بالتزامن مع انتخاب النظام اللبناني رئيساً له بعد تأخر دام أكثر من سنتين، أقدم لبنان هذا على انتهاك وقح لحقوق الإنسان تمثّل بتسليم الشاعر التركي من أصل مصري عبد الرحمن القرضاوي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وعاصمتها أبو ظبي.
توقيف القرضاوي بدايةً، يعود إلى ورود طلبين عبر مجلس وزراء الداخلية العرب: الأوّل صادر عن دولة مصر استناداً إلى حكم قضائي صدر بحقّه يقضي بحبسه لمدة ثلاث سنوات بشبهة “نشر أخبار كاذبة” و”إهانة السلطات القضائية” في إطار مقابلات صحافية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي؛ والثاني صادر عن دولة الإمارات العربية المتحدة استناداً إلى بلاغ من النيابة العامّة الإماراتية بسبب نشره فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، احتفالاً بسقوط نظام الأسد في سوريا تضمن انتقادات للسياسة الخارجية لكلّ من مصر والإمارات والسعودية.
عملياً، القرضاوي كان عائداً من سوريا، ولم يرتكب جرماً على الأرض اللبنانية، وهو ليس إماراتياً ليُسلَّم إلى أبو ظبي، ثم إن الاحتمالات التي تنتظره هناك هي جزء من سجل ذلك البلد الحافل بالانتهاكات والتعذيب في السجون!
القانون اللبناني والاتفاقيات العربية التي صادق عليها لبنان، تمنع تسليم أي شخص إلى دولة أجنبية في حال كان سبب الاسترداد يتعلّق بجريمة سياسية وما يترتب عليها من احتمالات تعرّض الشخص للتعذيب.
أما ربط الواقعة بالانتخابات الرئاسية اللبنانية، فمردّه إلى ما انطوت عليه صفقة انتخاب العماد جوزيف عون من شروط رشح منها أن شرط رئيس مجلس النواب نبيه بري لتمرير الانتخاب، أن يتولى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي رئاسة أولى حكومات العهد الجديد. وميقاتي هو عراب عملية تسليم القرضاوي إلى أبو ظبي.
القرضاوي كان عائداً من سوريا، ولم يرتكب جرماً على الأرض اللبنانية، وهو ليس إماراتياً ليُسلَّم إلى أبو ظبي، ثم إن الاحتمالات التي تنتظره هناك هي جزء من سجل ذلك البلد الحافل بالانتهاكات والتعذيب في السجون!
ميقاتي إذاً هو الرئيس العتيد لحكومة العهد الجديد. نجيب ميقاتي، رجل الأعمال الذي ارتبط اسمه بملفات فساد تمتد من لبنان إلى موناكو، صديق بشار الأسد ومرشح الثنائي الشيعي لرئاسة الحكومة، واليوم تضاف فضيحة إلى سجله الحافل هذا، وتتمثل في تسليم مواطن تركي إلى دولة ثالثة لم تُشهد لها رأفة بالمساجين السياسيين.
لكن الانتهاك الوقح لحقوق الإنسان الذي ارتكبته منظومة الفساد والارتهان اللبنانية بحق عبدالرحمن القرضاوي، ترافق مع ظاهرة تحوّل لبنان بمرافئه البرية والبحرية والجوية إلى أبواب نجاة لرجال النظام السوري وضباطه الذين ارتبطت بهم جرائم امتدت على طول سوريا وعرضها، ومن بين هؤلاء من هو مطلوب للقضاء اللبناني مثل علي مملوك. هؤلاء هم من يحميهم النظام في لبنان، فيما يسلّم القرضاوي لـ”عدالة” أبو ظبي.
المنظومة اللبنانية التي تولى نظام الأسد البائد تركيبها من ألفها إلى يائها طوال العقود الخمسة الفائتة، ما زالت تشتغل على رغم السقوط المدوي للنظام الذي شكّلها. واقعة تسليم القرضاوي إلى أبو ظبي هي جزء من نشاطها المتواصل، وحماية ضباط النظام المجرم في دمشق أيضاً جزء من هذا النشاط، أما ما يلوح من أخبار عن تسمية ميقاتي رئيساً لحكومة العهد الأولى، فهو مؤشر إلى أن منظومة الأسد ستواصل حكمها لبنان على رغم نفوقها في سوريا، أو هي على الأقل تسعى الى أن تكون شريكاً فاعلاً في الحكم. فأن يستعرض المرء الوجوه الكالحة التي أرخت بثقلها على الحياة العامة في لبنان، لن يخرج إلا بنتيجة واحدة تتمثل بأن معظمها من صناعة رجال المخابرات السورية.
لبنان بعد الأسد لن يشهد التغيير الذي يمليه الحدث الكبير في دمشق. الثنائي الشيعي سيكون أضعف، لكنه سيكون شريكاً، وسيملأ النفوذ الخليجي مساحة أفسحتها له هزيمة حزب الله في الحرب الأخيرة، أما الضلع الثالث في السلطة العتيدة، فمن غير الواضح ما إذا كان يحتمل أن يكون ركيزة شراكة توازن ثقل شركاء السوء، ناهيك بعدم امتلاك الأحزاب المسيحية الحساسية التي تحصّنها من انتهاكات كتلك التي أصابت القرضاوي، لا سيما في ظل ضعفها حيال النفوذ الخليجي.
بإمكان المرء أن يسجل واقعة تسليم القرضاوي لأبو ظبي بوصفها مؤشراً أول الى الزمن اللبناني الجديد. ليس الرئيس الجديد من أقدم على هذه الفعلة، لكن ثمة من افتتح له عهده بها.