مع تزايد وتيرة الغارات الإسرائيلية التي طاولت جنوب لبنان وبيروت والبقاع، وإعلان إسرائيل عن اجتياح بري، توافدت آلاف العائلات السورية للعودة إلى بلادها هرباً من وطأة الحرب.
مشهد مكرر شهده السوريون بشكل دوري، ولكن الموكب اليوم جمع شعبان تقاسما المآسي و الحروب في نقطة المصنع. في المكان ذاته وبعد 18 عاماً، استعاد اللبنانيون مشهد حرب تموز، في موجة من الهجرة العكسية تعدّ الأشد من نوعها.
بينما يشنّ الجيش الإسرائيلي أوسع عدوان على لبنان منذ بدء المواجهات مع حزب الله قرابة العام، كشفت جريدة الوطن السورية أن أكثر من 125,000 “عائد سوري” و 52,000 “وافد” لبناني نفذوا إلى الأراضي السورية حتى يوم 01-10-2024 عبر المعابر الشرعية. وتعدّ موجة النزوح الحالية الأضخم في تاريخ لبنان وفق رئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي.
أولت حكومة النظام اهتماماً رسمياً وإعلامياً وخدميّاً غير مسبوق بـالوافدين اللبنانيين، إذ زار محافظا ريف دمشق و حماة عدداً من الأسر النازحة وأبدا استعدادهما لتقديم الدعم و المساندة للوافدين من لبنان. وطلب رئيس مجلس الوزراء السوري الجديد محمد الجلالي في اجتماع للحكومة، تأهُّب منظومة الإسعاف السريع في المراكز الحدودية، وتوفير الخدمات الصحية وكافة والأدوية، كافلاً تقديم كل التسهيلات لإدخال المساعدات الطبية والإغاثية إلى لبنان. وأشار نائب محافظ ريف دمشق في لقائه مع إذاعة “شام إف إم” المحلية، الى أن المحافظة جهزت “مراكز إيواء مخدّمة في مناطق عدة وفنادق بمنطقة السيدة زينب للإخوة اللبنانيين”.
حصل هذا “الاحتفاء” والتسهيل وسط تجاهل تام للعائدين من أبناء البلد السوريين، الذين اعتادوا اللجوء والتنقل، وعاشوا جميع صور الأزمات المعيشيّة و الإنسانية، إذ أُجبر الأفراد السوريون على تصريف “المئة دولار” بسعر البنك المركزي منذ بداية الحرب وحتى تاريخ 29 سبتمبر/ أيلول ( عُلِّق صرفها لمدة أسبوع لاحقاً)، و من دون أن يلقوا أي تسهيلات خدمية أو مأوى بديل، على الرغم من إعلان السلطات عن فتح مكاتب تسجيل عند المعابر الحدودية بهدف تسوية أوضاع السوريين، وبخاصة المهاجرين بطرق غير شرعية، مقابل مئة ألف ليرة سوريّة، إلا أن الكثيرين فضّلوا العودة سيراً على الأقدام بشكل غير شرعي مرة أخرى خشية الملاحقة الأمنية وتفادياً لتصريف النقود.
“الطرق” نحو سوريا
خلال الأيام الماضية، واجهت المنطقة وابلاً من الغارات والتهديدات والإنذارات بالإخلاء، بخاصة في البقاع وجنوب لبنان عموماً، هذا ما دفع آلاف السوريين إلى الفرار من أنقاض بيوتهم و افتراش العراء و الحدائق العامة،.كما وقع الكثير من الشبان في دوامة الحيرة والارتباك من قرار العودة، لعدم ثقتهم بالنظام السوري حتى في الأزمات والحروب الإنسانية. وتسابق اللاجئون لمغادرة المحافظات الجنوبية بعد غارات عنيفة وقعت الاثنين 23 أيلول/ سبتمبر تركت الكثير من الأهالي تحت الردم.
السيارات التي أقلت المتضررين إلى مراكز الإيواء لم تنقل في معظمها اللاجئين السوريين معهم، بحجة أن المراكز امتلأت تارة، وطوراً بسبب قرارات صارمة من وزير الداخلية ووزير التربية تنص على عدم استقبال السوريين بالمراكز بذريعةً أنها مخصصة للمواطنين فقط، مثل مراكز صيدا وقضاء زحلة-البقاع و غيرها، ما دفع سوريين إلى التوجه نحو المعابر الحدودية السورية – اللبنانية الخمسة، وكان معبر المصنع (جديدة يابوس) هو الأكثر اكتظاظاً، إذ نفذ منه (بصورة شرعية) أكثر من 90 ألفاً من السوريّين و30 ألفاً من اللبنانيّين حتى يوم الأحد.
لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد جميع النافذين الى سوريا نظراً الى كثرة المعابر غير الشرعية، إذ يوجد 136 معبراً غير شرعي يمكن التسلل عبره، عدد كبير منها يقع تحت سيطرة حزب الله مثل حوش السيد علي عند أطراف بلدة الهرمل الشمالية الشرقية ومعبر مطربا الحدودي الذي نال نصيبه من الغارات أيضاً. وقد دأب الحزب على استخدام هذه المسالك لإدخال الشاحنات والمقاتلين إلى الأراضي السورية، ويمكن العبور من خلالها تنقلاً بين سيارات المهربين ومشياً على الأقدام (لمدة تتجاوز الـ 4 ساعات) لتخطّي حواجز النظام السوري بعد دفع المهربين الرشى لعناصرها مقابل السماح لهم بالمرور من دون اعتقالهم.
واجه السوريّون مأساة مضاعفة نتيجة العدوان الإسرائيلي، إذ سبقتها حملة تحريض ممنهجة ضدهم في لبنان وتردي الأوضاع المادية والمعيشية لمعظمهم، بخاصة الشبّان الذين يعيشون من دون أوراق إقامة قانونية على الأراضي اللبنانية، ما يجعل “تكلفة العودة للوطن” باهظة مادياً و معنوياً عليهم.
في المقابل، أرسل مصرف سوريا المركزي مكاتب متنقلة بالإضافة إلى عدد من شركات الصرافة إلى الحدود السورية – اللبنانية لتسهيل عملية “شد” المئة دولار من جيوب اللاجئين السوريين العائدين إلى بلادهم، وتيسير عملية تصريف أموال اللبنانيين لتعذّر التعامل بغير العملة السورية داخل البلاد.
وسط ازدحام مروريّ خانق، تكدّس النازحون عبر المعابر الحدودية ساعات طوال، بخاصة معبر المصنع الذي شهد كثافة بالوافدين ومحاولات حثيثة من الهلال الأحمر لتقديم الإسعافات الأولية والمستلزمات الأساسية للنازحين. ووفق شهادات كثر، يسّر الجيش اللبناني عبور اللبنانيين و السوريين على حد سواء، واكتفى العاملون هناك بأي وثيقة للنازحين لختمها ولو كانت جواز سفر منتهي الصلاحية. بينما أعلنت “الإدارة الذاتية” يوم الاثنين، عن دخول أكثر من 3228 وافداً إلى مناطق سيطرة ميليشيا قسد في شمال شرقي سوريا عبر معبري الطبقة والتايهة، 12 منهم من الجنسية اللبنانية.
وبحسب تصريحات رئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي، في أيار/ مايو 2024، بات تعداد اللاجئين السوريين يناهز ثلث عدد السكان على الأراضي اللبنانية. و الجدير بالذكر أن حملات شرسة للإعادة القسرية طاولت اللاجئين منذ بداية العام تحت مسمى” العودة الطوعية”، أدت إلى اعتقال ما لا يقل عن 145 لاجئاً في سجون النظام.
وكانت هيومن رايتس ووتش أصدرت تقريراً في أيلول/ سبتمبر الماضي، مفاده أن القوات المسلحة اللبنانية والسلطات القبرصية يعملان معاً لمنع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا، ثم ترحيلهم ليواجهوا الخطر في سوريا.
سوريا ترحب بكم !
نقلت وسائل إعلام كثيرة شهادات نازحين لبنانيين وعائدين سوريين لمحاولات ابتزاز واستغلال بالجملة وقعت عند محاولتهم الدخول إلى الأراضي السورية عبر المنافذ الشرعية. فقد شهد معبر المصنع سائر أنواع الرشى والسمسرة بحجة تسريع إجراءات العبور، إضافة إلى عروض لتجاوز الطابور بأقل من ساعة مقابل 50 دولاراً. علاوة على ذلك مكثت مئات العائلات قرابة الـ5 أيام على الحدود السورية لعدم قدرتها على تأمين مئة دولار لكل فرد منها، إلى حين علّقت حكومة النظام بطلب من رئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي قرار تصريف المئة لمدة أسبوع ابتداءاً من تاريخ 29 أيلول، بعد 7 أيام من استغاثة السوريين على الحدود.
وشهدت محافظات سورية عدة أعمال شغب وترهيب من مجموعات تابعة لحزب الله اللبناني، لا سيما محافظة حمص حيث تمركزت عائلات لبنانية في منازل المهجّرين في القصير والقرى الموالية للحزب، وأقدمت مجموعات مدعومة من حزب الله على التجول حاملين رايات طائفية بمركز المدينة وشوارعها الرئيسية مرددين عبارات تندد بمقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ومتوعدين بأشد عقاب لمن شمتوا بمقتله. كما أن بعضهم اعتدى على ممتلكات الأهالي وحطّم سياراتهم وأجبرهم على إغلاق محالهم حداداً على زعيمهم، على مرأى من أمن الدولة الذي لم يحرك ساكناً.
في سياق متصل، تعالت الأصوات منذ بداية موجة النزوح، مشيرة إلى أن التفرقة بالتعامل بين سوري و لبناني زادت من هوّة العنصرية بين أبناء البلدين، بخاصة أن التسهيلات التي قدّمت للأخوة اللبنانيين لم يطل “اللاجئ السوري المزدوج” أياً منها، إذ إن تسهيلات السكن و الطبابة في المستشفيات وإعفاء أجهزة الجوال من الجمركة و باقات الإنترنت المجانية كانت حكراً على اللبنانيين وحدهم، ما أصّل شعور الاغتراب لدى العائدين إلى بلدهم الأم.
أوضاع مضطربة
كثرت في سوريا المبادرات الفردية و الجماعية لمؤازرة النازحين ورفدهم بالحاجيات الأساسية، بالإضافة إلى تأمين بيوت سكنية بالمجان وبإيجارات رمزية. أما عن مواقع توزّع اللاجئين فكانت النسبة الأكبر منها من نصيب حمص ودمشق وريف دمشق وطرطوس.
في حين أعرب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية الأممي “أوتشا” عن قلقه إزاء تدفق السوريين واللبنانيين عبر الحدود إلى سوريا، مشيراً إلى أن “المزيد من حالات الطوارئ الإنسانية غير ممكن في هذه المرحلة”، والى أنه “في الأراضي السورية، يحتاج 16.7 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية”.
وأكد “أوتشا” أن الأمم المتحدة والشركاء يعملون بالتنسيق مع “الهلال الأحمر السوري” لتوفير المياه والغذاء والفرش والبطانيات وغيرها، بخاصة على المعابر الحدودية.
وتسجّل الحرب على لبنان يومها التاسع وسط تسارع هائل في الأحداث وتفاقم بأعداد الوفيات في صفوف الحزب، على رأسهم زعيم حزب الله حسن نصرالله الذي استُهدف الجمعة برفقة أكثر من 20 قيادياً في ضربة على مقر القيادة التابع للحزب في ضاحية بيروت الجنوبية. فيما أعلن الجيش الإسرائيلي يوم السبت، فرض حصار عسكري على لبنان بهدف منع “حزب الله” من إعادة التسلح عبر سوريا وإيران.
ولم يقتصر عدوان القوات الإسرائيلية على منطقة الضاحية الجنوبية فحسب، بل امتد ليشمل مناطق عدة، منها الكولا في بيروت ومعبر جديدة يابوس منفذ اللاجئين الى سوريا.