على مدى 12 عاماً، اعتاد اللبنانيّون تجديد مجلس الأمن الروتيني لولاية القوّات الدوليّة الموقّتة، أو “اليونيفيل”، العاملة في جنوب لبنان. أمّا التجديد الثالث العاشر، وإن مرّ كما سابقاته من قرارات التجديد، فلا يبدو أنّ المحادثات المُحيطة به خالية من الضغوط، على رغم سعي الديبلوماسيّة اللبنانيّة إلى تذليل العقبات المتراكمة، قُبيل جلسة التجديد التي من المتوقّع أن تُعقد مساء الخميس، من خلال سلسلة من الأنشطة والاجتماعات المكثّفة، ليس آخرها زيارة رئيس الحكومة اللّبنانية سعد الحريري إلى واشنطن ولقاءه وزير الخارجيّة الأميركيّة مايك بومبيو.
كما أن جلسة التجديد تترافق مع الاضطراب الذي تشهده خطوط التماس على الحدود اللبنانية – الإسرائيلة وسقوط طائرتي الاستطلاع فوق الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، وتوعد “حزب الله” بالرد، إضافة إلى موقف الحكومة اللبنانية التي قالت إن للبنان الحق بالدفاع عن حدوده.
أميركيّاً، سبق أن لوّحت الإدارة الأميركيّة بورقة تخفيض مساهماتها المادّية لقوّات “اليونيفيل”، وذلك في معرض سياسة الضغط التي تمارسها على الحكومة اللبنانيّة لحضّها على إجراء المزيد من الخطوات للحدّ من نفوذ “حزب الله” من جهة، والكفّ، من جهة أخرى، عن التعامل مع “اليونيفيل” كقوّة فولكلوريّة لا حول لها ولا قوّة على نزع السلاح من الجانب اللبناني في المناطق الواقعة ضمن نطاق عمليّاتها، ولا على الوصول إلى المخازن المشكوك بأمرها، ولا حتّى على دفع السلطات اللبنانيّة إلى إجراء تحقيقات جديّة في خروقات القرارات الدوليّة من الجانب اللّبناني. وتذكر واشنطن، بحسب مطلعين على المحادثات في الأمم المتحدة، بحوادث الاعتداء على عناصر “اليونيفل”، ومنعهم من تأدية المهمات المُوكلة إليهم بموجب القرار 1701 الذي يدعو عمليّاً إلى تجميد العمليّات القتاليّة في لبنان، ويطلب من طَرفي النزاع سحب قوّاتهما واحترام الخطّ الأزرق، إضافة إلى الحدّ من وصول الأسلحة إلى جهاتٍ غير رسميّة. فبالنسبة إلى الولايات المتّحدة، ما زال “حزب الله” يتلقّى الأسلحة ويصنعها ويخزّنها وينشط وينمو غيرَ آبهٍ بالقرار الدولي، ولا بانتشار أكثر من 10 آلاف جندي من 41 دولة مشارِكة في “اليونيفيل”. بل أكثر من ذلك، تنعّم الحزب، بحسب واشنطن، بكل ما أوتي من وقتٍ وتجاهُل، ليحفر أنفاقه بتأنّ على مدى أعوام تحت أنظار الأمم المتّحدة. وقد اعترفت “اليونيفيل” في تقريرها الرسمي الأخير بأنّ ثلاثة من الأنفاق الستّة التي كشفها الإسرائيليّون مطلع عام 2019 عَبَرت بالفعل الخطّ الأزرق الفاصل بين الجهتَين، والذي رسمته الأمم المتّحدة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000.
إسرائيليّاً، الموقف متوقّع، والتحذير من أن إسرائيل ضاقت ذرعاً بـ”تنمّر” الحزب وإيران ليس بالأمر الجديد، وقد عكسته مواقف غربيّة كثيرة غير مرتاحة للتأييد اللبناني الرسمي والمطلق لعمليّات “حزب الله” في لبنان، وإدانة الدولة اللبنانيّة خرق إسرائيل أجواءها، من دون أن توجّه أي إدانة تُحسب لـ”حزب الله” على انتهاكاته المتتالية للقرار 1701، والتي يتمثّل أبرزها في “تلقّيه الأسلحة عبر الحدود وتخزينها في مواقع تابعة لمنطقة عمليّات اليونيفيل”، بحسب ما أوضحت مصادر في الأمم المتحدة لـ”درج”.
إلى ذلك، شكّلت رسائل إسرائيل إلى الأمم المتّحدة صدى لما دعت إليه الولايات المتّحدة من تقليصٍ للموارد المخصصّة للقوّات الدوليّة، المادّية منها والبشريّة. فمن وجهة نظر إسرائيليّة، لم يعد الوضع الراهن مقبولاً، وقد آن الأوان لتخفيض حجم قوات “اليونيفيل”، تفادياً لاستخدام “حزب الله” هذا العدد الهائل من الجنود الدوليّين دروعاً بشريّة، ومن ثمّ الشروع في اتّهام إسرائيل بقتلهم أو استهدافهم خلال أي نزاعٍ جديد سيندلع في الجنوب.
إسرائيليّاً، الموقف متوقّع، والتحذير من أن إسرائيل ضاقت ذرعاً بـ”تنمّر” الحزب وإيران ليس بالأمر الجديد، وقد عكسته مواقف غربيّة كثيرة غير مرتاحة للتأييد اللبناني الرسمي والمطلق لعمليّات “حزب الله” في لبنان
لكنّ المميّز من بين المواقف المتوالية، تصعيدٌ لغوي لافت لأساف أوريون، العميد الإسرائيلي المتقاعد الذي شارك في الآليّة الثلاثيّة بين “اليونيفيل” والجيشَين اللبناني والإسرائيلي بين عامَي 2006 و2008، عبر وصفه سياسة القوّات الدوليّة الموقّتة في لبنان بـ”سياسة عدم الجدوى المُتعمَّدة”. والمقصود بهذا التعبير نهجُ “المماطلة والتعتيم واللّفلفة” الذي تتّبعه “اليونيفيل”، عن قصد، من أجل إبقاء الأمور على حالها، وتحت السيطرة، ما يعزّز، من وجهة نظر إسرائيليّة، قوّةَ “حزب الله” وإفلاته من المحاسبة واستمراره في التمتّع بالاحتضان الشعبيّ والرسميّ. ولا يتوقّف تصعيد أوريون اللّغوي عند هذا الحدّ، إنّما يتجاوز مأزق جمود “اليونيفيل” ليشمل ما سمّاه “تواطؤ الجيش اللبناني” مع “حزب الله”، ويصل في هذا الإطار إلى دعوته الصريحة إلى فرض عقوباتٍ مستهدفة على عددٍ من ضبّاط الجيش اللبناني ووحداته، وإدراجها، كما “الحرس الثوري الإيراني”، على لائحة الإرهاب، “حالها حال حليفها حزب الله”.
وبين الولايات المتّحدة الأميركيّة وإسرائيل، تأتي فرنسا “الحكيمة” لتنقذ الموقف وتستجيب لمطالب الديبلوماسيّة اللبنانيّة التي دارت على أكثر من عاصمة، متوسّلةً استمرارها في دعم قوّات “يونيفيل” عداداً وعتاداً. وقد أكّدت مصادر مطّلعة في الأمم المتّحدة النيّة الفرنسيّة للتجديد لولاية سنويّة أخرى لقوّات اليونيفيل من دون الأخذ بالتعديلات التي تروّج لها الولايات المتّحدة وإسرائيل أو المسّ بصلاحيّاتها.
يرفع الأمين العام للأمم المتّحدة كل سنة تقريرَين إلى مجلس الأمن حول تطبيق القرار 1701. ومنذ تبنّي مجلس الأمن هذا القرار عام 2006 وإلى اليوم، عجّت صفحات التقارير بانتهاكات كثيرة، ارتكب الآلاف منها مدنيّون ورعاة تجاوزوا الخطّ الأزرق جنوباً، أو “أهالٍ” اعتدوا على عناصر “اليونيفيل” بغية صدّهم عن الدخول إلى قراهم، أو مسلّحون أدّت أخطاؤهم إلى تفجير أكثر من مخزن. غير أنّ الدولة اللبنانيّة لن تتوقّف عند تلك التجاوزات “الصغيرة”، ولا حتّى الكبيرة، طالما أنّ إسرائيل ماضية في جولاتها المُستفزّة والمعادية جوّاً وبحراً وبرّاً ولا مَن يردعها، وما دامت الحدود الرسميّة البحريّة والبرّية لم تُرسم أصلاً بعد.
وفيما ستستخدم الدولة اللبنانيّة شكواها الأخيرة لمجلس الأمن على انتهاك إسرائيل سيادتها بإرسالها الطائرتَين المُيَسّرتَين اللّتين سقطتا في الضاحية الجنوبيّة لبيروت يوم 25 آب/ أغسطس 2019، من أجل تدعيم موقفها، ستستخدم إسرائيل في المقابل، حادثة الأنفاق التاريخيّة وتُشهرها في وجه كل الدول الممثّلة في مجلس الأمن غداً. وعلى هذا النحو، ستُجدَّد ولاية “اليونيفيل”، ويُطلب منها التشدّد في استخدام صلاحيّاتها، واللجوء إلى القوّة إذا دعت الحاجة، وإلّا… فليقلّص عددها إلى ثلاثة آلاف وميزانيّتها إلى بضعة ملايين.