ذهب الأسد على متن طائرة إلى جهة غير معلومة. عند الساعة الحادية عشرة والثلث، انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وبحلول منتصف الليل، كان الجميع قد استفاق. تزايدت الاتصالات الهاتفية وتكثفت الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعل اللاذقية تعيش حالة من الغليان.
وعندما نقلت “رويترز” الخبر، تعالت أصوات التكبير في كل مكان، لتعود صرخة “الله أكبر” بصوت حاد ومتلاحق. كانت أصوات التكبير ترسمُ بُعداً غريباً في الأصوات، جوع السوريين وفقرهم وفرحهم. كان التناغم الصوتي يصنع توهجاً عاطفياً مدهشاً ومفاجئاً.
بحلول الثالثة صباحاً، بدأت مقاطع الفيديو تنتشر من دمشق، تُظهر الجنود وهم يهربون تاركين أسلحتهم وراءهم. وعند الرابعة فجراً، استيقظت سوريا بأسرها على حقيقة سقوط نظام الأسد.
في اللاذقية، لم تنجح محاولات النظام لدفع العلويين إلى المعركة منذ سقوط حلب. فهم رفضوا أي برامج للتسلح أو عسكرة جديدة، وظلوا على الحياد الكامل. منذ خمس سنوات، انقطعت علاقة المشايخ العلويين بعائلة الأسد، ولم يذكروها حتى في أحاديث المجالس. لم تجد جهود النظام، من تجنيد العلويين إلى محاولة استخدام شخصيات مثل وسيم الأسد أو رامي مخلوف، أي استجابة تُذكر. افتتاح المكاتب لتجنيد العلويين باء بالفشل، وظل الموقف ثابتاً: الحياد التام.
عندما وصلت أخبار سقوط النظام إلى اللاذقية، بدأت أحياء المدينة تشهد تكبيرات قوية من السكان. في البداية، خرجت الأصوات من داخل الأبنية، وعندما لم يظهر الشبيحة أو رجال الأمن والشرطة لإطلاق النار، خرج الناس إلى الشوارع يهتفون للحرية. خرج السوريون إلى الشرفات لينظروا لأنفسهم؛ اختفى العمار وعاد البشر السوريون ليشكلوا جمالهم الإنساني وهم يتماوجون ويبكون. كانت لحظة جماعية، تجسد فيها الانعتاق من الخوف والقمع.
خرجت الأجساد بكل فقرها ورثاثة ثيابها، نزلت النساء قبل الرجال إلى الشوارع. الكل بكى، الكل أراد أن يصدق أنه ذهب. ارتبكت الأرجل في البداية، لم تتجه الى الساحات فوراً، حتى وصل الشبان وبدأوا بتحطيم تمثال حافظ الأسد. للمرة الأولى في تاريخ المدينة، لم ترتبك الأجساد وهي تمسك الهواتف لتصوّر المشهد: الأسد المنتصب أمام مدرسته، محاطاً بحديقة مائية قذرة ورثة. التمثال الأكبر في المدينة، الذي كان يحظى بدورية أمنية تحرسه، تُرك منذ سنوات حين بدأ الجنود يتململون من حماية الجثث المحنطة.
في تلك اللحظات، كان البكاء في الشوارع أكثر من مجرد تعبير عن الحزن أو الفرح؛ كان فعل تطهر عاطفي، حرر النفوس من حمل سنوات طويلة من القمع والخوف. الأجساد المرتبكة، التي بالكاد كانت تعرف كيف تتحرك بحرية، وجدت في هذا الانفجار الجماعي فرصة لاستعادة إنسانيتها المفقودة.
كل ما توقعه الناس قد سقط، لكن النهب والخوف وانتشار أكثر من 500 آلة عسكرية بين أيدي العامة، وبخاصة فتيان لم يتجاوزوا الثامنة عشرة، خلق حالة من الرعب بين سكان المدينة. هذه الآلات أُخذت من الفروع الأمنية المنهوبة ومراكز الشرطة والثكنات العسكرية. كان هذا الانتشار مقلقاً بما يكفي لمنع دخول اللاذقية وطرطوس، وهو قرار اتخذته قادة حركة “ردع العدوان” رغبةً في إراحة المدينة ومنع تخويفها من الإشاعات التي كان النظام يروّجها، بأن أي تغيير سيجلب الفوضى والرعب.
بفضل اتصالات مكثفة بين حركة “ردع العدوان” والإدارة العسكرية، تم التوصل إلى اتفاق على إرسال قوة عسكرية بشكل آني إلى اللاذقية. وصول هذه القوة أثار نوعاً من الهدوء والحذر لدى النهابين، لكنه لم يكن كافياً لتغيير المشهد فوراً. التأخر في الوصول سببه سوء تقدير من الإدارة العسكرية، التي ظنت أن الشرطة والأمن لم يتخليا عن مواقعهما. لكن الواقع كان عكس ذلك؛ التخلي عن المواقع الأمنية أشعل البلاد، تاركاً الملك العام عرضةً للنهب.
مع ذلك، وحتى نهاية اليوم الأول، كانت الأضرار مادية ومرتبطة بالملك العام فقط، ولم يُصب أي إنسان بأذى مباشر. كان هذا التخلي الجماعي عن المواقع الأمنية هو الشرارة التي أطلقت حالة من الفوضى المؤقتة، لكنها بقيت محصورة في إطار الممتلكات من دون أن تتحوّل إلى كارثة إنسانية.
سارع ناشطون وساسة ومعتقلون سابقون إلى الاتصال بالإدارة العسكرية، والمكتبين الأميركي والروسي، في محاولة لدفع القادة الجدد الى التحرك سريعاً. كان لهذه البادرة دور كبير في إدخال المقاتلين إلى المدينة وزجهم في الأحياء لضبط الأمن. كان الاحتفال مهيباً ومؤثراً، لكنه حمل أيضاً بوادر قلق، ما دفع القادة الجدد إلى اتخاذ خطوات فورية لتخليص الأسلحة من أيدي المدنيين الذين حصلوا عليها عبر النهب. بدأت القوات بمداهمة الأحياء وطلب تسليم السلاح بشكل صارم.
إقرأوا أيضاً:
بحلول الليل، لم تستطع الحكومة في دمشق أن تفرض حظر تجوال أو أن تفهم طبيعة الفوضى التي اجتاحت اللاذقية. في اليوم الثاني، بدت الأمور أكثر تنظيماً؛ انتشرت القوات بشكل أفضل وبدأت السيطرة تظهر تدريجياً. مع ذلك، لم تعد الشرطة ولا الجيش إلى مواقعهما، ولم يجرؤ أحد على العودة إليها. لم تُصدر دمشق أي قرار رسمي بشأن اللاذقية، لكن الفوضى بدت أكثر وضوحاً مع مرور الوقت.
مع وجود القوات، قلّ الخوف تدريجياً من حاملي السلاح، وبدأ الناس يقتربون منهم أكثر. كُسر حاجز الخوف الذي كان قائماً بين المدنيين والمسلحين، ما شكّل حالة جديدة من التفاعل الذي اتّسم بالحذر والاضطراب في آنٍ.
سادت سعادة مطلقة في أوساط العلويين في الريف، حيث أطلقوا الأعيرة النارية احتفالاً بما اعتبروه انتصاراً. أُزيلت كل منتجات النظام السوري من أماكنها ومراكزه الحيوية، توحدت المدينة كلها بطقس رمزي لتدمير رموز النظام البائد وحرقها. وعادت اللاذقية إلى الكثير من عاداتها الصباحية من دون أن يظهر أي إشكال طائفي يُذكر.
مع ذلك، كان المشهد يفتقد القدرة الاجتماعية على بناء معنى وطني مدني مشترك، إذ بدا السوريون كأفراد مشرذمين ووحيدين. الحزب القومي السوري الاجتماعي، رغم قوته التنظيمية وقوامه الحزبي الكبير في المحافظة، لم يظهر لتولّي تنظيم المدينة. أما حزب البعث، الذي لم يتبقَّ منه سوى عشرات الأعضاء الفعليين، فلم يكن له أي حضور يُذكر، حتى لو أراد الظهور. بل فرّ الجميع من الساحة، تاركين فراغاً سياسياً واجتماعياً.
أما الساسة والمعتقلون السابقون، فقد بدوا غريبين عن الحدث. كيف بإمكان السياسي أن يلعب دوراً في مجتمع أقصاه النظام لعقود؟ كان هذا السؤال يعكس غربة عميقة عن الواقع الجديد الذي بدا مفتقداً أي رؤية أو مشروع يوحّد السكان تحت مظلة وطنية مدنية.
بعيداً من الفوضى التي تتضاءل تدريجياً، بعدما أسفرت عن نهب مؤسسات الدولة وحرق المستشفيات، بدأ الكثير من الإرهاصات المشجعة بالظهور على السطح. شكلت الحركة العسكرية نوعاً من الأمان داخل المدينة، من خلال الاستماع إلى الناس والتعامل معهم بجدية. كما أن بعض القطاعات الحكومية بدأ بالعودة إلى العمل، مع تنظيم توزيع الخبز، وتأمين المحروقات، وتحسين الخدمات الأساسية، ولو بطرق بسيطة، ما أضفى نوعاً من الطمأنينة على المشهد العام.
مع ذلك، برزت إشارات مقلقة قد تعكس توجهاً مثيراً للجدل. من بين هذه الإشارات، طلب بعض القادة العسكريين من متاجر الكحول إخفاء المشروبات الكحولية عن الأنظار وتخزينها، ريثما يصدر قرار حكومي بشأن بيعها. تحولت هذه القضية إلى ما يشبه الذعر الجماعي، إذ تسرب الخوف من أن تكون هذه الخطوة بداية لتغيرات أكبر تؤثر على الحياة الفردية وحريات السكان.
رافقت ذلك حالة من الإجهاد النفسي وترقب للمجهول، إذ يعيش السكان في قلق مستمر من القرارات المستقبلية التي قد تغير نمط حياتهم بشكل جذري.
في هذا السياق، طُلب أيضاً فصل المصاعد بين الذكور والإناث في بعض الأماكن، وهو ما أثار تساؤلات ومخاوف لدى الأقليات وسكان المدينة حول مستقبل الحريات الفردية في ظل المرحلة الجديدة. شكلت هذه القرارات ذعراً وقلقاً تحويلياً لدى الأقليات، إذ أظهرت مخاوف من عوالم التغيير الثقافي واحتمالية حدوث تغييرات أكبر في المستقبل تؤثر على مستوى الحقوق والثقافات. كما زادت الهواجس من عدم مراعاة الاختلافات في العقائد وطرق الحياة، ما أثار تساؤلات حول مدى احترام التنوع الثقافي والاجتماعي في المرحلة المقبلة.
في المقابل، عكست هذه المخاوف أيضاً الهشاشة المجتمعية الناتجة من عقود طويلة من القمع، إذ بدت العلاقات الاجتماعية في المدينة متصدعة وغير قادرة على الصمود أمام التحولات المفاجئة. هذا الواقع أظهر ضعفاً في بناء نظام اجتماعي جديد قادر على استيعاب التنوع وإعادة الثقة بين الأفراد.
تشهد سوريا تغيراً قاسياً ومفصلياً، إذ يشعر الناس بشعور من الإخاء، نتج من الجهد الذي بذلوه خلال الأعوام الماضية لإنقاذ حياتهم يومياً وسط ظروف صعبة. في هذا السياق، قدمت اللاذقية نموذجاً جيداً للأمان الاجتماعي والمسامحة المضمرة بين سكانها، ما يعكس رغبة في التعايش وتجاوز الخلافات.
مع ذلك، كانت الفوضى التي شهدتها المدينة مصدر قلق عميق. فسهولة الانزلاق نحو الفوضى والكراهية تجاه مؤسسات الدولة، جراء التصاقها الرمزي بالنظام، تكشف عن هشاشة العلاقة بين الناس ومفهوم الدولة. هذا التصاق رمزي جعل مؤسسات الدولة تُرى كجزء من النظام القمعي، وليس كأداة لخدمة المجتمع، أو محاولة فهم الدولة كسفينة لإنقاذنا جميعاً.
إقرأوا أيضاً: