“لم تكن ظروفنا عظيمة قبل الأزمة، لكنها لم تكن بهذا السوء، منذ اشتداد الأزمة الاقتصادية في لبنان أعيش وعائلتي أسوأ أيامنا… أولادي نسوا طعم اللحوم… كيف لي أن أشتريها ومدخولنا الشهري لا يتجاوز المليون ليرة؟”، تقول زينب شارحةً مأساة تعيشها يومياً حين يسألها أحد أطفالها عن موعد أكل “الفرّوج”.
زينب (اسم مستعار) هي ربة منزل وأم لثلاثة أطفال وزوجة لرجلٍ عاطلٍ من العمل. “زوجي كان سائق سيارة أجرة، لكن مع ارتفاع سعر الوقود وتراجع حالته الصحية، بات يعمل نزولاً عند طلب زبائنه، أي نحو مرتين أسبوعياً، وذلك بالكاد يؤمّن لنا قوتنا اليومي”، تقول زينب.

تشرح زينب لـ”درج” يومياتها، من الكهرباء التي لا تصل إلى بيتها سوى ساعتين يومياً، واشتراك مولد الكهرباء الذي اضطرت إلى فصله بعدما فاقت الفاتورة الشهرية قدرة العائلة المالية، وصولاً إلى انقطاع المياه التي حرمت أفراد العائلة حتى من الاستحمام اليومي.
كل ما عرفناه من تفاصيل عن حياة زينب المأساوية كان عبر مكالمات متفرقة عبر الهاتف. حصل ذلك بينما تتّصل السيدة على شبكة الانترنت الخاصة بجيرانها خلسةً، فزينب لم تعد قادرة على دفع تكاليف الإنترنت للتواصل مع العالم حتى.
في بلد ينهشه الانهيار الاقتصادي وترتفع فيه الأسعار بشكل جنوني وبوتيرةٍ سريعة، وجدت زينب نفسها تجتهد بإعداد الطعام. تستيقظ باكراً لتصنع العجين، لتنتقل بعدها إلى إعداد الخبز. تتفنّن زينب بحشي أقراص العجائن بخلطات “السليق” و”الأريشة” و”الحرّ”، وتعتمد حشوة السكر أحياناً، كنوعٍ من الحلويات. أما اللحوم، فقد أُقصيت قسراً عن مائدة زينب، باستثناء أعياد الميلاد والمناسبات، حينها فقط تعد زينب أطفالها بدجاجة مشويّة.
مجاعة في الأفق
قصة زينب تتقاطع مع قصص لبنانيين كثر تبدّلت ظروف معيشتهم مع تقلّص الطبقة الوسطى في لبنان، وتوسع دائرة الفقر والفقر المدقع. وفقاً لتقرير “اليونيسيف” حول ثقل الأزمة الاقتصادية على اللبنانيين، فإن 77 في المئة من العائلات لا تملك المال الكافي لشراء المستلزمات الغذائية الأساسية، و66 في المئة من العائلات أصبحت تقترض المال لشراء الطعام.
التقرير الأخير يحوي أرقاماً كثيرة قد تبدو لوهلة خيالية لولا أن تفاصيله تتجسّد في حياة زينب اليومية، وحيوات لبنانيين آخرين “نسوا طعم اللحوم”. وجاء في التقرير أن 30 في المئة من الأطفال في لبنان أصبحوا يذهبون إلى الفراش وبطونهم فارغة، بعدما لجأت عائلاتهم إلى تخفيض الوجبات الغذائية اليومية.

تالياً، يمكن القول إن بوادر المجاعة بدأت تلوح في الأفق بلبنان، ويتبين ذلك في تراجع استهلاك اللحوم بنسبة تفوق الـ85 في المئة بسبب الارتفاع الكبير في أسعارها. إذ ارتفعت أسعار اللحوم حتى نهاية العام 2021 بنسبة تراوحت بين 440 و530 في المئة بحسب “مرصد الجامعة الأميركية للأزمة“. كما سجّل سعر الدجاج ارتفاعاً تراوح بين 328 و425 في المئة. إذ يصل سعر كيلو لحم إلى 300 ألف ليرة، وهو ما يشكّل حوالى نصف الحدّ الأدنى للأجور، الذي بقي ثابتاً على 675 ألف ليرة (حوالى 28 دولاراً)، على رغم خسارة الليرة اللبنانية 90 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي.
المفارقة أن اللحوم ليست العنصر الغذائي الوحيد الذي غاب عن موائد جزء يسير من اللبنانيين، إذ طاولت الأزمة الأجبان والفاكهة والخضار أيضاً. هذا الأمر دفع لبنانيين إلى البحث عن أطباق تقليدية منخفضة الكلفة نسبياً، فذهب البعض إلى قطف “السليقة” حيناً، وهي الأعشاب البريّة التي تنمو في الحقول عشوائياً، أو إلى الابتكار بإعداد البقوليات أحياناً، كأسلوب من أساليب البقاء على قيد الحياة.
تطبيق الزراعة المستدامة جزء أساسي من الحلول…
أزمة الغذاء خلقت وجهاً جديداً للاعدالة بين اللبنانيين. إذ باتت اللحوم والأجبان والفاكهة حكراً على موائد الأغنياء فقط.

إحدى المشكلات تكمن بضعف الاعتماد على الزراعة المستدامة في لبنان. إذ إن المزارعين يعتمدون في معظم زراعاتهم على الأسمدة والمواد المصنّعة، علماً أن أسعارها تضاعفت عشرات المرات. على هذا الصعيد، حذّرت منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” من ارتفاع أسعار الأعلاف والأسمدة عالمياً، مرجّحة أن تشهد الأسعار ارتفاعات كبيرة لدرجة قد تجعل من الصعب على المزارعين حول العالم وتجار المواشي تحمّل هذه التكاليف. وعلى رغم أن تحذيرات المنظمة لا تزال في إطار التخمينات، إلا أن الواقع في لبنان كان أسرع في ترجمة هذه التحذيرات إلى حقيقة. إذ ارتفعت قيمة “مؤشر الفتوش“، وهو مؤشر يطلقه “مرصد الأزمة” مع بداية شهر رمضان من كل عام، بقيمة 65 في المئة عن العام الماضي. كما بلغت كلفة الإفطار الأساسي لعائلة من 5 أشخاص حوالى 5.5 مليون ليرة لبنانية شهرياً، أي حوالى 8 أضعاف الحدّ الأدنى للأجور.
تُعيد المهندسة الزراعية بيان أبو مرعي جزءاً من أزمة الخلل الغذائي لدى عائلات لبنانية إلى ارتفاع الأسعار، وهو مرتبط بشكل مباشر بقلة تطبيق الزراعة المستدامة في لبنان. والزراعة المستدامة هي نظام يضم أنشطة تتعلق بإنتاج الحيوان وزراعة النباتات معاً في مكان محدّد سيستمر على المدى الطويل عبر الاستفادة بأقصى درجة ممكنة من المصادر المتجددة عبر الاستخدام المستدام لها.

“معظم المزارعين لا يطبقون قواعد الزراعة المستدامة لأنهم يرغبون بتحقيق الربح الأكبر بوقت أقل، علماً أن نظام الزراعة المستدامة يحتاج 5 سنوات كأدنى حدّ”، تقول بيان.
تشرح أبو مرعي العلاقة الوثيقة بين ارتفاع أسعار الأسمدة والمواد الزراعية وبين الحاجة إلى اعتماد الزراعة المستدامة، مشيرةً إلى مجموعة من الحلول. أولاً، بإمكان المزارعين استبدال الأسمدة بزراعة “الباقية والشعير” مع بذور المحاصيل، وهو ما لا يتطلّب رياً مكثفاً، إذ تعمل الباقية على تهوئة التربة وحفظ الحرارة. كما يمكن استبدال السماد المصنّع ببقايا أوراق الأشجار وشجر “الزنزلخت”.
أبو هيثم هو أحد المزارعين القلائل الذين لا يعتمدون على الأسمدة المُصنّعة بزراعته. يقول لـ”درج” إنه يفضّل الاعتماد على المواد العضوية لأنه لا يُصدّر للسوق، فإنتاجه لا يتعدّى الاكتفاء الذاتي له ولأسرته. هذا عدا شحّ المياه في منطقة عكار، حيث يسكن أبو هيثم، الامر الذي يُعتبر عائقاً أمام الزراعات المعتمدة على الأسمدة، لذا يعتمد على زراعات “بعليّة” كالزيتون والعنب واللوز، التي لا تحتاج إلى ري مستمر.

على عكس أبو هيثم، يعتمد العم حسين على الأسمدة في معظم زراعاته، وذلك لأنه يُصدّر محصوله إلى سوقٍ كبير، لا سيما التفاح. “أعلم أن المواد العضوية خيار أفضل، لكنني مُجبر على استخدام الأسمدة كي أؤمن متطلبات السوق… إذا استخدمت المواد العضوية سأحصل على ربع محصولي، هذا عدا أن سعر المنتج العضوي أضعاف سعر الأول، والطلب عليه أقل بكثير”، يقول حسين.
من جهة أخرى، سلّطت أبو مرعي الضوء على أهمية توعية المزارع، في ظلّ غياب الدعم المادي والمعنوي من التعاونيات الزراعية في لبنان. “على المزراع الاعتماد على الدورة الزراعية. هناك الكثير من الرزنامات الزراعية التي يمكنه اتباعها لتخفيف استخدام الأسمدة”، تقول أبو مرعي. ثم تُضيف، “بإمكان المزارع الدمج بين محصولين، وهو ما نسميه Co – Agriculture، بإمكانه مثلاً زرع الكوسا والذرة. الكوسا تنبت على الأرض، فيما تنبت الذرة فوقها، كما أن لكل واحدة احتياجات مختلفة من الأرض، فبذلك ستدعم كل نبتة الأخرى، وبإمكان المزارع حينها الاستغناء عن الأسمدة”. ينطبق ذلك أيضاً على زراعة الفجل، إذ له رائحة لاذعة، تعمل بمثابة قاتل للحشرات الضارة. تلك الحلول قد تخفف من كلفة الإنتاج الزراعي، وبالتالي انخفاض سعره في السوق، إذ إن ارتفاع الأسعار شمل أيضاً الزراعات المحلية، وبالتالي فإن حلولاً بسيطة من هذا النوع قد تضمن حق الطبقة الوسطى والفقيرة بالغذاء المتوازن والصحي في لبنان.
تم إعداد هذا التحقيق ضمن مبادرة MediaLab Environment، مشروع للوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام CFI
إقرأوا أيضاً: