تابعت كغيري من السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي موجة أعمال العنف ضد السوريين في تركيا. بدأت الأحداث في مدينة قيصري لتمتد إلى عينتاب، إسطنبول، أنطاليا، وقونيا. مشاهد شباب يافعين وعوائل يهجمون بشكل جماعي، على عشرات البيوت التي يقطنها السوريون وعلى محالهم لتكسيرها وسياراتهم لإحراقها.
لم تقتصر الاعتداءات على الممتلكات فحسب، إذ بدأت تظهر تسجيلات فيديو لاعتداءات على السوريين أنفسهم داخل منازلهم وفي الشوارع. شارك المئات هذا المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي في محاولة لإيصال الصورة ونشر القصة، قصة حياة وموت السوريين الصامتة.
العنف الذي يطعن الذاكرة
أدركت خلال السنوات الطويلة التي مضت، التأثير النفسي لصور العنف عليّ، إذ تنطبع المشاهد بكل ألوانها وتفاصيلها طويلاً في مخيلتي. لهذه المشاهد القدرة على معاودة الظهور بالدقة والألوان نفسها في رأسي لفترة طويلة بعد التعرض لها، تبقى الصور في ذاكرتي طازجة لحد يسمح بإعادة شحني بمشاعر الصدمة.
أيقنت تأثير مشاهد العنف وعرفت بأن عليّ اعتزالها، الاعتزال يُفهم على أنه قلة حساسية تجاه القضايا ربما، لكن على السوشال ميديا أنت مطالب بالتعرض لهذا المحتوى.
أن ترى صورة العنف و الاعتداء تنطبع عميقاً في الذاكرة، يعني أيضاً أن تغيب في المقابل الصور المضادة ، الصورة التي تحمل الشعور بالكرامة والعدالة، فتعيد الى النفوس الخائفة بعضاً من التوازن والطمأنينة.
غياب الصور المضادة
قد يكون من الرومانسية لنا نحن اللاجئين أن نحلم بمكان يخلو من العنصرية والتمييز، فنجد أنفسنا نفاوض على قبول مستويات خفيفة إلى متوسطة منها، قبول درجات معينة من التمييز في مجتمعاتنا الجديدة والتأقلم معها، والحديث عنها ربما في محاولة لتغييرها في بلاد نفترض أنها أفضل من بلدنا الأم، الذي خبرنا فيه تماماً معنى العيش الصامت.
وفي تركيا، تظهر حوادث عنف ضد الأجانب واللاجئين بين الحين والآخر، ويساهم المناخ السياسي بالتطبيع معها. وقد وصل الحد إلى استخدامها في الحملات الانتخابية لتكون إحدى مانشيتات حزب الشعب والحزب الجيد بشكل صريح خلال الانتخابات الأخيرة، “سيرحل السوريون”. وهكذا مرت صور الدعوات بترحيل السوريين من دون صور مقابلة.
غياب الصور المضادة لصور العنف، أثر نعيش في ظله نحن السوريين والأتراك بشكل يومي، ينعكس في وجدان السوري الشعور بالخوف لغياب العدالة والمحاسبة، ويدفع بالسوريين الى مزيد من الصمت مع ارتفاع صوت العنصرية إلى درجة تصل إلى تهديد الحياة. ويُترك اللاجئون أمام خياريين: العيش بصمت أو الرحيل بصمت.
غياب الصور المقابلة لصور العنف يولد لدى بعض المواطنين شعوراً بالتمكين من حيوات الناس الأضعف، وينمي شعورهم بالقدرة على الاستباحة، سلاح جديد يستخدمونه في التعبير عن الغضب والخذلان.
هذا الشعور بالاستقواء وصل الى حد سمح لمجموعة شبان يافعين تشكيل مجموعة مغلقة على وسائل التواصل الاجتماعي سربت بيانات أكثر من مليوني سوري تمهيداً للنيل من وجودهم.
أظهرت الحكومة التركية شكلاً من أشكال المحاسبة، إذ أعلنت عن توقيف 470 شاباً شاركوا في أعمال التخريب، وأوقفت الشخص/ الطفل ذا الـ14 عاماً المسؤول عن الصفحة التي نشرت البيانات.
وعلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أيضاً على أحداث العنف، واصفاً أياها بـ”المرفوضة”، وحمّل المعارضة مسؤولية خطاب الكراهية السائد. هذه التحركات جاءت على شكل أخبار ومواقف فقط، وبقيت الصورة غائبة، صورة العدالة واستعادة الكرامة.
أن ترى صورة العنف و الاعتداء تنطبع عميقاً في الذاكرة، يعني أيضاً أن تغيب في المقابل الصور المضادة ، الصورة التي تحمل الشعور بالكرامة والعدالة، فتعيد الى النفوس الخائفة بعضاً من التوازن والطمأنينة.
“العيش الصامت” والرغبة في الاختفاء
بعيداً عن السوشال ميديا، أعيش كغيري من السوريين والسوريات في تركيا مستويات القلق المعمم في حياتنا اليومية، إذ يكاد يكون السؤال المتكرر في مختلف المجالس السورية، إلى أين نذهب؟ وما هي الخطط البديلة؟ جلسات من العصف الذهني لمناقشة احتمالات نجاة أخرى.
بالأمس، قالت صديقتي التي تملك سيارة خاصة تحمل حرف M، وهو شكل من أشكال التمييز في قانون السير، إذ تعطى السيارات التي يمتلكها غير الأتراك نمرة سيارة تبدأ بحرف M وتعني (مسافر) غير تركي، إنها تشعر بالخوف أثناء التجول بالسيارة ليلاً، وتفكر في بيع السيارة ودفع النقود ثمناً لمهرب يساعدها في الوصول إلى أوروبا.
في حين يحاول صديقي الحاصل على الجنسية التركية تدبّر الأمر بالحصول على فرصة عمل في الخليج، ويضيف أن ابنه لا يرغب في الذهاب إلى المدرسة، وهو يخشى عليه من أن يكون هدفاً لأي أعمال عنف قد تحصل في المدرسة مع الشبان الأتراك.
تقول صديقة أخرى، أم لطفل في الثالثة من العمر ، إنها تشعر بالإحراج عندما يبدأ طفلها بالتحدث إليها بالعربية في المترو، وتقول “إنني أتجاهل كلامه و أنظر إليه بصمت لأدفعه الى السكوت”.
وعن الوجود في المواصلات العامة، يقول صديق آخر: “لا أشعر بالراحة بأن أظهر أي شيء بالعربية في المتروبوس، كنت أحب تمضية الوقت في المواصلات في قراءة الكتب،لكنني اليوم أخاف فتح كتاب باللغة العربية منعاً لأي تعليق قد يصدر ويتحول إلى مشاحنة لا أقوى على الدفاع فيها عن نفسي”.
يقول لي أحد الأقارب إن صاحب المنزل الذي يسكن فيه طلب رفع إيجار البيت بنسبة 100 في المئة، وأضاف أن هذه الزيادة غير محقة حسب النسبة الرسمية التي حددتها الدولة، لكنه لا يستطيع الاعتراض ولا يمكنه سوى القبول بصمت، مبدياً ميلاً الى فكرة العودة إلى سوريا
“من دون صوت”
انطلقت حملة افتراضية بين الناشطين السوريين بعنوان ses yok (من دون صوت)، وهي عبارة انتشرت على أثر الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في شباط/ فبراير 2023، كتبت حينها هذه العبارة على المباني المدمرة كإشارة الى عدم وجود حياة تحت ركام المباني المدمرة، وإعادة استخدام هذه العبارة ربما تحمل اشارة الى اختناق أصواتهم في خضم ما يجري اليوم من اعتداءات عليهم.
يتخلى اللاجئون السوريون عن مساحاتهم في الحياة، يتخلون عن مواقف سياراتهم، عن مقاعدهم في المواصلات والحدائق، عن أدوارهم في السوبر ماركت.
يتخلى اللاجئون عن حقهم في الكلام بلغتهم، يتحاشون الأماكن العامة كي لا يكونوا سبب الاكتظاظ ، يتحاشون فرص الاختلاط والتعامل مع الأتراك لكي لا ينشب خلاف، يتحرجون من التعريف بأصولهم، ويحملون جنسيتهم كندبة يحاولون إخفاءها و الاختفاء معها.
الخوف والعقاب الجماعيان
يتحدث علم النفس عن شكل من أشكال الصدمة الجماعية التي تنتج من أحداث مؤلمة وكارثية تؤثر على مجتمع كامل أو مجموعة كبيرة من الناس كالحروب والكوارث الطبيعية.
يضاف إلى ذلك تعرض السوريين لعقاب جماعي ممنهج استخدمه نظام بشار الأسد كوسيلة لردع السوريين عن التعبير، والإجبار على حالة العيش الصامت.
ما سبق قد يبرر حالات الهلع الجماعي التي تعيد إلى آلاف اللاجئين السوريين شعور الصدمة الأول، يربطون بها أي أذى فردي قد يصيب أحدهم على أنه تهديد وجودي لهم جميعاً، وتعيد مشاهد إذلالهم والاعتداء عليهم مشاعر الصدمة الجمعية ومشاهد التعذيب والإذلال في وطنهم الأصلي.
تدق الأحداث الأخيرة ضد السوريين في تركيا ناقوس خطر، وما لا شك فيه أنها قد تدفع بكثر من السوريين الى الخروج من البلاد لتكوين موجات نزوح جديدة إلى أوروبا، أو بالعودة إلى سوريا، في حين سيستمر من قرر البقاء فيها بقبول مساحات أضيق للعيش “إلى حين… أن تهدأ الأوضاع”.
إقرأوا أيضاً: