“أنا مش مع الـ Strong Independent Women لأنو بتبقى المرأة وحيدة على فكرة وما حد رح يتجوّزها”، هكذا حسم المؤثّر الإماراتي حسن السعود في فيديو، نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، النقاش حول استقلالية المرأة الاقتصادية، معتبراً أن الرجل لن يشعر برجولته إلا عندما يكون “مُعيلاً” للمرأة.
لم يكن السعود وحده من عبّر عن موقفه الرافض لاستقلال المرأة المادي بهذا الأسلوب الفظ، بل يُعتَبر حديثه جزءاً من حملة تتعاظم على مواقع التواصل الاجتماعي، تسعى إلى تكريس فكرة أن استقلالية المرأة تُنقص من قيمتها كأنثى، وتُلغي دور الرجل كرجل، وفق المفهوم التقليدي لأدوار المرأة والرجل.
هذا الخطاب المتكرر لا يأتي من فراغ، بل يعكس توجهاً يتصاعد عالمياً، ويجد صداه هنا في المنطقة، في محاولة للانقضاض على المكتسبات المحدودة التي حققتها النساء، لإعادة تشكيل المفاهيم المتعلّقة بالعلاقات بين الجنسين، وكأن هناك رسالة مباشرة للنساء تقول: “إحذرن، الاستقلالية ستجعل منكن غير مرغوبات”.
ما هي ظاهرة الـManosphere؟
هذه الظاهرة تُعرف عالمياً باسم “فضاء الرجال/ Manosphere”؛ وهو مصطلح يُشير إلى شبكة من مجتمعات الرجال على الإنترنت، التي تُعارض تمكين المرأة، وتُروّج لمعتقدات معادية للنسوية وتمييزية ضد حقوق النساء. هذه الظاهرة تُلقي اللوم على الحركات النسوية، لتحميلها تبعات مشكلات مختلفة، في محاولة لحماية النُظُم المجتمعية التقليدية، وتقويض المطالبات بالمساواة، ويُشجّع الكثير من هذه الأصوات على نقد النسوية، وصولاً إلى حدّ الكراهية تجاه النساء والفتيات.
ولكن لحظة، هل حقاً الأمر بهذه البساطة؟ هل الأنوثة تعني الحاجة؟ والرجولة تعني العطاء المالي؟ هل المرأة التي كافحت عبر التاريخ، من العمل غير المدفوع إلى النضال النسوي من أجل المساواة في سوق العمل، أصبحت اليوم فاقدة لأنوثتها لمجرد أنها أصبحت مستقلّة مادياً، أو تسعى لأن تكون كذلك؟
الجذور التاريخية لاستقلالية المرأة الاقتصادية
لطالما كانت المرأة جزءاً أصيلاً من قوّة العمل، حتى قبل الاعتراف الرسمي بمساهمتها الاقتصادية. ففي المجتمعات التقليدية، اقتصر دورها على العمل المنزلي، وتربية الأطفال، والقيام بالمهام الأسرية والمجتمعية غير المأجورة، إذ اعتُبر أن ما تقوم به “واجب طبيعي” لا يحتاج إلى تعويض.
ومع ظهور الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، بدأت النساء في الدخول إلى سوق العمل الرسمي، ولكن بأجور منخفضة وظروف قاسية. ومع ذلك، ظلّت أدوارهن محدودة في الأعمال التي تتطلّب مهارات يدوية بسيطة، مثل صناعة النسيج والخياطة والعمل المنزلي المدفوع. أما الحركة النسوية، التي بدأت تأخذ زخماً في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد لعبت دوراً رئيسياً في المطالبة بحقوق النساء في العمل بأجر عادل، وتقليل الفجوة بين الجنسين في سوق العمل. وبفضل هذه النضالات، حصلت النساء على حقوق قانونية، مثل تحديد ساعات العمل، تحسين ظروفه، والمطالبة بالمساواة في الأجور. ومع مرور الوقت، أصبح للمرأة الحق في شغل مناصب عليا، وبدأت الاستقلالية الاقتصادية تتحوّل من حلم بعيد إلى واقع ملموس، ما سمح لها بالخروج من دائرة التبعية الاقتصادية للرجل والعيش بحرية واستقلالية أكبر.
بعد كل هذه النضالات التي خاضتها النساء، وبعد العقود الطويلة من التهميش، والعمل غير المدفوع، والكفاح من أجل الحقوق، والتعليم، والمساواة، وبعدما أصبحت المرأة قادرة على إعالة نفسها واتّخاذ قراراتها بحرية، يأتي البعض ليقول إن استقلالها يجعلها “تفقد أنوثتها”، وكأن الأنوثة مرهونة بالاعتماد الاقتصادي على الرجل.
هذا الطرح لا يعكس فقط رؤية ضيقة لدور المرأة، بل يكشف عن خوف مجتمعي عميق من التغيير، الذي يُهدد مفاهيم قديمة حول الأدوار الجندرية. فعندما قالت الكاتبة المصرية نوال السعداوي: “إن ذكاء الزوجة يخدش رجولة الزوج، ولا بدّ للمرأة من أن تُخفي ذكاءها لتحافظ على حياتها الزوجية من الانهيار، وهكذا تصبح كل الزوجات غبيات. فالغباء مرادف للنجاح في الزواج”، لم تكن تتحدث عن عصر مضى، للأسف، بل كانت تصف تماماً الحالة التي ما زلنا نناقشها حتى اليوم. الفكرة لم تتغيّر، بل تغيّر فقط شكل الخطاب. بالأمس، كان يُطلب من المرأة أن تتظاهر بالغباء كي لا تُهدد “هيبة الرجل”، واليوم يُطلب منها أن تتنازل عن استقلالها كي لا “تفقد أنوثتها”.
إقرأوا أيضاً:
حصر المرأة في صورة “الضعيفة التي تحتاج إلى إنقاذ”
لكن ماذا تعني الأنوثة أصلاً؟ هل تُختزل فقط في الضعف، والحاجة، والاعتماد؟ وإذا كانت كذلك، فهل تعني الرجولة العكس تماماً؟ هل تعني القوّة المادية فقط؟
الأنوثة والرجولة ليستا مجرد قوالب جامدة حُددت منذ قرون، بل هما مفهومان يتغيّران مع تطوّر المجتمعات. الأنوثة لا تعني الخضوع، كما أن الرجولة لا تعني السيطرة. فبدلاً من محاولة حصر المرأة في صورة “الضعيفة التي تحتاج إلى إنقاذ”، لماذا لا يُعاد تعريف العلاقة بين الجنسين على أُسس من التكافؤ؟
من المضحك أن بعض الرجال، الذين لا يجدون لأنفسهم أي قيمة سوى في أدوارهم المالية، يحاولون الآن إقناع النساء بأن الاستقلالية ضد “طبيعتها”، وكأنهم هم من يحددون هذه الطبيعة، وكأنهم يملكون الحق في منح المرأة صفة “أنثى” أو سحبها منها. هذه الفكرة ليست إلا انعكاساً لرجولة هشّة، لا تعرف كيف تُثبت ذاتها إلا عبر فرض التبعية على المرأة. رجل يشعر بالتهديد لمجرد أن المرأة لم تعد تحتاج إليه مادياً، هو رجل لا يستحق أن يكون جزءاً من حياتها أساساً.
إعادة تدوير الذكورية عند الأجيال الجديدة
المشكلة ليست فقط في هذه الأفكار التي تنتشر، بل في أنها تُقدَّم بطريقة سطحية على منصّات مثل “تيك توك” و”إنستغرام”، التي يستخدمها “Gen Z” و”Gen Alpha”، أي الفئات العمرية التي لا تزال في طور تكوين أفكارها عن العلاقات والأدوار الجندرية وغيرها، وتجعل المشاهدين يتلقّونها من دون تفكير نقدي، فتتحوّل من مجرد آراء إلى حقائق تُعاد مشاركتها وإعادة إنتاجها.
عندما يكون الشباب عُرضة لمحتوى كهذا يومياً، فإنهم يبنون تصوّراتهم المستقبلية عن العلاقات بناءً على خطاب مشوّه، يربط قيمة المرأة فقط، بمدى احتياجها للرجل، وقيمة الرجل فقط، بمدى سيطرته المادية عليها.
الاستقلالية ليست تهمة
من المهم أن تُدرك كل فتاة، لا سيما من شاهدت واحداً على الأقل من هذه الفيديوهات، كيف أن هذا الخطاب يحاول تسطيح دور المرأة وحصره ضمن إطار ذكوري محدد، وكأن الأنوثة لا تكتمل إلا في سياق الضعف والتبعية. لكن الحقيقة مختلفة، فالأنوثة ليست ضعفاً، والاستقلالية ليست تهمة. من حقّك أن ترفضي أي رجل يحاول إخفاء عدم ثقته بنفسه عبر فرض معاييره عليكِ، ومن حقّك ألا تسمحي لأحد بأن يُقرر من أنتِ أو كيف يجب أن تعيشي حياتكِ.
بالنهاية، إذا كانت “رجولتهم” تنهار أمام امرأة مستقلّة، فالمشكلة ليست في النساء، بل في “رجولة” تحتاج إلى إعادة تعريف.
إقرأوا أيضاً: