fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

الفيدرالية… مخرج لأزمة لبنان وسوريا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل الفيدرالية، أو تعزيز قوّة الكانتونات في سوريا ولبنان، التي تأخذ تلقائياً شكلاً مذهبياً وطائفياً، قد تقف ديمومة “الدم الخفيف”، أو تدفع المجتمع نحو حرب شاملة بمواجهة ما بين الكانتونات نفسها؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عاد مفهوم الفيدرالية إلى ساحة النقاش والرأي العام في المشرق العربي، بخاصةً وسط التحوّلات الكبيرة التي حصلت في لبنان وسوريا في الأشهر الأخيرة، وبشكل خاصّ، المجزرة في الساحل السوري بحقّ مدنيين من الطائفة العلوية في 7 آذار/ مارس الماضي. 

في لبنان، النقاش الحادّ حول مستقبل “حزب الله” وسلاحه، الذي يترافق مع التباين المجتمعي والطائفي في مواكبة الإبادة في غزة والحرب على لبنان والمنطقة، أنتج انقساماً كبيراً ذا ترجمة مناطقية وهوّياتية. في سوريا، الحرب الأهلية السورية، التي بدأت بحرب بشار الأسد على شعبه، كرّست النزاع حول قوّة الأكثريات والأقلّيات المتناقضة، الذي تصاعد بعد سقوط الأسد، وصعود تيار إسلام سياسي غامض وتسلّطي في دمشق.

في سوريا، نظراً للتقاسم الجغرافي ما بين أعراق ومجموعات إثنيّة ولغوية مختلفة، وبسبب العنف القوي الراهن ما بين أقطاب طائفية واجهت المجازر والهجرة والخطف والتعذيب، تبدو الفيدرالية حقيقة على أرض الواقع. يوجد من يدفع نحو مقاومة التقسيم العدائي، ولكن هناك اعترافاً ضمنياً بأن النظام الاتّحادي، بأشكال مختلفة، قد يكون أحد الحلول التي قد تمهّد للسلام الداخلي المستدام.

ولكن في لبنان، لم نشهد حرباً أهلية بأي شكل من الأشكال منذ ٣٥ سنة، حتى لو ظهرت تشنّجات جدّية ما بين الطوائف المتمثّلة بقوى حزبية. لم نشهد مجازر جماعية ذات طابع طائفي، ولو ترافق الانقسام السياسي مع عنف داخلي، بشكل خاصّ الاغتيالات والاضطرابات الأمنية. هذا الالتباس حول مجتمع لم يدخل الحرب، ولو أنه يبقى دائماً على حافتها، قد يفسّر سبب هذا النقاش حول الفيدرالية: هل الفيدرالية، أو تعزيز قوّة الكانتونات، التي تأخذ تلقائياً شكلاً مذهبياً وطائفياً، قد تقف ديمومة “الدم الخفيف”، أو تدفع المجتمع نحو حرب شاملة بمواجهة ما بين الكانتونات نفسها؟

المفاهيم المغلوطة 

عند الحديث عن الفيدرالية في لبنان، غالباً ما تتبادر إلى الأذهان فكرة النظام الطائفي، إذ إن الفهم السطحي لمفهوم الفيدرالية يربطها مباشرة بالتقسيم الناتج عن الحرب الأهلية، والصراعات السياسية والانقسامات الحادّة في البلاد. وبالتالي، فإن التفسير الأول الذي يخطر في بال المواطن اللبناني هو الفيدرالية الطائفية، رغم أن هذا المصطلح لا يبدو حاضراً في الأدبيات السياسية التي تناولت أو دعمت الفيدرالية كفكرة لتعزيز النظام الاتّحادي. 

اليوم، في سياق النقاش حول مدى ملاءمة الفيدرالية للخصوصية اللبنانية، يبرز السؤال الأساسي: هل يمكن للفيدرالية أن تشكّل حلاً لمشكلة الفساد المستشري في الدولة؟ فالمسألة لا تكمن فقط في تقسيم لبنان إلى ولايات أو مناطق صغيرة ضمن نظام فيدرالي، تكون بيروت فيه العاصمة المركزية، بل في هوّية الأشخاص الذين سيحكمون تلك الولايات ومشروعهم السياسي. فإذا بقيت السلطة بيد الفاعلين أنفسهم المنتمين إلى الدولة العميقة، فإن الفرق الوحيد سيكون انتقالهم من التحكّم عبر مجلس النواب في بيروت، إلى إدارة مناطق أو “كونتونات” ذات طابع طائفي أو مناطقي، ما قد يمنحهم سلطة أكبر في استغلال موارد الطوائف والمناطق التي يسيطرون عليها. 

وبناءً عليه، قبل البحث في الفيدرالية كخيار سياسي، ينبغي طرح تساؤل أعمق: هل يمكن بناء دولة فعلية خارج إطار الحكم الطائفي؟ للأسف، من الصعب تقديم إجابة إيجابية في ظلّ الظروف الراهنة، خاصّة بعد سنوات من الحرب، وترسّخ نفوذ “حزب الله” الذي أعاد تشكيل المشهد السياسي وفق مصالحه، ما جعل العودة إلى النظام الطائفي خياراً مبرراً على الأقلّ لبعض الأحزاب اليمينية في البلاد. 

في المقابل، تبقى الفئة التي توصف بـ”الطائفة التاسعة عشرة”، وهي فئة العلمانيين الذين يدعون إلى المواطنة عوضاً عن الانتماء الطائفي، الفئة الأكثر تهميشاً في النظام الحالي. ومع ذلك، يبقى التساؤل قائماً: هل يمكن لنظام جديد أن ينجح في لبنان في ظلّ استمرار هذه الذهنية السياسية؟ الواقع يشير إلى أن أي حلّ لا ينطلق من تغيير جذري في العقليات السياسية والمجتمعية، سيبقى محكوماً بالفشل.

الفيدرالية بين الاحتمالات الواقعية والهواجس

“حزب الله” هو الواقع الأول في الساحة السياسية اليوم، وليس فقط واقعاً أمنياً وعسكرياً، بل واقع مجتمعي حيوي ذو جذور متينة، رغم الاضطرابات والأزمات الكبيرة التي تُواجه التنظيم. بالإضافة إلى أن الصدام الدوري المحتمل ما بين “حزب الله” وإسرائيل هو الواقع الثاني، نظراً لهوس إسرائيل الأمني من جهة، وحاجة “حزب الله” السياسية إلى التطرّق لوعوده العقائدية أمام جزء من جمهوره من جهة أخرى. الردّ الطائفي على “حزب الله” هو الواقع الثالث، وذلك أولاً بسبب إرث العنف السياسي والاغتيالات والانقلابات المتتالية على العملية الديمقراطية في حقبات مختلفة، وثانياً بسبب الضعف الموضوعي للحركة التقدّمية والعلمانية، وثالثاً بسبب الحرب المجتمعية التي شنّتها أحزاب الطوائف على هذه الحركة منذ سنة ٢٠١١ حتى اليوم.

هذه الوقائع كلّها، وعلى رأسها قرار فتح “جبهة الإسناد” في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فرضت “القوقعة” القبلية التنظيمية والطائفية والسياسية على الساحة السياسية اللبنانية، بالإضافة إلى القانون الانتخابي من حيث تقسيم الدوائر وتشكيل اللوائح، الذي يشجّع هذه القوقعة. نظراً للاستحقاق الانتخابي النيابي السنة المقبلة، قد يستفيد المرشّح من طرح برنامج سياسي وتقني يعزّز “الذات” وينقض “الآخر”: شيعياً، التمسّك ب”المقاومة”. مسيحياً، التمسّك بـ”الفدرالية” بصبغة هوّياتية وطائفية مبهمة. درزياً، حماية “الطائفة”. سنياً، استعادة “كرامة” الطائفة و”تثبيت ستاتيكو اجتماعي- سياسي” محافظ.

لبنان أمام أمر واقع تقسيمي من حيث السردية التاريخية والسياسية للجماعات المتنازعة، وعلينا، كعلمانيين وتقدّميين التعامل معه بواقعية، الصيغة اللامركزية للحكم ما زالت مبهمة، ومن هنا من المفيد طرح بعض الهواجس المبدئية العملية لإدارة النقاش الحالي:

أولاً: الحذر من طرح اتّحادي بصيغة طائفية تحريضية، قد لا يبني الجسور بين المناطق والجماعات المتنازعة.

