بالنسبة الى المواطن اللبناني الذي يبلغ الـ60 عاماً، لم تترك إسرائيل له فرصة ليعيش عقداً واحداً في سلام واستقرار. ستون سنة شهد فيها على 7 اجتياحات إسرائيلية للأراضي اللبنانية، أي إن الاجتياحات تغطّي مختلف حقبات عمره.
اليوم، بدأت إسرائيل بالتوغّل في الجنوب اللبناني بعملية تُسمى “الغزو المحدود”. إنه الغزو البري الرابع وانتهاك صارخ للقانون الدولي. الغزو غزو بحسب القانون الدولي مهما طال مداه أو قصر. إنه اجتياح يهدف إلى “ضم غير قانوني واسع للأراضي”، بحسب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو.
يحدث هذا التوغل في ظل صمت دولي، إذ أعلنت اليونيفيل، مثلاً، أن إسرائيل أبلغتهم بنيتها القيام بتوغل بري “محدود” في لبنان، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة عمل قوات الطوارئ الدولية، التي يُفترض أن تكون مهمتها تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701. ويثير هذا الوضع تساؤلات حول التزام المجتمع الدولي بمبادئ حقوق الإنسان والقوانين الدولية، بخاصة بعدما حظي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بتصفيق الجمعية العامة للأمم المتحدة مراراً الأسبوع الماضي، فيما كان الجيش الإسرائيلي ينفّذ جرائم حرب في مناطق عدة من لبنان.
على مدى أربعة عقود، تحولت الأراضي اللبنانية إلى مسرح للصراع العربي – الإسرائيلي، وهو ما استغلّته إسرائيل لتحتل جنوب لبنان لفترة دامت قرابة الـ18 عاماً. يقول الكاتب والصحافي في هآرتس جدعون ليفي “إن هذا السيناريو يتكرر في كل حرب تشنّها إسرائيل”. أولاً، لا أحد مهتم بحرب شاملة. ثم يأتي القصف الجوي، مع جميع أنواع العمليات. ثم تكون هناك عملية برية محدودة جداً، بالوقت والأرض. وبعد بضعة أسابيع، قد نكون في ضواحي بيروت”. وغالباً ما كانت المقاومة تحدد حدود التوغل الإسرائيلي، إذ أجبرت إسرائيل على وقف تقدّمها البري بعد “مجزرة الدبابات” التي وقعت في وادي الحجير عام 2006.
لا شك في أن إسرائيل انتهكت السيادة اللبنانية على مدى أربعة عقود، من دون اكتراث بالقوانين الدولية أو قرارات مجلس الأمن، وآخرها القرار 1701. إذ واصلت استباحة الأجواء اللبنانية، واستمرت طائراتها الحربية بالتحليق وإرسال الطائرات المسيّرة لجمع المعلومات، تمهيداً لتنفيذ “استراتيجية الضاحية”، واستهداف قادة حزب الله واغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، في محاولة لدفع الحزب إلى ما بعد نهر الليطاني وإنشاء ما تسميه “المنطقة العازلة”.
وفيما لا تشير التصريحات الإسرائيلية إلى محدودية العملية البرية، بل إلى توسع واحتلال جديد لأراضٍ لبنانية، صرح الوزير الإسرائيلي عميحاي شيكلي على منصة x ، إن ” لبنان، على الرغم من أنه يمتلك علماً ومؤسسات سياسية، لا يمكن تعريفه بالدولة…”. ويضيف أن هذا الأمر يتطلب “إعادة حساب المسار في ما يتعلق بالخط الحدودي مع الكيان الذي يسمي نفسه دولة لبنان”.
وقال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان عبر حسابه على X: “ما نحتاجه الآن هو إنشاء محيط بطول 10 كيلومترات”، وأضاف: “يجب تسوية جميع القرى اللبنانية الواقعة ضمن هذا النطاق أرضاً، بما في ذلك العديسة وكفركلا… ليس لدينا خيار سوى التصرف كما فعلنا في القنيطرة”. ويتضمن هذا التصريح دعوة صريحة لاستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، إذ إن تدمير البنية التحتية المدنية من دون ضرورة عسكرية واضحة يُعتبر انتهاكاً لمبدأ التناسب والتمييز. ويظهر استهتاراً بالقوانين الدولية للنزاعات المسلحة، إن لم تكن هذه القوانين فعالة في النزاع الحالي.
تشير تنبيهات المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي عبر X ، إلى “التوجه إلى شمال نهر الأولي” وليس “التوجه إلى شمال الليطاني”، وربما تكون هذه خريطة لأطماع التوسع الإسرائيلي الجديد. ساحة الاشتباك مع الإسرائيلي هي التي ستحدد النطاق الجغرافي والزمني “للاحتلال الجديد”.
إقرأوا أيضاً:
عقود من الانتهاكات للقوانين الدولية وأكثر من 21 مجزرة
بدأت الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية في 28 كانون الأول/ ديسمبر 1968، حين شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية هجوماً على مطار بيروت الدولي وأطلقت على العملية اسم “دار”. وجاء هذا الهجوم رداً على عملية اختطاف طائرة كانت متجهة من تل أبيب إلى روما نفذتها المقاومة الفلسطينية. شاركت 8 مروحيات إسرائيلية في الهجوم على مطار بيروت الدولي، ودُمِّرت جميع الطائرات التجارية التابعة لشركات الطيران العربية، بما في ذلك 13 طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط. قُدرت الأضرار بنحو 43.8 مليون دولار. وأصدر مجلس الأمن القرار 262/1968، الذي أدان إسرائيل على “عملها العسكري المتعمد في انتهاك التزاماتها بموجب الميثاق وقرارات وقف إطلاق النار”، واعتبر أن “هذه الأعمال تهدد السلام”.
في 9 نيسان/ أبريل 1973، اغتالت إسرائيل ثلاثة من كبار قادة حركة فتح في قلب بيروت، رداً على اغتيال رياضيين إسرائيليين في أولمبياد ميونيخ. وسُميت العملية آنذاك بـ “فردان” أو “ينبوع الشباب”، ونُفِّذت بعد جمع معلومات استخباراتية بمساعدة عملاء، من بينهم فتاة تدعى “يائيل”. وشارك فيها جنود وضباط إسرائيليون، من بينهم رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، الذي كان متنكراً بزي امرأة، وفقاً لما يذكره الكاتب رونين بيرغمان في كتابه “انهض واقتل أولاً: التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية”، الذي يشرح فيه تفاصيل “عملية فردان” بشكل مفصل.
وفي عام 1978، شنّت إسرائيل “عملية الليطاني” بهدف إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية وإنشاء منطقة عازلة على بعد 10 كيلومترات من الحدود، وهي “الحجة” ذاتها التي تعتمدها اليوم في حربها مع حزب الله. احتلت القوات الإسرائيلية منطقة جنوب نهر الليطاني لمدة ثلاثة أشهر قبل أن تنسحب نتيجة الضغط الدولي وصدور قراري مجلس الأمن 425 و 426 اللذين نصّا على إنشاء قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان. جاءت عملية الليطاني رداً على عملية “كمال عدوان”، التي نفذتها الفلسطينية دلال المغربي مع فدائيين آخرين على حافلتين قرب تل أبيب. وقُدر عدد ضحايا “عملية الليطاني” بـ 1100 مدني، وإصابة 2000 شخص، وتهجير ما بين 100 و250 ألف شخص من منازلهم.
عادت إسرائيل لغزو لبنان وفرض حصار على بيروت عام 1982، متذرّعة بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف. وحددت القيادتان الإسرائيليتان السياسية والعسكرية وصول الجيش حتى 40 كيلومتراً عن الحدود الدولية، بحسب ما يقول جوني منصور وفادي نحاس في كتابهما “المؤسسة العسكرية في إسرائيل”.
أدت “حرب سلامة الجليل” أو “حرب لبنان الأولى”، وفقاً لمسح مفصل لسجلات الشرطة والمستشفيات أجرته صحيفة النهار، إلى مقتل 17,825 شخصاً وإصابة 30,203 آخرين.
ووصلت القوات الإسرائيلية إلى بيروت واحتلت القصر الرئاسي في بعبدا، وذلك بعد يومين من توغلها داخل الأراضي اللبنانية واحتلال مناطق صور والنبطية وحاصبيا والشوف. وحصلت مجزرتا صبرا وشاتيلا حيث قُتل المئات من المدنيين. في حين تتضارب الأرقام عن الحصيلة النهائية للضحايا، تقول بيان نويهض في كتابها “صبرا وشاتيلا” بعد مرور 20 عاماً على وقوع المجزرة”، إن عدد الضحايا الذين استطاعت توثيق أسمائهم بلغ 960 ضحية، بالإضافة إلى 408 من المفقودين أو المخطوفين. وأشارت مصادر أخرى إلى أن عدد ضحايا المجزرة وصل إلى 3000 ضحية، بحسب الـ “بي بي سي”.
استخدمت إسرائيل في هذه الحرب سياسات التجويع من خلال فرض حصار استمر لمدة 7 أشهر على مدينة بيروت، إلى جانب ارتكابها سياسات إبادة جماعية وجرائم حرب. كما ارتكبت جرائم بيئية باستخدام القنابل الفوسفورية.
في عام 1993، ولمدة 7 أيام، نفّذ الجيش الإسرائيلي معركة “تصفية الحساب”، إذ استهدفت القوات الجوية والبرية مناطق مختلفة من لبنان وصولاً إلى ضواحي مدينة بيروت. وأسفر العدوان عن مقتل 150 ضحية بالإضافة إلى سقوط الكثير من الجرحى.
وفي عام 1996، نفذت الطائرات الحربية الإسرائيلية نحو 139 غارة في عملية أطلقت عليها اسم “عناقيد الغضب”، حيث ارتكبت مجزرة قانا التي أسفرت عن وقوع نحو 170 ضحية. وتمادت إسرائيل في انتهاكها القانون الدولي بتنفيذ غارة على مقر الأمم المتحدة حيث لجأ المواطنون.
أبقت إسرائيل احتلالها للجنوب لمدة 18 عاماً، وانسحبت تدريجياً من بعض المناطق حتى الانسحاب الكبير عام 2000. لكن في العام 2006، وقعت “حرب لبنان الثانية” أو “حرب تموز”، التي استمرت لمدة 34 يوماً وأودت بحياة 1200 شخص. ونفذت الطائرات الحربية الإسرائيلية نحو 7000 غارة، وألقى الجيش الإسرائيلي قنابل عنقودية، وهي ذخيرة قديمة يعود عدد كبير منها إلى حرب فيتنام، بحسب هيومن رايتس ووتش.
جاءت الحرب رداً على اختطاف حزب الله جنود إسرائيليين وقتل آخرين في جنوب لبنان.
لم تفرّق يوماً بين المدنيين والعسكريين على الجبهة
خلصت تحقيقات هيومن رايتس ووتش إلى أن إسرائيل كانت غالباً ما تهاجم أهدافاً لا يمكن اعتبارها أهدافاً عسكرية تصح مهاجمتها بموجب قوانين الحرب، وهو ما يعتبر انتهاكاً فاضحاً للقانون الإنساني الدولي.
ففي مراجعة لتاريخ العدوان الإسرائيلي، نفذت إسرائيل 21 مجرزة في لبنان حتى العام 2006. وتستكمل إسرائيل مجازرها في لبنان خلال الحرب الحالية التي أطلقت عليها إسم “سهام الشمال” أو “حرب لبنان الثالثة”، إذ نفذت منذ توسع عدوانها مجازر في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب وبعلبك. وبحسب بيان هيئة الكوارث، قتلت إسرائيل 1873 شخصاً وأصابت 9134 بجروح منذ بدء الحرب في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم. وقُدر عدد المهجرين بحوالى مليون شخص، بينهم 300 ألف طفل بحسب اليونيسيف.
تدّعي إسرائيل حماية المدنيين من خلال توجيه إنذارات عبر حساب أفيخاي أدرعي على X، وتقصف المواقع بعد دقائق غير آبهة بحياة المدنيين. فلا جدوى من هذه الإنذارات الموجهة في ساعات ما بعد منتصف الليل وعبر منصة لا يستعملها الكثير من المواطنين. تريد إسرائيل قتل “الهدف” وإن أودت بحياة العشرات أو المئات من المواطنين. ففي حين هناك تعتيم عن الضحايا المدنيين الذين ارتقوا في عملية اغتيال نصرالله، تشير وسائل إعلام إسرائيلية الى أن عدد الضحايا وصل إلى 300 ضحية.
هذه حقبة جديدة من النزاع المسلح بين لبنان وإسرائيل. ففي الحرب الحالية التي تشنّها على لبنان وغزة، وصفت إسرائيل بـ “مصنع إغتيالات جماعية”، إذ تستخدم أنظمة ذكاء اصطناعي صممتها الوحدة 8200 التابعة الإسرائيلية لتحديد الأهداف. وتستخدم إسرائيل طائرات الـ F35 الأميركية الصنع التي وصفها ضابط في الجيش الإسرائيلي بـ “الكومبيوتر الطائر”، في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على لبنان بحسب وسائل إعلام إسرائيلية. وتمتلك إسرائيل نسخة خاصة بها من هذه الطائرة تسمى “أدير” بحسب موقع The National Interest، إذ تم تعديلها لتزويدها بأنظمة الحرب الإلكترونية المتقدمة. واعتبرت محكمة الاستئناف في هولندا أن هناك خطراً واضحاً من مشاركة طائرات F35 في عمليات تنتهك القانون الإنساني الدولي.
تستخدم إسرائيل أيضاً قنابل “المطرقة” أو ما يُعرف بقنابل “مارك 84” الخارقة للتحصينات، والتي أشار الرئيس الأميركي جو بايدن في تصريح له لـ “سي أن أن”، إلى أنها أدت إلى مقتل مدنيين في غزة، مضيفًا أن “تلك القنابل ووسائل أخرى تستهدف المراكز السكانية”.
أصبحنا جميعاً من “جيل الحرب”، وهو مصطلح واسع النطاق في لبنان يعكس تجارب جيل عاش ويلات الصراع المستمر. لسنا جيل “القنابل العنقودية”، بل نحن جيل “السلاح السيبراني”، الذي يجسد استخدام التقنية العسكرية المتقدمة وما تسببت به من تدمير للبنية التحتية، وقتل وتهجير الكثير من اللبنانيين، بالإضافة إلى اللاجئين. لقد غدونا جميعاً متساوين في هذه المعاناة، إذ أصبحت الحرب جزءاً لا يتجزأ من هويتنا الجماعية. لم تكتفِ إسرائيل بما سمعناه من ذكريات آبائنا، بل حرصت على أن نشاهد هذه الفظائع بأعيننا.
إقرأوا أيضاً: