
حتى قبل تكليفه رئيساً للوزراء، كان مصطفى الكاظمي (رئيس جهاز المخابرات العراقية 2016-2020) يمثل هاجساً للأحزاب والميليشيات الموالية لإيران، فهو بالنسبة إلى أذرع طهران في العراق رجل الولايات المتحدة، ولم تفوِّت هذه الميليشيات مناسبةً إلا وهددت خلالها بتحويل العراق ساحةَ حرب في حال كُلف الكاظمي برئاسة الوزراء؛ لكنَّ ما تحذره إيران وتخشاه مليشياتها وقع، وصار الكاظمي رئيساً للوزراء وفق تسوية وافقت فيها طهران على مضض.
مواجهة ضد أذرع إيران المسلحة
في ليلة السادس والعشرين من حزيران/ يونيو 2020، نفذ جهاز مكافحة الإرهاب عملية، في منطقة الدورة جنوب العاصمة العراقية بغداد، اعتقل خلالها 13 مقاتلاً من ميليشيات “كتائب حزب الله العراقية”، الممولة والمدعومة من قبل إيران، وجاء في بيان قيادة العمليات المشتركة أنّ العملية نُفذت بعد “توفر معلومات استخبارية دقيقة عن الأشخاص الذين سبق أن استهدفوا المنطقة الخضراء ومطار بغداد الدولي بالنيران غير المباشرة عدة مرات، ورصدت الأجهزة المعنية نوايا جديدة لتنفيذ عمليات إطلاق نار على أهداف حكومية داخل المنطقة الخضراء”.
واستهداف “كتائب حزب الله العراقية” له رمزية مهمة، فهذه الكتائب هي ذراع إيران الضاربة والمهيمنة على بقية الفصائل الولائية، والتشكيل المسلح الأهم ضمن ميليشيات الحشد الشعبي الكثيرة، وهي أكثر تلك الميليشيات غموضاً وسرَّية في ما يتعلق بهيكلها التنظيمي. وفي ذروة سطوتها كان يقودها رئيس هيئة الحشد سابقاً أبو مهدي المهندس، الذي قتل مع قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في غارة أميركية على مطار بغداد الدولي مطلع 2020.
العملية وعلى الفور أصبحت قضية رأي عام في العراق، وأثارت غضب ميليشيات وأحزاب في السلطة تقف على الضفة الإيرانية، وسرعان ما نزلت تلك الميليشيات بالمركبات الحكومية إلى شوارع بغداد لاستعراض قوتها، معتبرةً أن ما حدث يمثل “إعلان حرب”. وفي موازاة حملة شعبية لدعم قرارات الحملة التي رفعت شعارات من نوع “محاربة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة”، انطلقت حملة أخرى من قبل جيوش الكترونية تابعة لتلك الميليشيات والأحزاب الإسلامية “الشيعية” تخوّن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وجهاز مكافحة الإرهاب، وتعتبرهما أداتين للولايات المتحدة الأميركية.
كتائب حزب الله العراقية حاولت اقتحام أحد مقرات جهاز مكافحة الإرهاب في المنطقة الخضراء شديدة التحصين رداً على عملية اعتقال مقاتليها وتحريرهم، لكن العملية فشلت، وخرجت قيادة العمليات المشتركة لتقول إن أوامر إلقاء القبض كانت بموجب مذكرة قضائية.
الدولة العميقة
لم يكن هذا الاحتكاك الأول بين الدولة والدولة العميقة. بالعودة قليلا إلى الوراء، وتحديداً في آيار/ مايو 2020، أغلقت قوات الأمن العراقية مقر حركة “ثأر الله الإسلامي” في البصرة، وهذه ميليشيات موالية لإيران ومتهمة بقتل متظاهرين عراقيين طالبوا بإقالة محافظ البصرة أسعد العيداني.
الاحتكاك الآخر الذي وقع بينهما هو قرار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بإلغاء رواتب “جماعة رفحاء”، وهم العناصر المسلحة التي قاتلت النظام في جنوب العراق عام 1991 في ما يعرف بالانتفاضة الشعبانية، ومن ثم حصلوا على لجوء سياسيّ في الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وأستراليا، وبعد الاحتلال الأميركي اتفقت الأحزاب الحاكمة على تخصيص رواتب لهم ولعائلاتهم وبأثر رجعي، باعتبارهم مناضلين سياسيين ضد نظام صدام حسين.

السيادة وتعدد الولاءات
تعدد الولاءات، وتغول المليشيات منذ 2003، والاستقطاب الطائفي الحاد الذي يشهده العراق والمحاصصة الحزبية في تقاسم السلطة، يجعل مهمة استعادة الدولة وسيادتها التي يقول الكاظمي إنه يتصدى لها عسيرة ومعقدة. الانقسام والفساد في العراق والذي تسبب بإفلاس الدولة، وانهيارها أمام تفشي وباء “كورونا”، جعل الدولة عاجزة عن توفير الأوكسيجين للمصابين، والمستشفيات تحولت إلى بؤرة للتفشي والموت. أمام كل هذه الفوضى العارمة، تحاول الحكومة الموقتة لملمة أطراف الانهيار والعبور بالبلاد إلى انتخابات مبكرة لن تأتي إلا بالأحزاب والوجوه نفسها إلى السلطة، على اعتبار أن الخلل كامن في الدستور نفسه والتشريعات التي أسست للمحاصصة بين المكونات الشيعية والسنية والكردية، وأقليات أخرى تريد أيضاً تمثيلاً في الحكومة وحصةً من موارد الدولة التي يمثل النفط 95 في المئة منها.
بعد كل ما حدث، تحاول أذرع إيران اللعب على الوتر القومي والعربي للعشائر العراقية، فهي ومن خلال قياداتها أمثال قيس الخزعلي زعيم ميليشيات “عصائب أهل الحق”، تحاول إيصال رسائل مضمونها أن رئيس الوزراء الكاظمي يريد ضرب المقاومة لمصلحة واشنطن، وأن إطلاق الصواريخ على السفارة الأميركية يمثل عملاً من أعمال المقاومة الذي سكتت عنه كل الحكومات السابقة. وبالنسبة إلى الخزعلي ومن هم في طابوره، فإنَّ دلالات تكليف جهاز مكافحة الإرهاب بمهمة ملاحقة عناصر الميليشيات هي دلالات خطيرة وتصعيد ضدها، على اعتبار أن جهاز مكافحة الإرهاب هو الجهاز الأمني الوحيد الذي لم تخترقه الميليشيات التابعة لإيران وبعكس وزارتي الدفاع والداخلية اللتين ابتلعتهما ميليشيات الحشد الشعبي بكل فصائلها،.كذلك فإن جهاز مكافحة الإرهاب شكلت نواته الأولى قوات التحالف الدولي عام 2003 وكان لواءً يسمى “لواء العمليات الخاصة” ومن ثم توسع إلى قوة خاصة ضاربة تستمد تدريبها وتجهيزها من الجيش الأميركي خصوصاً.
جرس إنذار لميليشيات إيران في العراق
الصحافي العراقي أحمد صالح يرى أن “عقلية رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في التعامل مع فوضى السلاح، وتحديداً سلاح الميليشيات، كانت عقلية أمنية استخبارية، وذلك بحكم خلفيته وخبرته الأمنية التي اكتسبها من شغله منصب رئيس جهاز المخابرات قبل تسلمه الحكومة”.
ويوضح صالح لــ”درج” أن “هذه العقلية قد تكون الدافع الأهم في تعجيل لجوئه إلى خيار المواجهة المبكرة مع الميليشيات تلك، مستغلاً ترهل نفوذ إيران الحالي في العراق، ومستثمراً الدعم الأميركي لحكومته”.
ويقول صالح إن “الكاظمي يكمل المسيرة التي بدأها متظاهرو تشرين ومطالباتهم بدولة مدنية تكون فيها الكلمة للقانون لا لغة السلاح المتفلت، لهذا لقيت عملية الدورة الأخيرة ترحيب المتظاهرين وعموم الناس عدا الموالين للأحزاب المتنفذة والميليشيات”.
ويعتقد صالح أن “عملية الدورة الأخيرة كانت جرس إنذار للميليشيات بوجود رادع لها..”. فيما لا يعتقد الصحافي العراقي أن “الحكومة تسعى إلى حرب مباشرة مع تلك الميليشيات على المدى القريب أو البعيد، لما لذلك من تداعيات كارثية على العراق في وضعه الحالي”.
وأبدى صالح”تخوفه من “تحريك الميليشيات العشائر، الجنوبية تحديداً، ضد توجهات الكاظمي ومحاولتها إثارة الفوضى عبر سلاحها، خصوصاً أن بعض تلك العشائر يبحث عن مصالحه بعيداً من مصلحة العراق، كما الميليشيات”.
المواجهة الصعبة
“درج” سأل الباحث في الشأن العراقي أزهر الربيعي عن المواجهة بين الكاظمي والميليشيات في هذا الوقت تحديدً، فأجاب: “حقاً إنها مواجهة، ومواجهة صعبة جداً في ظل ظروف صعبة وتحديات اقتصادية بسبب انخفاض أسعار النفط، وأمنياً بسبب هجمات داعش واستهداف الميليشيات المصالح الأميركية في البلاد، ووباء كورونا”.
وأضاف الربيعي: “يمرّ الكاظمي في مرحلة خطرة ومواجهة شرسة. الأمر ليس سهلاً، خطوات الكاظمي حالياً مهمة صعبة يقودها وتلاقي دعماً خارجياً وشعبياً، وقرار الكاظمي في بدء المواجهة مع الميليشيات ما هي إلا ترجمة توضح نياته (الكاظمي) في الإيفاء بجزء من الوعود التي أعلنها…”.
وعن احتمال المواجهة العسكرية بين حكومة الكاظمي وأذرع إيران المسلحة، قال الربيعي: “أعتقد أن المواجهة ستأخذ وقتاً طويلاً لتحقيق أهدافها…”
المواجهة الأخيرة نجحت في إخراج المواجهة مع الدولة العميقة من الظل الى العلن، لكن هل ستفضي التطورات إلى اضعاف منظومة الفساد الطائفي والعشائري؟