ثانياً: الحذر من طرح اتّحادي يكرّس “الملشنة” اللادولتية والاستبدادية “الصغرى” بالتعاطي مع الكونتونات، بخاصة في ظلّ هيمنة منظومة مافيوية كرّست مفاعيل السلطة المركزية لصالحها. السلطة قد تكرّس الفيدرالية بالاتّجاه نفسه.

ثالثاً: الحذر من إسقاط الحالة السورية، التي تتضمّن اختلافات إثنيّة وثقافية خاصّة قائمة على توزيع جغرافي واسع، على حالة لبنانية تتمتّع بمساحة جغرافية صغيرة جداً، ومتمركزة حول مدن تتمتّع بتنوّع ثقافي كبير.

وأخيراً: الحذر من دفن أو حتى تقليص دور بيروت، كمدينة لديها القدرة على رفع نموذج مُدني كوزموبوليتاني عابر للثقافات والجغرافيا، ضرب هذه التجربة لصالح تجربة أخرى؛ قد توزّع هذه المهمّة المستحيلة على طوائف، قد يعني ضرب إحدى ضمانات الصيغة اللبنانية القائمة.

تحدّيات اللا مركزية في لبنان: السياسة والأمن كعائق أساسي

إلى جانب الحديث عن الفيدرالية، يبرز مفهوم آخر يفرض نفسه بقوّة في النقاش اللبناني حول أنظمة الحكم، وهو نظام اللا مركزية. يبدو أن اللا مركزية تمتلك حظوظاً أكبر لتكون نموذجاً للحكم في لبنان، نظراً لطبيعة النظام الإداري القائم، ولوجود أكثر من ألف بلدية منتشرة في مختلف المناطق اللبنانية.

بعض هذه البلديات يمكن وصفها بأنها تعمل وفق نظام لا مركزي، لكنها لا تنفصل عن الدولة، بل تعتمد على فرق عمل متكاملة تتيح لها إدارة شؤون المواطنين داخل القرى بسرعة وكفاءة، من دون الحاجة إلى انتقالهم إلى العاصمة لإنجاز معاملاتهم.

إضافة إلى ذلك، فإن اللا مركزية ليست مجرّد فكرة نظرية، بل هي واقع قائم على عدّة مستويات قانونية وإدارية. وربما يرتبط أهم جوانبها اليوم بملف إعادة الإعمار، حيث تلعب البلديات دوراً أساسياً في هذه العملية.

هذه الأسئلة تعكس مدى أهمية اللا مركزية في تمكين البلديات وتعزيز دورها في إدارة الشؤون المحلّية، ما يجعلها خياراً أكثر واقعية من الاتّحادية في السياق اللبناني.

رغم أن اللا مركزية تُطرح كأحد الحلول الممكنة لنظام الحكم في لبنان، يواجه تطبيقها تحدّيات ومعوّقات عديدة، قد تحول دون تحقيقها على مستوى وطني شامل، وهنا، تلعب السياسة دوراً محورياً في تعطيل هذا المسار.

فعلى سبيل المثال، في قرى جبل عامل، التي تقع تحت نفوذ “حزب الله” بشكل أو بآخر، قد لا تكون اللا مركزية خياراً متاحاً بالكامل. فعند سؤال البلديات هناك عمّا إذا كانت تتمتّع بصلاحيات لا مركزية حقيقية، أو إذا كانت تمتلك شرطة بلدية تابعة لها بشكل حصري، قد يكون الجواب بنعم أو لا، لكن العامل الأمني يظل خاضعاً لقوى الأمر الواقع، وتحديداً لـ”حزب الله”.

هذا الواقع يعكس التحدّي الجوهري في لبنان: لا يمكن الحديث عن هيكلية النظام بمعزل عن الواقع الأمني، الذي يسبق أي اعتبارات اقتصادية، اجتماعية، أو حتى سياسية. فلا يمكن بناء نظام اتّحادي أو لا مركزي طالما أن الملفّ الأمني غير خاضع لتوافق وطني واضح.

وهذا التحدّي يمثّل العقبة الأبرز أمام تشكيل كيان الدولة بمعناه الحقيقي، أو على الأقلّ، دولة تقترب من تلك التي درّستها كتب التربية الوطنية في المدارس اللبنانية.

05.04.2025
زمن القراءة: 6 minutes

هل الفيدرالية، أو تعزيز قوّة الكانتونات في سوريا ولبنان، التي تأخذ تلقائياً شكلاً مذهبياً وطائفياً، قد تقف ديمومة “الدم الخفيف”، أو تدفع المجتمع نحو حرب شاملة بمواجهة ما بين الكانتونات نفسها؟

عاد مفهوم الفيدرالية إلى ساحة النقاش والرأي العام في المشرق العربي، بخاصةً وسط التحوّلات الكبيرة التي حصلت في لبنان وسوريا في الأشهر الأخيرة، وبشكل خاصّ، المجزرة في الساحل السوري بحقّ مدنيين من الطائفة العلوية في 7 آذار/ مارس الماضي. 

في لبنان، النقاش الحادّ حول مستقبل “حزب الله” وسلاحه، الذي يترافق مع التباين المجتمعي والطائفي في مواكبة الإبادة في غزة والحرب على لبنان والمنطقة، أنتج انقساماً كبيراً ذا ترجمة مناطقية وهوّياتية. في سوريا، الحرب الأهلية السورية، التي بدأت بحرب بشار الأسد على شعبه، كرّست النزاع حول قوّة الأكثريات والأقلّيات المتناقضة، الذي تصاعد بعد سقوط الأسد، وصعود تيار إسلام سياسي غامض وتسلّطي في دمشق.

في سوريا، نظراً للتقاسم الجغرافي ما بين أعراق ومجموعات إثنيّة ولغوية مختلفة، وبسبب العنف القوي الراهن ما بين أقطاب طائفية واجهت المجازر والهجرة والخطف والتعذيب، تبدو الفيدرالية حقيقة على أرض الواقع. يوجد من يدفع نحو مقاومة التقسيم العدائي، ولكن هناك اعترافاً ضمنياً بأن النظام الاتّحادي، بأشكال مختلفة، قد يكون أحد الحلول التي قد تمهّد للسلام الداخلي المستدام.

ولكن في لبنان، لم نشهد حرباً أهلية بأي شكل من الأشكال منذ ٣٥ سنة، حتى لو ظهرت تشنّجات جدّية ما بين الطوائف المتمثّلة بقوى حزبية. لم نشهد مجازر جماعية ذات طابع طائفي، ولو ترافق الانقسام السياسي مع عنف داخلي، بشكل خاصّ الاغتيالات والاضطرابات الأمنية. هذا الالتباس حول مجتمع لم يدخل الحرب، ولو أنه يبقى دائماً على حافتها، قد يفسّر سبب هذا النقاش حول الفيدرالية: هل الفيدرالية، أو تعزيز قوّة الكانتونات، التي تأخذ تلقائياً شكلاً مذهبياً وطائفياً، قد تقف ديمومة “الدم الخفيف”، أو تدفع المجتمع نحو حرب شاملة بمواجهة ما بين الكانتونات نفسها؟

المفاهيم المغلوطة 

عند الحديث عن الفيدرالية في لبنان، غالباً ما تتبادر إلى الأذهان فكرة النظام الطائفي، إذ إن الفهم السطحي لمفهوم الفيدرالية يربطها مباشرة بالتقسيم الناتج عن الحرب الأهلية، والصراعات السياسية والانقسامات الحادّة في البلاد. وبالتالي، فإن التفسير الأول الذي يخطر في بال المواطن اللبناني هو الفيدرالية الطائفية، رغم أن هذا المصطلح لا يبدو حاضراً في الأدبيات السياسية التي تناولت أو دعمت الفيدرالية كفكرة لتعزيز النظام الاتّحادي. 

اليوم، في سياق النقاش حول مدى ملاءمة الفيدرالية للخصوصية اللبنانية، يبرز السؤال الأساسي: هل يمكن للفيدرالية أن تشكّل حلاً لمشكلة الفساد المستشري في الدولة؟ فالمسألة لا تكمن فقط في تقسيم لبنان إلى ولايات أو مناطق صغيرة ضمن نظام فيدرالي، تكون بيروت فيه العاصمة المركزية، بل في هوّية الأشخاص الذين سيحكمون تلك الولايات ومشروعهم السياسي. فإذا بقيت السلطة بيد الفاعلين أنفسهم المنتمين إلى الدولة العميقة، فإن الفرق الوحيد سيكون انتقالهم من التحكّم عبر مجلس النواب في بيروت، إلى إدارة مناطق أو “كونتونات” ذات طابع طائفي أو مناطقي، ما قد يمنحهم سلطة أكبر في استغلال موارد الطوائف والمناطق التي يسيطرون عليها. 

وبناءً عليه، قبل البحث في الفيدرالية كخيار سياسي، ينبغي طرح تساؤل أعمق: هل يمكن بناء دولة فعلية خارج إطار الحكم الطائفي؟ للأسف، من الصعب تقديم إجابة إيجابية في ظلّ الظروف الراهنة، خاصّة بعد سنوات من الحرب، وترسّخ نفوذ “حزب الله” الذي أعاد تشكيل المشهد السياسي وفق مصالحه، ما جعل العودة إلى النظام الطائفي خياراً مبرراً على الأقلّ لبعض الأحزاب اليمينية في البلاد. 

في المقابل، تبقى الفئة التي توصف بـ”الطائفة التاسعة عشرة”، وهي فئة العلمانيين الذين يدعون إلى المواطنة عوضاً عن الانتماء الطائفي، الفئة الأكثر تهميشاً في النظام الحالي. ومع ذلك، يبقى التساؤل قائماً: هل يمكن لنظام جديد أن ينجح في لبنان في ظلّ استمرار هذه الذهنية السياسية؟ الواقع يشير إلى أن أي حلّ لا ينطلق من تغيير جذري في العقليات السياسية والمجتمعية، سيبقى محكوماً بالفشل.

الفيدرالية بين الاحتمالات الواقعية والهواجس

“حزب الله” هو الواقع الأول في الساحة السياسية اليوم، وليس فقط واقعاً أمنياً وعسكرياً، بل واقع مجتمعي حيوي ذو جذور متينة، رغم الاضطرابات والأزمات الكبيرة التي تُواجه التنظيم. بالإضافة إلى أن الصدام الدوري المحتمل ما بين “حزب الله” وإسرائيل هو الواقع الثاني، نظراً لهوس إسرائيل الأمني من جهة، وحاجة “حزب الله” السياسية إلى التطرّق لوعوده العقائدية أمام جزء من جمهوره من جهة أخرى. الردّ الطائفي على “حزب الله” هو الواقع الثالث، وذلك أولاً بسبب إرث العنف السياسي والاغتيالات والانقلابات المتتالية على العملية الديمقراطية في حقبات مختلفة، وثانياً بسبب الضعف الموضوعي للحركة التقدّمية والعلمانية، وثالثاً بسبب الحرب المجتمعية التي شنّتها أحزاب الطوائف على هذه الحركة منذ سنة ٢٠١١ حتى اليوم.

هذه الوقائع كلّها، وعلى رأسها قرار فتح “جبهة الإسناد” في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فرضت “القوقعة” القبلية التنظيمية والطائفية والسياسية على الساحة السياسية اللبنانية، بالإضافة إلى القانون الانتخابي من حيث تقسيم الدوائر وتشكيل اللوائح، الذي يشجّع هذه القوقعة. نظراً للاستحقاق الانتخابي النيابي السنة المقبلة، قد يستفيد المرشّح من طرح برنامج سياسي وتقني يعزّز “الذات” وينقض “الآخر”: شيعياً، التمسّك ب”المقاومة”. مسيحياً، التمسّك بـ”الفدرالية” بصبغة هوّياتية وطائفية مبهمة. درزياً، حماية “الطائفة”. سنياً، استعادة “كرامة” الطائفة و”تثبيت ستاتيكو اجتماعي- سياسي” محافظ.

لبنان أمام أمر واقع تقسيمي من حيث السردية التاريخية والسياسية للجماعات المتنازعة، وعلينا، كعلمانيين وتقدّميين التعامل معه بواقعية، الصيغة اللامركزية للحكم ما زالت مبهمة، ومن هنا من المفيد طرح بعض الهواجس المبدئية العملية لإدارة النقاش الحالي:

أولاً: الحذر من طرح اتّحادي بصيغة طائفية تحريضية، قد لا يبني الجسور بين المناطق والجماعات المتنازعة.

ثانياً: الحذر من طرح اتّحادي يكرّس “الملشنة” اللادولتية والاستبدادية “الصغرى” بالتعاطي مع الكونتونات، بخاصة في ظلّ هيمنة منظومة مافيوية كرّست مفاعيل السلطة المركزية لصالحها. السلطة قد تكرّس الفيدرالية بالاتّجاه نفسه.

ثالثاً: الحذر من إسقاط الحالة السورية، التي تتضمّن اختلافات إثنيّة وثقافية خاصّة قائمة على توزيع جغرافي واسع، على حالة لبنانية تتمتّع بمساحة جغرافية صغيرة جداً، ومتمركزة حول مدن تتمتّع بتنوّع ثقافي كبير.

وأخيراً: الحذر من دفن أو حتى تقليص دور بيروت، كمدينة لديها القدرة على رفع نموذج مُدني كوزموبوليتاني عابر للثقافات والجغرافيا، ضرب هذه التجربة لصالح تجربة أخرى؛ قد توزّع هذه المهمّة المستحيلة على طوائف، قد يعني ضرب إحدى ضمانات الصيغة اللبنانية القائمة.

تحدّيات اللا مركزية في لبنان: السياسة والأمن كعائق أساسي

إلى جانب الحديث عن الفيدرالية، يبرز مفهوم آخر يفرض نفسه بقوّة في النقاش اللبناني حول أنظمة الحكم، وهو نظام اللا مركزية. يبدو أن اللا مركزية تمتلك حظوظاً أكبر لتكون نموذجاً للحكم في لبنان، نظراً لطبيعة النظام الإداري القائم، ولوجود أكثر من ألف بلدية منتشرة في مختلف المناطق اللبنانية.

بعض هذه البلديات يمكن وصفها بأنها تعمل وفق نظام لا مركزي، لكنها لا تنفصل عن الدولة، بل تعتمد على فرق عمل متكاملة تتيح لها إدارة شؤون المواطنين داخل القرى بسرعة وكفاءة، من دون الحاجة إلى انتقالهم إلى العاصمة لإنجاز معاملاتهم.

إضافة إلى ذلك، فإن اللا مركزية ليست مجرّد فكرة نظرية، بل هي واقع قائم على عدّة مستويات قانونية وإدارية. وربما يرتبط أهم جوانبها اليوم بملف إعادة الإعمار، حيث تلعب البلديات دوراً أساسياً في هذه العملية.

هذه الأسئلة تعكس مدى أهمية اللا مركزية في تمكين البلديات وتعزيز دورها في إدارة الشؤون المحلّية، ما يجعلها خياراً أكثر واقعية من الاتّحادية في السياق اللبناني.

رغم أن اللا مركزية تُطرح كأحد الحلول الممكنة لنظام الحكم في لبنان، يواجه تطبيقها تحدّيات ومعوّقات عديدة، قد تحول دون تحقيقها على مستوى وطني شامل، وهنا، تلعب السياسة دوراً محورياً في تعطيل هذا المسار.

فعلى سبيل المثال، في قرى جبل عامل، التي تقع تحت نفوذ “حزب الله” بشكل أو بآخر، قد لا تكون اللا مركزية خياراً متاحاً بالكامل. فعند سؤال البلديات هناك عمّا إذا كانت تتمتّع بصلاحيات لا مركزية حقيقية، أو إذا كانت تمتلك شرطة بلدية تابعة لها بشكل حصري، قد يكون الجواب بنعم أو لا، لكن العامل الأمني يظل خاضعاً لقوى الأمر الواقع، وتحديداً لـ”حزب الله”.

هذا الواقع يعكس التحدّي الجوهري في لبنان: لا يمكن الحديث عن هيكلية النظام بمعزل عن الواقع الأمني، الذي يسبق أي اعتبارات اقتصادية، اجتماعية، أو حتى سياسية. فلا يمكن بناء نظام اتّحادي أو لا مركزي طالما أن الملفّ الأمني غير خاضع لتوافق وطني واضح.

وهذا التحدّي يمثّل العقبة الأبرز أمام تشكيل كيان الدولة بمعناه الحقيقي، أو على الأقلّ، دولة تقترب من تلك التي درّستها كتب التربية الوطنية في المدارس اللبنانية.

05.04.2025
زمن القراءة: 6 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية