمعية لم يلبث أن بدد أفيخاي أدرعي أمانها، كما أمان العائدين.

إذ نشر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي خريطة حمراء للقرى التي لا تزال على خط التوتر الأمني، وشقرا منها، ما أفضى إلى مناخ من الخوف استدعى “تقشفاً” في العودة، والأهم خوف من عادوا وعاينوا صنائع الحرب. منتصف النهار، شطب الكثيرون خريطة أدرعي من مخيلتهم، وكسروا معها حاجز الخوف الذي بدّده مخزون عاطفي عميق صنع فيهم هذا التوق العميم الى التماس أهلهم ومنازلهم.

 المفارقة، أن فائض التوق الى اللقاء تأتى في كثير منه فوق ركام المنازل، أو قربها، وركام “شقرا” المتشظّي على أحيائها كلها، كانت له مع شارعها الرئيسي، وركيزة اقتصادها، مشهدية أخرى.

 “أدخلوا البيوت من أبوابها” هي هذه المشهدية الحزينة، والمرعبة في آن، التي صنعتها إسرائيل، وعلى الأرجح كمدخل متعمد لجرائمها، وهو المشهد الذي انسحب على غالبية شريط القرى المقابلة لإسرائيل، أو القريبة منه.

  الشارع الرئيسي في “شقرا” هو بابها، وهو المكان الأكثر جذباً لساكنيها وقاصديها. ومشهدية الموت والركام، فيه وعليه، التي ارتكبتها إسرائيل، تتبدى كمسح لذاكرة هؤلاء، وأيضاً كمفضٍ الى مشهد دموي يراد منه أن يسقط على وعي الكثيرين وأعينهم عن مآل الحرب معها.

 مثّل هذا الشارع بحيويته الاجتماعية والاقتصادية، ميداناً عن محاكاة إسرائيل للجريمة. فتبديد “الأمن الغذائي” تمثل بتدمير التعاونيات الكبرى التي توفر المواد الغذائية للمواطنين، والتي استدعت من العائدين توفيرها من أماكن النزوح، وهذا في أحسن الأحوال رتق غذائي آني لن يلبث أن يتبدى كأزمة تستدعي منهم توفيرها من أماكن بعيدة، وهو حالهم أيضاً مع تدمير محال الألبسة مع مباشرة فصل الشتاء.

  عودٌ على بدء إلى ليل “شقرا”، أنا في ثاني ليالي القهر، الآن أقدح ذاكرتي على وجع قريب، يتسرب أيضاً من بين الركام، فيضفي على المأساة معناها الأشد.

  ليلٌ جديد تنام فيه أجساد قتلى “شقرا” الذين قاربوا الستين، تحت الركام، وقد أتاح أول نهاراتها بعد الحرب “رفع” جثامين خمسة عشر منهم.