بعد أشهر من الحصار الخانق والجوع المتوحّش الذي نهش بطون سكان قطاع غزة، الذين تتساقط فوق رؤوسهم القنابل والصواريخ ليل نهار، أعلنت السلطات الإسرائيلية عن السماح بإدخال كمية محدودة جداً من المساعدات الإنسانية، وذلك بعد قرابة ثلاثة أشهر من الإغلاق التام والممنهج لجميع المعابر.
غير أن المفاجأة الصادمة تمثلت في أن الشاحنات التسع التي سُمح بإدخالها في اليوم الأول، لم تكن محمّلة بالطحين أو المواد الغذائية الأساسية التي ينتظرها السكان بشغف وأمل، بل كانت تحتوي على أكفان، إلى جانب بعض المواد غير الضرورية، بحسب ما أكدته منظمات حقوقية وشهادات موثّقة حصل عليها موقع “درج” من سائقي الشاحنات الذين نقلوا تلك الحمولة.
ولم يكن إدخال هذه الشاحنات بالأمر السلس أو السهل، بل خضعت لمماطلة طويلة وتعقيدات إدارية إسرائيلية، فقد تُركت الشاحنات المحمّلة بالأكفان يوماً كاملاً داخل ساحة معبر كرم أبو سالم – الذي تسيطر عليه إسرائيل بالكامل – قبل السماح لها بالدخول، في مشهد يعكس تلاعباً فجاً بالمساعدات الإنسانية ومشاعر المدنيين المحاصرين.
عقب دخول شاحنات الأكفان، سادت حالة من السخط والاستنكار بين سكان غزة، الذين باتوا ينتظرون بشغف وصول شاحنات الطحين والغذاء، لا شاحنات “الوداع الأخير”.
فبدلاً من إنقاذ الأرواح، تم تجهيز ما يلزم لدفنها.
في هذا السياق، قال رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن من بين الشاحنات الخمس التي دخلت إلى غزة يوم الإثنين، كانت اثنتان محملتين بالأكفان تبرعت بهما دولة عربية عبر الأمم المتحدة.
وأضاف عبده في بيان له: “هذه ليست مساعدات إنسانية بل هي استعداد لسيناريو الموت الجماعي. ما يحدث هو دفن لغزة بدلاً من إطعامها”.
كذلك، أكد ناهض خالد، وهو أحد السائقين العاملين داخل معبر كرم أبو سالم من الجانب الفلسطيني، أن الشاحنات الأولى التي دخلت الى قطاع غزة بعد قرابة ثلاثة أشهر على الإغلاق المحكم للمعابر كانت محمّلة بالأكفان.
وقال خالد في حديثه لـ”درج”: “الأكفان كانت على صناديق خشبية تشبه الدقيق من بعيد، حيث تفاجأنا نحن السائقين من أن الدفعة الأولى التي سندخلها للجوعى في غزة هي أكفان وليس دقيقاً”.
وفي السياق ذاته، حذر توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية، من أن نحو 14 ألف رضيع في قطاع غزة معرضون لخطر الموت خلال 48 ساعة فقط، إذا لم يُسمح فوراً بدخول مساعدات إنسانية إضافية، بخاصة الغذاء والحليب والماء النظيف.
وقال فليتشر إن إدخال خمس شاحنات فقط يوم الإثنين 19 أيار/ مايو الجاري، بعد حصار دام 11 أسبوعاً، هو “نقطة في بحر” لا تكاد تُرى.
وأكد أن هذه الشاحنات لم تصل حتى الآن إلى المناطق الأكثر تضرراً واحتياجاً، حيث الكارثة الإنسانية تتعمق، والأمهات لا يستطعن إرضاع أطفالهن أو إطعامهم بسبب سوء التغذية ونقص المواد الأساسية.
وأضاف المسؤول الأممي: “نحن نغامر بكل شيء لإيصال الغذاء للأطفال، ولدينا أكثر من 14 ألف رضيع مهددون بالموت، ونأمل بأن نتمكن من إنقاذ أكبر عدد ممكن منهم خلال اليومين المقبلين”.
ومع ذلك، تستمر إسرائيل في الترويج الدعائي بأنها سمحت بإدخال تسع شاحنات محملة بمكملات غذائية، متجاهلة أن المطلوب هو آلاف الشاحنات يومياً لتلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان، الذين يعيشون واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
من جهته، أصدر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بياناً أكد فيه أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال يمنع إدخال أي مساعدات حقيقية، مشيراً إلى أن الحصار المستمر منذ أكثر من 80 يوماً أفضى إلى مجاعة شاملة.
وأوضح البيان أن إسرائيل تمنع دخول ولو حبة قمح واحدة منذ قرابة ثلاثة أشهر، في سياسة ممنهجة تهدف إلى تجويع نحو 2.4 مليون إنسان محاصر.
وأوضح المكتب أن الاحتلال سمح بدخول تسع شاحنات فقط، محمّلة بمكملات غذائية محدودة للأطفال، وهي لا تمثل سوى قطرة في بحر الاحتياجات العاجلة، ولا تلامس الحد الأدنى من متطلبات البقاء.
وبين أن قطاع غزة يحتاج يومياً إلى 500 شاحنة مساعدات إنسانية، و50 شاحنة وقود على الأقل، أي ما مجموعه 44,000 شاحنة خلال فترة الحصار، وما دخل حتى الآن لا يتجاوز الـ0.02 في المئة من هذا الرقم! في مقارنة مفجعة تكشف بوضوح حجم الكارثة والنية المبيتة خلف سياسة الإغلاق والتجويع.
إقرأوا أيضاً:
رسائل قتل
يطرح أهالي غزة تساؤلات مريرة حول الرسالة التي أرادت إسرائيل إيصالها من خلال إدخال الأكفان بدلاً من الطعام. هل هو تهديد مبطن؟ هل هو إعلان لمصير محتوم؟ أم هو استهزاء صارخ بمعاناة شعب يتضور جوعاً ويعيش تحت وابل الموت اليومي؟
المدنيون في غزة لا يرون في إدخال الأكفان مجرد سخرية سوداء، بل تأكيداً على أن العالم يجهزهم للموت لا للحياة، ويهيئهم للفناء بدلاً من إنقاذهم من المجاعة والحصار.
وبدأ سكان غزة التفاعل مع وصول الأكفان عبر صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بين استهزاء وغضب.
وكتب محمد دياب عبر حسابه في موقع “فيسبوك”: “نرجو من معاليكم الإكثار من إرسال الأكفان لغزة ونأمل بأن تراعوا مقاسات أجساد أطفالنا”.
واعتبر مصطفى السعافين في منشور أيضاً له، أن الأكفان ليست مساعدات غذائية بل تحضير لموت جماعي وغزة لا يتم إطعامها بل التجهيز لدفنها.
نُعرب عن “شكرنا” العميق لتلك الدولة الشقيقة – التي نجهل هويتها حتى اللحظة – على فطنتها الفائقة وفهمها الدقيق لاحتياجات المواطن الغزّي في هذا الوقت العصيب. نُقدّر لها حسها الإنساني والوجداني، ونُعلِمها – بامتنان خالص – بأنها بدأت في حصد الأجر والثواب عند الله، لقاء مساهمتها الكريمة بتوفير الأكفان لأبناء غزة، الذين يتساقطون شهداء بالعشرات كل يوم.
الناشط محمد أبو سالم كتب عبر حسابه في “فيسبوك”: “منذ مساء الأمس فقط، ارتقى 140 شهيداً، يفترض – نظرياً – أنهم قد كفنوا بهذه الهبة الكريمة على رغم أننا غير متأكدين من كفاية العدد، إذ إن الشهداء في غالبيتهم لم تبقِ آلة الحرب من أجسادهم شيئًا، فمعظمهم أشلاء متناثرة، يضطر المسعفون إلى جمع أكثر من شهيد في كفن واحد”.
وأضاف أبو سالم: “ما يزيد المشهد مأساوية أن عدداً كبيراً من الشهداء ما زال تحت أنقاض المنازل المدمّرة، إذ تعجز طواقم الإنقاذ عن الوصول إليهم بسبب نقص الآليات الثقيلة مثل الجرافات والبواغر”.
وقال: “من هذا المنطلق، نناشد الدول العربية، لا سيما تلك التي بادرت بإرسال الأكفان، أن تكمل معروفها بإدخال بعض المعدات اللازمة لرفع الأنقاض، حتى نتمكن من استخراج جثامين أحبابنا وتكفينهم بكفن عربي ناصع البياض، فتكونوا بذلك قد ساعدتمونا في أداء واجبنا المقدس نحو شهدائنا، لأن إكرام الميت دفنه.
توحّش وقتل
تزامن إدخال الأكفان الى قطاع غزة، مع تكثيف الجيش الإسرائيلي في الأيام الأخيرة، هجماته على القطاع، وارتكاب مجازر إبادة جماعية أكثر دموية وبشاعة بحق المدنيين وعائلات بكاملها، مستهدفاً عشرات المنازل المأهولة وخيام النازحين.
وأبادت قوات الاحتلال عائلات فلسطينية بكاملها ومسحتها من السجل المدني، في مشاهد مروّعة تجاوزت كل الخطوط الحمراء والقوانين الدولية، مستخدمة أحدث الطائرات العسكرية المزوّدة بأكثر القذائف الصاروخية فتكاً.