انتشر فيديو من داخل مستشفى اليرموك الخاص في مدينة درعا، يظهر سريرين مفروشين بأوراق الملوخية بهدف تجفيفها، بالقرب من حاضنةٍ للأطفال، داخلها رضيع. بعد انتشار الفيديو، أغلقت وزارة الصحة السورية المستشفى من دون ذكر السبب. الحادثة هي الأولى من نوعها من ناحية استخدام أسرّة المستشفى لتجفيف المؤونة، وهي أيضاً مشهد بالغ الدلالة لانهيار المنظومة الصحية في البلاد، الذي يشهد منذ 12 عاماً حرباً وانهياراً اقتصادياً.
اختصاصات طبية قد تختفي في سوريا
أثارت حادثة تجفيف الملوخية على أسرّة أحد المستشفيات سخرية واسعة، إذ يعجز كثير من السوريين عن دخول المستشفيات الخاصة لارتفاع أسعارها. في سوريا يقبع أكثر من 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، بينما تحصل الملوخية على سريرين كاملين. من جهة أخرى، يُظهر الفيديو مدى الاستهتار بحيوات الرضّع، إذ كان في غرفة الحاضنات رضيع، وعلى بعد أقل من متر من الحاضنة الخاصة به نُشرت الملوخية برائحتها القوية، في كسرٍ لكل المعايير الصحية والأخلاقية تجاه رعاية رضيع وُضع له جهاز التنفّس.
لا يُخفى على مطلع تدهور القطاع الصحي في سوريا، وتشير التصريحات الرسمية إلى نقص حاد في الكوادر الصحية، إذ حذر رئيس الطبابة الشرعية في سوريا، الدكتور زاهر حجو، في وقت سابق، من النقص الكبير بكوادر الطب الشرعي في سوريا، وقال في تصريحات لإذاعة “أرابيسك” المحلية: “نحن أمام معضلة وكارثة، إذ لا نتمكن من تعويض الطبيب الذي يتوفى أو يتقاعد”، حجو نفسه حذر في عام 2021، من أن اختصاص الطب الشرعي قد يختفي خلال 15 عاماً، قائلاً إن 70 في المئة من كوادر الطب الشرعي هاجروا حتى عام 2018، بينما تبلغ حاجة سوريا من الاختصاص 400 طبيب على الأقل، 56 منهم فقط موجودون في البلاد، ويبلغ عمر أصغر طبيب شرعي في البلاد 45 عاماً، ولا يوجد أي طبيب مقيم، ويمتنع الطلاب عن التسجيل في هذا التخصص.
ليس الطب الشرعي وحده من يعاني من هذا النقص الحاد، فعام 2022، قال نقيب أطباء ريف دمشق، الدكتور خالد موسى، لإذاعة “ميلودي أف أم”، إن هناك اختصاصات طبية تواجه خطر الزوال في سوريا، مثل الطب الشرعي، وجراحة الأوعية والكلية والتخدير، وإن لم يتغير الوضع ربما ستضطر الحكومة لاستيراد أطباء أجانب! أمام هذه الأرقام، يغدو تجفيف الملوخية على أسرّة المستشفى تفصيلاً صغيراً ومؤلماً، لكنه حقيقي ويدخل في صلب حيوات السوريين وصحتهم.
الملوخية لاكتمال مشهد الدمار
تجفيف الملوخية داخل مستشفى خاص يعني ألّا مكان للمرضى والمتعبين، وأن متطلبات المرحلة تجعل من السرير مكاناً مناسباً لصناعة مؤن الشتاء القارس. هو أمر عشوائي وغير محق ومثير للسخرية، لكنه الحقيقة كاملة. فالمشكلة ليست في مكان تجفّف أو تصنع فيه المؤن، إنما في مكان يجلس فيه المريض وهو يدرك أنه بأمان.
وبحسب ما قال نقيب التمريض والمهن الطبية والصحية في فرع حلب، خليفة كسارة، لصحيفة “الوطن” الرسمية، فإن سوريا تحتلّ رأس قائمة أكثر البلدان المصدّرة للشهادات الطبية. ليست أوروبا الوجهة الوحيدة لهجرة الأطباء والكوادر الصحية السورية، فالبلدان العربية هي مستقبلة أيضاً لهم، مثل دول الخليج والعراق والسودان وليبيا. وفي تصريح لرئيس “مجلس إدارة جمعية المشافي الخاصة بحلب”، الدكتور عرفان جعلوك، لصحيفة “الوطن الرسمية”، قال إن الصومال أهم الدول الجاذبة للكادر الطبي السوري، إلى جانب ليبيا واليمن والعراق، إذ تجتذب أي شهادة طبية سورية برواتب تتراوح بين 2000 إلى 3000 دولار شهرياً، أما الاختصاصات النادرة مثل جراحي الصدرية وجراحي العظمية بمستويات معينة كجراحات العمود الفقري، فرواتبها تتراوح بين 10000 إلى 30000 دولار، بينما تنقسم أجور الأطباء في سوريا إلى فئتين، إذ يتقاضى الأطباء المقيمون نحو 13 دولاراً أميركياً، ويتقاضى أطباء الاختصاص نحو 15 دولاراً أميركياً فقط، أما أجور المعاينة في العيادات الخاصة فمتوسطها نحو دولارين ونصف الدولار. وبحسب جعلوك، تتراوح أجور الممرضين والممرضات السوريين في العراق، بين 600 و1000 دولار أميركي، بينما يبلغ متوسط راتب الممرض في سوريا نحو 15 دولاراً أميركياً!
إقرأوا أيضاً:
السوريون يفقدون حياتهم بالأخطاء الطبّية
بدأ نقص الأطباء في سوريا يؤثر على حياة السوريين، إذ مات الطفل جود سكر (13 عاماً) في آذار/ مارس الماضي، نتيجة خطأ طبي من فني التخدير، وكانت الأم أخبرت الطبيب بأن ابنها يعاني من الربو ويجب الحذر خلال تخديره، وأضافت أن من تكلم معها وقت الجراحة ادّعى أنه طبيب تخدير، ليتبيّن لاحقاً أنه فني تخدير.
بعد أقل من شهرين، توفي الطفل زين ابراهيم (9 سنوات) الذي كان يعاني من مشكلة عدم سقوط أسنانه اللبنية، وعند البدء بالجراحة حقنه طبيب التخدير بإبرة، ليأخد المخدر مفعوله بعد ثوان وتبدأ الجراحة. وبعد ثلث ساعة، سأل الأب الطبيب عن وضعه، ليخبره بأنه فتح عينيه خلال الجراحة، ما دفعهم إلى إعطائه إبرة ثانية، ليتدهور وضعه الصحي ويموت في النهاية. هذه الحوادث هي جزء من الكوارث الطبية التي تحدث في سوريا ولا يتم الكشف عنها، والتي يتسبب بها تدهور القطاع الصحي وتراجع الخدمات وقلة الكوادر.
من جهة أخرى، لم تتخذ الحكومة السورية أي خطوات جدّية لمعالجة وضع القطاع الصحي سواء برفع أجور الأطباء أو منحهم أي حوافز لبقائهم. وبحسب صحيفة “البعث” المحلية، بلغت أعداد الممرضين والممرضات الذين استقالوا من وظائفهم، سواء في القطاع العام أو الخاص في سوريا، 3500 ممرض وممرضة خلال السنوات الخمس الأخيرة، أي بمعدل 700 استقالة سنوياً، و58 استقالة شهرياً.
أن تأخذ الملوخية مكان السوريين المرضى، هذه نكتة مؤلمة، تدفعنا الى الضحك قليلاً والتأمل طويلاً في آلام السوريين التي لا تجد سريراً لها أو طبيباً يشعرها بالطمأنينة، يبدو أن الملوخية أوفر حظاً من السوريين.