وقفت نبيلة حنان (28عاماً) على حافة صخرة متأملة مخيم الشهباء، بعدما قرر زوجها العودة إلى عفرين، تقول في حديثها لــ”درج” عبر الهاتف: “6 سنوات من العذاب والفقد وتعاسة الحياة في هذا المخيم، قرر زوجي أن نعود إلى عفرين، إلى منزلنا في قرية بُلبل كأفضل الحلول”.
نزحت نبيلة مع زوجها وولديها إلى مخيم الشهباء، عقب دخول قوات المعارضة السورية إلى عفرين، خلال عملية “غصن الزيتون” عام 2016. تكمل حديثها قائلةً “رجعنا إلى بيتنا، لم يتعرف عليه أولادي في البداية، كل شيء تغير، الواجهة، الحديقة، الأشجار كلها لم تعد موجودة، لا أعرف سبب عداء بعض المسلحين مع الأشجار وهذا القطع الجائر، استجمعت قواي ودخلت المنزل، وكأني به يُجهز من الصفر، تم نهب كل شيء، كل شي تبخر”.
وتختتم بقولها:”منزل تُرك لست سنوات، من دون أن يسأل عنه أحد، لا أستغرب إفراغه من محتواه، في ظل غياب أي حوكمة أو حماية لممتلكات الأهالي”.
تغيرات متسارعة عقّدت خيارات الأهالي
وبالتزامن مع العملية التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية مع “هيئة تحرير الشام” تحت اسم “ردع العداون”، أطلقت فصائل للمعارضة السورية عملية ما يُعرف بـ”فجر الحرية”، ويشارك في هذه الحملة ثلاثة فيالق، هي: الفيلق الأول، ومن بين أبرز الفصائل المشاركة فيه: “لواء الشمال”، و”اللواء 113″، “تجمع أحرار الشرقية”، “جيش الشرقية”، “اللواء 112″، “لواء محمد الفاتح”، “فيلق الشام”. والفيلق الثاني، وأبرز المشاركين فيه: “فرقة السلطان مراد”، و”فرقة الحمزة”، و”فرقة المعتصم”، إضافة إلى “جيش الإسلام”، و”فيلق الرحمن”، في حين يضم الفيلق الثالث: “الجبهة الشامية” و”لواء الإسلام” و”فيلق المجد”.
ووفقاً لمعلوماتهم، فإن الأهداف التي وقفت خلف هذه العملية المفاجئة، جاءت لإفشال مساعي “قسد-قوات سوريا الديمقراطية” في إنشاء ممر بين مدينة تل رفعت وشمال شرق سوريا، وإضعاف سيطرة “قسد” في تلك المناطق، وتمكنت تلك القوات من السيطرة على الشهباء والنواحي والبلدات التابعة لها، بخاصة تل رفعت، وقطعت الطريق الواصل بين حلب والرقة، وتسبب ذلك بمنع “قوات سوريا الديمقراطية” من إنشاء ممر يربط منبج مع تل رفعت، في حين تمكنت عملية “ردع العدوان” من السيطرة على حلب وإخراج القوات الحكومية منها.
لذلك، اضطرت “قوات سوريا الديمقراطية” للاتفاق مع تلك الفصائل على تسليم البلدة، مقابل خروجهم وضمان حرية قرار الأهالي النازحين باختيار المكان الأنسب لهم، سواء بالبقاء، أو بالعودة إلى عفرين، أو الخروج إلى شمال شرق سوريا. ووفقاً للإحصائيات المقدمة من جهات سياسية وحزبية نشطة في عفرين، فإن الغالبية العظمى من الأهالي فضلوا العودة إلى بيوتهم في عفرين، عوضاً عن رحلة نزوح ثانية.
“منزل تُرك لست سنوات، من دون أن يسأل عنه أحد، لا أستغرب إفراغه من محتواه، في ظل غياب أي حوكمة أو حماية لممتلكات الأهالي”.
من جهته هورو عثمان عضو اللجنة المركزية للحزب “الديمقراطي الكردستاني” – سوريا، قال عبر الهاتف لــ”درج” إنهم يومياً يتابعون حركة العودة عن كثب ويقدّمون كل ما يلزم لعودتهم، مُضيفاً “استمرت عودة الأهالي، من شهبا وما حولها، ومن حلب لأكثر من أسبوع. منذ 6 سنوات وهم لاجئون خارج بيوتهم، وعاشوا ظروفاً سيئة، استقبلناهم وهم يحملون مظاهر الفقر والحاجة، لا يملكون مركبات ولا وسائل نقل، على سحناتهم واضحة ملامح التعب والإرهاق ومشقة غربة السنين، غالبية العائدين هم من كبار السن والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة، العودة مرحبة، والمؤسف أنهم خرجوا بسبب الحرب، وعادوا بسبب الحرب، خلال 7 أيام بلغ عدد العائدين ما يفوق الـ1800 عائلة، مع وجود عشرات العوائل التي لم يتم تسجيلها بعد”، وحول نوعية الخدمات المقدمة لهم وحجمها.
أضاف عثمان: “اشتركت مؤسسة البارزاني الخيرية، والمجلس المحلي للمجلس الوطني الكردي وتنظيمات الحزب الديمقراطي الكردستاني السوري في عفرين، بتقديم ما يلزم من غرفة طوارئ وتوزيع أرقامها على الجميع، وإرسال مركبات وباصات إلى تل رفعت والشهباء وفافين ومناطق النزوح كلها هناك، لنقل من لا يملك وسيلة نقل إلى عفرين، وبعد وصولهم إلى عفرين نقوم بإيصالهم إلى قراهم وبيوتهم”. من جهتها أكدت مصادر ضمن “مؤسسة البارزاني الخيرية” تقديم ما يلزم من للعائدين من “أغذية وأغطية ومستلزمات الأطفال، والعيادة المتنقلة، وتوزيع الأهالي على منازلهم، أو أهاليهم”.
ريناس عبدو من أهالي قرية راجو ومن العائدين من مخيم تل رفعت، قال ل”درج”: “طوال الطريق كنت أفكر بنوعية الخيم التي سيتم تخصيصها لنا، وهل سأبقى مع عائلتي طوال حياتنا، نعيش في الخيام، لأتفاجأ أنه لا مخيم ولا خيم لنا نحن العائدين، بل عودة إلى بيوتنا، أو إقامة في منزل أحد الأقارب أو الأصدقاء، إلى حين إخراج النازحين المقيمين من منازلنا”.
وعن وضع منزله قال ريناس: “يسكنه عنصر في الفصائل المسلحة مع عائلته، طلبت مني زوجته أن أصبر عليهم إلى حين عودة الزوج من المعارك الدائرة حالياً في عموم سوريا، بالنسبة لي سأتريث لحين عودته، ولن أتنازل عن منزلي، استضافتنا خالتي في منزلها، لكن لا أخفيكم أن منزلي تحول إلى ما يُشبه الأنقاض؛ لغياب الاهتمام به”.
وتحدث ريناس عن رحلة العودة إلى منزله “خلال الرحلة التي استغرقت أكثر من 3 ساعات، وهي في الأحوال العادية لا تستغرق أكثر من ساعة، لكن وعورة الطريق، وانتظار المزيد من العوائل، وكمية الأمتعة ومستلزمات المنزل التي أرجعناها معنا، تسببت بالتأخير وإطالة الرحلة”.
ووفقاً لريناس فإن مشاعر الفوضى واللا فهم كانت تسيطر على غالبية من كانوا في الحافلة التي أقلتهم إلى عفرين “فكرت في رحلة النزوح الأولى، حين خرجنا بثيابنا من دون أن نعلم إلى أين نتجه، في حين نعود إلى بيتوتنا مع كل ما اشتريناه خلال السنوات الأخيرة، ونعلم أننا عائدون إلى بيوتنا، لكن التفكير بمستقبل الأبناء، والتعليم، والعمل، والأمن والخوف من الفصائل العسكرية، لا يفارق مخيلاتنا، مع ذلك كانت لحظة الوصول إلى مدخل عفرين، لحظة فارقة في حياتنا، صِحنا جميعاً بصوتٍ واحد، ودون أي ترتيب، عفرين ها نحن عائدون”.
العودة العكسية
لا أرقام دقيقة وإحصائيات لعدد النازحين السوريين إلى عفرين؛ بسبب تغير الأماكن أو الانتقال إلى مكان آخر، لكن بالعموم يوجد عشرات الآلاف منهم هناك، سواء كانوا مدنيين ظلمتهم الحرب ودمرت بيوتهم وممتلكاتهم، أو من الفصائل المسلحة التي تسيطر على المدينة.
وفي اتصال مع الناشط المدني أبو كردو (42 عاماً) أوضح لــ”درج” أن العودة “لحظة تاريخية في حياتنا؛ عودة الأهالي طال انتظارها، كنا نشعر بالخطر لقلة عددنا، اليوم نشعر بالأمان حين نشاهد أصدقاءنا، جيراننا، أهلنا وهم يعودون للعيش إلى جانبنا مُجدداً”، مضيفاً “أهلنا يعودون، والنازحون من تل رفعت والشهباء وحلب أيضاً يعودون إلى منازلهم، وهذا إنجاز عظيم، فمنازلنا تعود إلينا، وخطر التغيير الديمغرافي يزول، ونحن نشجعهم للعودة إلى مناطقهم وإعادة بنائها، مثل أهالي عفرين”. واكتفت مُنيفة الخالد من أهالي تل رفعت بالقول “لا حنية علينا مثل جدران منزلنا ومسقط رأسنا، ولو كانت جدراناً متهالكة”.
متابعة الانتهاكات
وحول إمكانية استمرار الانتهاكات ضد المدنيين، وهذه المرة بحق العائدين، قال هورو: “نقوم بحملة مشتركة بين الأطراف السياسية والأهالي، وتم تشكيل 8 لجان لتسجيل المعلومات حول أي انتهاك، مع استمرار توزيع المساعدات بناء على تلك السجلات”، ولم يخفِ هورو وجود منغصات ومشاكل منها “حملات شيطنة العودة، والتشكيك بضمان الحياة الكريمة، والتغيير الديمغرافي الذي يحتاج عودة الأهالي لمنعه، وكل منزل يثبت وجود نازحين فيه، وعاد مالكه الأصلي، نحن موعودون بتسليمه خلال أيام”. وهو ما أكده الناشط أبو كردو “توجد صعوبة في إخراج من سكن بيوتنا، لكننا مصرون على ذلك، ولن نضع خياماً لأهالي عفرين كي يعيشوا فيها، بينما يسكن الآخرون ديارنا”.
أما زهير محمد (49 عاماً) مدرس لغة إنكليزية فقال لــ”درج”: “سنواجه مشكلة في التعليم، يوجد شباب في المراحل الإعدادية والثانوية، كيف سيتم دمجهم في التعليم، وهم متلقون التعليم باللغة الكردية، وأساساً مهاراتهم ضعيفة، كيف سيتم دمجهم مع طلبة المدارس والمناهج باللغة العربية والتركية والكردية، هذه واحدة من أعقد القضايا التي ستواجهنا”.
يعود الأكاديمي فريد سعدون (51 عاماً) بذاكراته إلى الوراء، ويدمجها مع إصراره على موقفه القديم والحالي، ويقول لــ”درج”: “قبل خروجهم من عفرين طالبت ببقائهم في مناطقهم، ثم بقيت على موقفي بعودتهم إلى بيوتهم وقراهم، واليوم أقولها علناً، لا لنزوح أهالي عفرين إلى الطبقة والرقة والحسكة، هذا تهجير ثانٍ، سيتم إبعادهم فيه آلاف الكيلومترات من بيوتهم. الحل العقلي والمنطقي والوطني والكردي هو العودة إلى عفرين ولا شيء آخر”.
إقرأوا أيضاً: