في بلادهم يلجأون إلى الـ”أوف شور” لكي يهربوا من الضرائب، أما في بلادنا فكثيرون يذهبون إلى الجنات الضريبية لكي يخبئوا الثروات، ذاك أنهم راكموها في ظل أنظمة الفساد، فتراوحت مصادرها بين أن تكون رشاوى أو سرقات مباشرة أقدم عليها أفراد من الطبقة السياسية.
لا ضرائب في بلادنا لكي يهرب منها الأغنياء، لا بل أن جلهم سبق أن هرب بثروته من بلاد الضرائب إلى بلاد الفساد، ثم عاد وأرسل هذه الثروة إلى مناطق الـ”أوف شور”، وبإمكان هذه الدورة أن تتم عبر عملية غسل للأموال لطالما سمعنا بها في محيط الكثير من الأعمال التجارية الغامضة التي تشهدها بلادنا.
الفشل والفساد والارتهان إلى الخارج، هي السمات الأبرز لمعظم الأنظمة في المشرق العربي ومغربه. الاستبداد لم يعد يشتغل من دون هذه السمات. جيل الحكام الورثة وجد نفسه أمام فرص الاقتصاد الجديد الذي لم يكن الآباء المستبدون يكترثون له كثيراً. الخصخصة لم تكن تستهوي جيل الضباط الذين استولوا على السلطة. أبناؤهم وورثتهم لا يشعرون أن القطاع العام هو ركيزة سلطتهم، ويشعرون بأن عائلاتهم أحق به. قطاع الاتصالات ولد مع جيل الورثة فتقاسموه، وكان مصدراً رئيساً لثرواتهم. الثروات التي تحلق في الجنات الضريبية، وفي المصارف السويسرية. ولبنان هنا ليس بعيداً من هذا المسار، على رغم أن المورثين ليسوا ضباطاً، فالخصخصة لاحت مع رفيق الحريري وبرعاية ضابط سوري، وقطاع الاتصالات ولد في ذلك الزمن، وصولاً إلى الانتقال من رعاية الضابط السوري إلى دولة الظل التي يقودها “حزب الله”.
الغرب ليس بريئاً من هذه الموبقات. الشفافية التي يشترطها على أنشطة رجال الأعمال في بلاده، لا يشترطها على أصحاب الأعمال ورؤوس الأموال من سياسيينا ورجال أعمالنا. حين ضغطت الحكومة الأميركية على المصارف السويسرية لترفع السرية المصرفية عن حسابات مواطنين أميركيين في المصارف السويسرية لاعتقادها بأنهم يتهربون من دفع الضرائب، أو أنهم متورطون بتبييض أموال، استجابت الحكومة السويسرية. لكن هذه الأخيرة لم تقبل (حتى الآن)، ومن المرجح أنها لن تقبل في المستقبل، رفع السرية المصرفية عن حسابات سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال لبنانيين يُشَك بمصادر ثرواتهم، على رغم أن المدعي العام السويسري أعلن ارتيابه بمصادر ثرواتهم!
لكن التمييز هذا لا يقتصر على جانبه المصرفي أو القانوني، فبموازاته ثمة تمييز سياسي يبلغ حدوداً “ثقافية”، ففرنسا تقبل بأن تفاوض وأن تعوِم طبقة سياسية فاسدة في لبنان، بذريعة “الواقعية”. نسمع من مسؤوليها كلاماً مذهلاً عن فساد سياسيين لبنانيين، وبعد أيام قليلة نشاهد المسؤولين الفرنسيين أنفسهم يفاوضون السياسيين الذين سبق أن عرضوا أمامنا وقائع عن فسادهم وعن ثرواتهم.
سعد الحريري يعيش في مرحلة أفول سياسي و”أوف شوري”!
يردنا هذا الواقع إلى “الجنات الضريبية”. إنها فسحة إخفاء الثروات بالنسبة إلى سياسيينا، بينما هي “تهرب قانوني من الضرائب” لأصحاب الأعمال في الغرب. لكنها أيضاً مؤشر يجب رصده لوجهة رأس المال. فهذا الأخير في بلادنا ليس ثروة تم تحصيلها في نظام اقتصادي طبيعي. الثروة هنا شديدة الارتباط بشبهة الفساد. هذا ليس كلاماً شعبوياً، إنما هو اختبار مرير كابدناه في لبنان في العقود الثلاثة الفائتة، وتكثف في السنوات الثلاث الفائتة. فهل طبيعي أن لدى المزود الأكبر في تسريبات باندورا، أي شركة trident trust، في جزر العذراء البريطانية 346 عميلاً لبنانياً بينما لا يتعدى عدد عملائها البريطانيين الـ150 عميلاً؟! وهل طبيعي أن يحل العراق في المرتبة الثالثة في لائحة عملائها بعد لبنان وبريطانيا؟ إنه الفساد ولا شيء غير الفساد، وهو الفساد المرعي بنظام الـ”أوف شور” البريطاني والغربي.
أن يعلن المصرف المركزي السويسري أن ودائع اللبنانيين في المصارف السويسرية زادت خلال مرحلة الـ”كابيتال كونترول” غير القانوني الذي مارسته المصارف اللبنانية على ودائع زبائنها بنحو ثلاثة مليارات دولار أميركي، فهذا لا يحتمل إلا تفسيراً واحداً، وهو أن المصارف اللبنانية أتاحت لزبائنها الكبار إجراء تحويلات إلى حساباتهم في سويسرا في الوقت الذي منعت المودع الصغير والمتوسط من الوصول إلى ودائعه. هذه سرقة موصوفة، إلا أن سويسرا التي أعلن مصرفها المركزي عن زيادة الودائع، لا تقبل بأن تقول لنا من هم أصحاب الحسابات التي جرى تحويل الثلاثة مليارات دولار إليها. السرية المصرفية مقدسة في سويسرا، على رغم شبهة الفساد الكبيرة، وهي غير مقدسة في اللحظة التي طلبت فيها الحكومة الأميركية رفعها عن حسابات الأميركيين!
أن لا يلاحظ النظام المالي العالمي تعاظم الـ”أوف شور” اللبناني في لحظة الانهيار الهائل الذي يعيشه هذا البلد، فهذا لعمري مؤشر تواطؤ لا يسعنا، نحن الذين توهمنا أن هذا النظام يليق بنا كما يليق بأهله، إلا أن نسعى به إلى مزيدٍ من “وثائق باندورا”، هذه الوثائق التي تمثل لحظة اعتراض وارتياب بنظام الـ”أوف شور”. وليس أمامنا أيضاً سوى أن نشد على أيدي زملائنا في “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”، عساهم يواصلون ما بدأوه في “وثائق بنما” و”وثائق بارادايز” واليوم “وثائق باندورا”.
وهنا لا بد من ملاحظة مؤشر لبناني مواز لمؤشر الـ”أوف شور” وهو أن ظهور أسماء السياسيين والمصرفيين في الجنات الضريبية جاء مترافقاً مع صعودهم سلم تصدر الشأن العام، أو هبوطهم عنه. أليس غريباً ألا نعثر لسعد الحريري على اسم في هذه الوثائق؟ يبدو أن الرجل في مرحلة أفول سياسي و”أوف شوري”. الذهول نفسه أصبنا به عندما عثرنا على اسمه متصدراً لائحة المتعرضين للتنصت من قبل السعودية والإمارات في تسريبات “بيغاسوس”. الرجل يعيش أياماً غريبة عجيبة!
إقرأوا أيضاً: