المؤتمر الوطني الفلسطيني في الدوحة، قد يتحول إلى محطة مفصلية لتقييم الأوضاع الفلسطينية وسبل الخروج من هنا، ولو بأمل بسيط أو بالقليل من الأفكار التي قد تساهم في استمرار الحوار الفلسطيني للذهاب الى مستقبل مختلف عما سبق، مستقبل يحمل أملا بإمكانات شعبنا في تحقيق أهدافه الوطنية.
قادت التحضيرات وترتيب أجندة المؤتمر، مجموعة مميزة من الناشطين الفلسطينيين، أصحاب إرث نضالي كبير، وحضور مركزي في النقاشات الفلسطينية، وتتكاثف تجربتهم بوجود المئات من الناشطين المركزيين، في التحضيرات وفي المؤتمر نفسه.
هل نخرج من “الورطة” الحالية!؟
العقدة المركزية في هذا المؤتمر تتعلق بضرورة خروجه بأفكار تستطيع أن تحمل أملاً فلسطينياً متجدداً، والأمل يأتي على خلفية أصعب وضع فلسطيني منذ سنوات النكبة وما تلاها، وهذا يضع المؤتمرين في وضعية صعبة تتطلب اجتراح أفكار قد تساهم في نشل الوضع الفلسطيني. ليس بالضرورة أن تكون الأفكار ثورية وغير مسبوقة، ولا أن تكون تاريخية، بل المهم أن تكون قابلة للتنفيذ وباعثة للأمل.
ليس المطلوب نقاش الدولة أو الدولتين ولا الحلول السياسية ولا أفكار ومشاريع التحرر والتحرير، أياً كانت، بل بالأساس المهم هو سؤال كيف نثبت شعبنا وكيف نساهم في أفكار عملية تخرجنا من ورطتنا الحالية.
أعتقد أن القيمين على المؤتمر يعون جيداً أن الوضع الفلسطيني والإسرائيلي والدولي لا يساعد في خروج الفلسطينيين من انكسارهم الحالي، إلا أنني على ثقة بأنهم يدركون أن شعبنا حي وقادر على عبور المرحلة، وأن الأفكار موجودة، والمهم هو تنظيمها لتتحول الى رزمة متناسقة قد تؤتي بثمار باعثة للأمل وللانطلاق الوطني.
بعد تقديم كل الحيثيات التي تستوجب تفكيراً فلسطينياً مركزاً ومعمقاً ومسؤولاً حول الوضع الفلسطيني، وذكر الجرائم الإسرائيلية والعنجهية الأميركية والتردي الداخلي وسرد عوامل الأمل من حيث القوة الكامنة لدى الشعب الفلسطيني والدعم الشعبي في العالم والالتفات الواضح في مؤسسات دولية لدعم نضاله ومعاقبة إسرائيل على جرائمها، آمل ألا يستغرق المؤتمرون في تفصيل هذه المسائل، لأنها معروفة ولا حاجة الى ترديدها مرة أخرى وخصوصاً أن كل من حضر أو شارك في التحضيرات يعرف تماماً هذه الحيثيات كلها.
المؤتمر في رأيي يجب أن يركز على ثلاثة مفاصل مركزية. المفصل الأول وأورده مقتضباً، يتعلق بكيفية استثمار الفلسطينيين الدعم الشعبي والدولي لقضيتهم وعدم تبديد هذا الدعم من دون أي استثمار وطني ومنسق. المفصل الثاني يتعلق بكيفية خروج المؤتمر في أفكار عينية تساهم في تعضيد الصمود الفلسطيني في ظل وضع فلسطيني متردِّ، دعم عربي يتراجع أو يحاول استثمار الوضع الفلسطيني لتحسين مواقع الدول العربية على حساب الفلسطينيين وقضيتهم، ووضع دولي تقوده الدولة الأهم، الولايات المتحدة، والذي يتضمن مواقف وسياسات تتماهى مع سياسات ومواقف اليمين الفاشي في إسرائيل، كما الوضع الإسرائيلي الذي ينضح بالاستعلاء والفاشية وسياسات الاستعمار الاستيطاني، وصولا الى سياسات التطهير العرقي والقمع اليومي في غزة والضفة والداخل.
بين “الصمود الإيجابي” و”أبواب جهنم”
أفكار “الصمود الإيجابي” هي المفتاح في هذا المجال. فشل مساري المفاوضات حسب أوسلو والحل العسكري بطريقة “طوفان الأقصى”، يتطلب تغييراً جذرياً في الترتيبات الفلسطينية. إسرائيل تحاول بوسائل شتى إبعاد الفلسطينيين عن وطنهم، ويدعمها الرئيس الأميركي بأفكار ترانسفيرية وتهديدات بفتح “أبواب جهنم”، وينفذ جيشها ومستوطنوها ومؤسساتها الأمنية والسياسية، سياسات محددة في هذا السياق.
المطلوب إعادة الاعتبار الى “الصمود الإيجابي”، أي رفد الواقع الفلسطيني بسلة كبيرة من النشاطات والجهود لتعضيد الوجود وتعميق التمسك بالوطن، مع إعطاء الناس أملاً بهذا البقاء والوجود، وخلق حالة من الثقة المتبادلة بين الناس وبين قياداتهم ونخبهم.
يزخر التاريخ الفلسطيني منذ الـ48، في الضفة وغزة والقدس وفي المخيمات، بأمثلة نستطيع التعلم منها. من المهم إعادة الاعتبار الى الصمود الإيجابي والتكاتف الأهلي، الذي يضيف إلى البقاء والتشبث أفكاراً عن المقاومة الشعبية الأهلية، التي لا تسمح باستنزاف قدرات شعبنا ولا توفر أعذاراً لإسرائيل وللولايات المتحدة للاستمرار في غيّهم وسياساتهم الترانسفيرية. لدى شعبنا قدرات إنسانية ومادية تؤهله للقيام بذلك وبجدارة، المهم هو تنظيم الأفكار ووضعها قيد التنفيذ، وهذا ممكن ونستطيع القيام به.
والأهم، إعادة الاعتبار الى سيرورة السياسة الفلسطينية، لشكل ومضمون اتخاذ القرار وتنفيذ السياسات التي تحمي الشعب الفلسطيني وتقدمه الى الأمام، فلسطينياً وإسرائيلياً وعربياً ودولياً. أعترف بانزعاجي من أفكار ناقشت التحضيرات للمؤتمر، ومنها تلك التي تنادي بتنسيب قيادة فلسطينية جديدة، أو بالتعلم من تجربة انتقال السلطة الى حركة فتح عام 1968، أو مطالبة حماس بقيادة المرحلة أو لوم قيادة رام الله ومدح حماس – أي عدم توجيه النقد الى كل القيادات والفصائل، وكلها شريكة في إيصالنا الى وضعنا الحالي.
كما لم أستسغ فكرة نقل السلطة داخل منظمة التحرير كما حدث عام 1968، فالفلسطينيون اليوم ليسوا ما كانوا عليه عام 1968، وفتح اليوم ليست ما كانت عليه عام 1968، وفتح الـ68 تختلف جذرياً عن حماس اليوم. إخفاقات حماس هائلة وباهظة الثمن، وهي مختلفة جوهرياً عن حركة فتح التي كانت تشبه شعبها، وقيادة فتح آنذاك لا تضاهيها قيادات الفصائل اليوم.
منظمة التحرير موجودة، والدخول في نقاشات حول شرعيتها لا يفيد، ولن يقدمنا قيد أـنملة، بل قد يسحبنا الى الخلف، وليس في مثل هذا المؤتمر أية أدوات تؤهله لقيادة شعبنا ولا لاقتراح بدائل سياسية لقيادة شعبنا.
وسائل وطنيّة تخدم الشعب الفلسطيني
المطلوب من المؤتمر طرح أفكار حول كيفية إعادة الاعتبار الى المؤسسات الوطنية، وجعل المؤسسات السياسية تمثّل شعبنا بشكل حقيقي، وطرح الانتخاب المباشر والشفافية وعدم القبول بالشرعية الثورية، لأن بدائلها موجودة، وهكذا يمكن إقناع الفلسطينيين بالانخراط فيها، وكسب دعم عربي ودولي لذلك.
المؤتمر قادر على بلورة هذه الأفكار، لكن المهم طرح الوسائل التي تمكن شعبنا، وخصوصاً الأجيال القادمة، من بلورة سيرورة وطنية وديمقراطية وشرعية تقود شعبنا، تخطّط وتنفذ باسمه ووفقاً لمصالحه، وليس مصالح الـأفراد امتيازاتهم.
علينا أن نتجاوز الماضي والحاضر، وعدم السماح لممثلي السياسة القديمة، بما في ذلك كل الفصائل، في تصميم الأفكار وإخراجها، وعدم الوقوع في شرك كرم النظام العربي وعدم المفاضلة بين الأنظمة في بيانات المؤتمر، فجميعها متورطة في التنسيق الأمني والسياسي مع إسرائيل، مباشرةً أم من خلال الولايات المتحدة، وطبعاً مع الحفاظ على الود مع الدول والمجتمعات العربية، لكن بشرط الإصرار على استقلالية القرار والعمل الوطني الفلسطيني.
شعبنا قادر، والمؤتمرون هم زبدة مهمة من أبناء شعبنا، وقادرون على طرح وإنضاج الأفكار وعدم السماح بالاستمرار في إضاعة الفرص واستمرار حالة التيه التي تسيطر عليه.
إقرأوا أيضاً: