fbpx

المؤرخ الفرنسي دومينيك فيدال يعيد تعريف معاداة الصهيونية ومعاداة السامية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في كتابه الصادر حديثاً عن دار “ليبرتاليا”، يعيد الكاتب والمؤرخ الفرنسي المتخصّص في قضايا الشرق الأدنى دومينيك فيدال، طرح مسألة التمييز بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية في إطار ردّه على رئيس الجمهورية الفرنسية ايمانويل ماكرون، الذي اعتبر في الصيف الماضي في ذكرى حملة “فيل ديف”، بحضور مسؤول صهيوني للمرة الأولى (بنيامين نتانياهو)، أنّ معاداة الصهيونية ليست إلا شكلاً جديداً لمعاداة السامية…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في كتابه الصادر حديثاً عن دار “ليبرتاليا”، يعيد الكاتب والمؤرخ الفرنسي المتخصّص في قضايا الشرق الأدنى دومينيك فيدال، طرح مسألة التمييز بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية في إطار ردّه على رئيس الجمهورية الفرنسية ايمانويل ماكرون، الذي اعتبر في الصيف الماضي في ذكرى حملة “فيل ديف”، بحضور مسؤول صهيوني للمرة الأولى (بنيامين نتانياهو)، أنّ معاداة الصهيونية ليست إلا شكلاً جديداً لمعاداة السامية. الأمر الذي أثار جدلاً وردود أفعال عديدة من صحافيين وكتّاب ومؤرخين أبرزها جاءت على شكل رسالة مفتوحة للمؤرخ اليهودي شلومو ساند الذي كتب للرئيس ماكرون، “لم أكن معنياً كثيراً بسؤال تعريف الصهيونية في أعمالي لكنني اليوم أنا أكثر من معادٍ للحركة الصهيونية”.
الإصدار الجديد لفيدال الذي يحمل في صفحاته المئة بحثاً تاريخياً ومحاججة عقلانية يسوقها الكاتب لتدعيم رأيه الذي يميّز بين أن تكون رافضاً للصهيونية لكونها “حركة سياسية عنصرية”، وأن تكون معادياً للسامية وفي ذلك “جريمة لا تحتمل حرية الرأي”، يمكن تقسيمه إلى أربعة أقسام وهو الأمر الذي فعله فيدال، إذ انطلق من سرد تاريخي للصهيونية وانتقل إلى البحث عن جذور معاداة الحركة، ثمّ يستعيد لاحقاً في القسم الثالث التدرّج في العداء لليهودية إلى العداء للسامية، ليخلص في النهاية بالتساؤل عمّا يريده ايمانويل ماكرون، عندما يصرّ على هذا الخلط الذي لا تبرّره خلفية فكرية أو سياسية حسب فيدال.
خطأ سياسي، خطيئة تاريخية
يرى دومينيك فيدال، أنّ كلام ماكرون في ذكرى “فيل ديف” يعدّ سابقة في تاريخ التعاطي مع قضية يهود فرنسا ومسؤولية نظام فيشي، بأمر من رينيه بوسكيه قائد شرطة باريس، عن سوق الآلاف منهم إلى معسكرات درانسي (سين سان دوني) وبيتيفييه وبون-لا-رولاند ومنها إلى معسكرات الإبادة النازية، ويعيد فيدال خطورة كلام ماكرون إلى سببين رئيسيين: الأوّل أنّه جاء بحضور رئيس وزراء اسرائيل نتانياهو المنتمي إلى أقصى اليمين- المشروع نفسه الذي يقول ماكرون أنّه يواجهه في أوروبا- والثاني لأنّ كلامه حمل في ختام النص الذي قرأه، مع توجه مباشر لنتانياهو بعبارة “عزيزي بيبي”، إدانة لكل رأي يعادي الصهيونية.
يذهب فيدال بعيداً في التاريخ للبحث عن منشأ الصهيونية من المؤتمر الأوّل للحركة في بازل السويسرية، والجذور المؤسسة للحركة، ويولي أهمية لدينامية تيودور هيرتزل، الذي عرف استغلال عاملين أساسيين في ذلك الوقت، الأوّل هو التمييز الذي كان يتعرّض له اليهود في أوروبا وعدم تمكّنهم من الدخول إلى وظائف الدولة ومنعهم من حقّ شراء وتملّك الأراضي فكانوا يعيشا بؤساً حقيقياً عبّر عنه أحسن تعبيراً الكاتب الفرنسي ألبرت لوندر في عمله le juif errant est arrivé. أما الثاني فهو “الزلزال” الذي هزّ الرأي العام الفرنسي والمتمثّل بقضية الضابط اليهودي درايفوس الذي اتهمته السلطات الرسمية بالعمالة. هذا الحدث الذي واكبه هرتزل عن قرب كمندوب لصحيفة نمساوية في باريس جعله يعجّل في العمل لمؤتمر ينصف “الغبن اللاحق باليهود”.
وبحسب فيدال فإنّ الصهيونية في منشأها الأول قامت على أربع مسلّمات: وجود شعب يهودي، تشتّت هذا الشعب في أنحاء العالم وعدم استيعابه في المجتمعات التي يتواجد فيها، حقه في “أرض الميعاد” وعدم وجود شعب له حق في تلك الأرض غير الشعب اليهودي. يختصر فيدال تلك المسلمات في جملة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” للكاتب الإنكليزي اليهودي الذي كرّس قلمه لخدمة الحركة الصهيونية، يسرائيل زانغويل.
يستعين الكاتب في هذا القسم بمقتطفات عديدة لمؤرخين عملوا على موضوع نشأة اسرائيل والحركة الصهيونية، ويذكر فيدال من بين هؤلاء تحليل المؤرخ الماركسي المعادي للصهيونية ماكسيم رودنسون، حول الصهيونية بوصفها “أشدّ تجلّيات حركة التوسّع الأوروبي-الأميركي للسيطرة سياسياً واقتصادياً” ويورد فيدال الأسباب التي جعلت رودنسون يعارض فيها الصهيونية وهو اليهودي الناجي من معسكرات النازية “الصهيونية تفرض على يهود العالم ايديولوجيا قومية وتحصر الأرض بهوية يهودية على حساب طرد شعب آخر يسكن هذه الأرض منذ آلاف السنين”.
يتدرّج فيدال في سرده لتاريخ الحركة من المؤتمر الأول إلى وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو وانعكاسات كل حدث على فعل نشأة دولة اسرائيل، ويستعين في محطات كثيرة بقراءة “ما بعد صهيونية”، تشمل فئة من المؤرخين اليهود عرفت اصطلاحاً بـ “المؤرخين الجدد” كليني مويس وايلان بابيه وشلومو ساند، الذين تبنوا مزيجاً من الأفكار المعادية للصهيونية وتصوّرات واقعية لما بعد الحداثة.
الصراع في بنى الحركة الصهيونية
قبل أن ينتقل دومينيك فيدال، إلى القسم الثاني في كتابه يشير إلى الصراع الذي تولّد في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي داخل بنى الحركة الصهيونية بين تيار اشتراكي واقعي وبين تيار “تحريفي” مقرّب من الفاشية الموسيلينية ويقول في هذا الصدد أنّ شخصية فلاديمير جابوتنسكي، كانت محورية في الصدع الذي لحق بالحركة لتبنّيه خطّا حديديا، بدأ بتأسيس الصندوق القومي اليهودي والعمل على مشاركة “الفيلق اليهودي” في الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى معارضته بشدة خطة التقسيم التي عرضتها لجنة بيل عام 1937، ودعوته إلى رفض الاكتفاء بإقامة (إسرائيل) على أرض فلسطين وحدها بل مدها إلى الأردن وصحراء سوريا.
ويعمد فيدال إلى إسقاط الخلاف بين جابوتنسكي وحايم وايزمان، للتدليل على تشظٍّ لحق برؤية التيارات الصهيونية لأفق الصراع العربي-الإسرائيلي ويرى أنّ قبضة السلام التاريخية بين اسحاق رابين وياسر عرفات في أوسلو سنة ١٩٩٣، شكّلت ضربة كبيرة لمشروعية اليمين الإسرائيلي، الأمر الذي جعل أحزاب اليمين والمجموعات الدينية المتطرفة تشن حملة قاسية انتهت باغتيال رابين على يد متطرف يهودي وحملت نتانياهو إلى الحكم وأنهت عملية السلام.
على أنّ فيدال الذي يحاول دائماً التصويب على سياسات يمينية في اسرائيل، لا يغفل توجيه النقد اللاذع لليسار الصهيوني، الذي لم يلتزم يوماً بمعركته الأساسية مع اليمين، التي ترتكز بشكل رئيسي على وقف عمليات الاستيطان عدا عن شنّ الحروب في لبنان وغزّة، فانّ هذا اليسار لم يكن أفضل من اليمين في الحكم، ويذكر فيدال كيف رفض رابين طرد المستوطنين من محيط الحرم الإبراهيمي عقب المجزرة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين بحق المصلّين المسلمين في باحة الحرم رمضان ١٩٩٥. وليس بعيداً عن رابين فشيمون بيريس، هو الآخر لم يتوانَ عن السير بخطط يمينية شأنه شأن ايهودا باراك، الذي وجّه ضربة لعملية السلام في كامب ديفيد سنة ٢٠٠٠.
بحثا عن “معادي الصهيونية”
في هذا القسم يعود فيدال إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية لنسج العلاقة التي تربط يهود العالم بفكرة قيام دولة لليهود في فلسطين. ويشير إلى أنّ الغالبية العظمى من اليهود كانت ترفض نشأة الدولة اليهودية على أرض فلسطين، وكانت الأولوية آنذاك للانخراط في قوى ثورية وعمالية عملاً بحتمية المشروع الرجعي لأيّ قوة قومية يهودية، الأمر الذي حذّر منه الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين مبكّراً سنة ١٩٠٣، لاعتباره أنّ التطوّر الصناعي وتحسّن مستوى الحريات السياسية، سيكون له انعكاس ايجابي أوّلي على قدرة استيعاب اليهود الذين بدأوا يتخلوا عن اللغة اليديشية لحساب اللغات المحلية في أوروبا، وراحوا يعملون في الحقل السياسي كمعنيين بقضايا الشعوب الأوروبية.
من بين التيارات التي يأتي على ذكرها فيدال في إطار بحثه عن موقف الحركات اليهودية من الصهيونية قبل الحرب العالمية الثانية، تيار “البوند” أو “الجبهة اليهودية العامة”، ويستعين بكتاب اللغوي  ناتان وينستوك “خبز المأساة” الذي يتناول الحركة العمالية اليهودية في أوروبا لتبيان موقف البونديين من الحركة الصهيونية، ويخلص للقول أنّ “البونديين واجهوا انتقادات الأحزاب الإشتراكية الروسية بسبب تكتلهم الناتج عن رابط ديني وليس وحدة الطبقة العاملة، لكنّهم ساهموا بقيام كل الانتفاضات والثورات قبل الإطاحة بالحكم القيصري سنة ١٩١٧. ولأنهم اختاروا معسكر المناشفة فقد تعرّضوا لحملة شرسة بدأت بحظر نشاطاتهم منذ عام ١٩٢٠ في روسيا البلشفية وانتهت بمجازر ستالين في مطلع الثلاثينات. لكنّ البونديين نجحوا في الفوز بغالبية المقاعد البلدية في بولندا سنة ١٩٣٩ لكنّ المحرقة النازية أنهت الحزب بشكل نهائي. ومهما يكن من أمر، فإنّ البونديين ورغم معارضتهم لهجرة اليهود من روسيا إلى فلسطين قبل الحرب العالمية الثانية، فإن تأثيرهم واضح في تمظهر الحركات اليسارية الاشتراكية ومستعمرات الكبيوتس ضمن الحركة الصهيونية وأنصارها ممن هاجروا إلى فلسطين في أوائل القرن الماضي”.
ولا يغفل صاحب كتاب “فلسطين، لعبة الأقوياء”، الحديث عن التيار الديني الذي رفض مشروع هرتزل في نشأة اسرائيل، ويستعيد مقتطفات من كتاب نشاط السلام الإسرائيلي (أقصى اليسار) ميشال فارشفسكي “على الطريق إلى قبر مفتوح: أزمة المجتمع الإسرائيلي”، الذي يتناول موقف التيار الديني من مشروع الدولة اليهودية ،”واجه التيار الديني مشروع هرتزل بشراسة واعتبر أنّ الصهيونية ستكون مشروعا مميتا لفكرة اليهودية وشعبها. رأى الدينيون في أفكار هرتزل، وبن غوريون لاحقا، محاولة لقتل فكرة اليهودي المتديّن الذين وصفوه ب “الطفيلي”، أو “غير المنتج” أو “المخنّث”، وكانت الصهيونية بالنسبة للدينيين أبعد من حركة سياسية، كانت بداية لنهاية صورة اليهودي الدياسبورية”. ويضيف فيدال “لم يكن هنالك حليف يهودي مؤمن أو متديّن للحركة الصهيونية بين الحربين العالميتين سوى “المزراحيين” الذين رأوا أن “لا تعارض بين الإيمان اليهودي والحركة الصهيونية”.
بين سنتي ١٩١٩ و١٩٣٩ لم يهاجر إلى فلسطين سوى ٣٤٠ ألف يهودي، ولم تكن دوافع الهجرة بحسب فيدال صهيونية أو مقتنعة بنشأة دولة اسرائيل، “لم يكن خيار هؤلاء صهيونيا، لقد هرب معظمهم من ألمانيا والنمسا النازيتين ولم تكن نسبتهم تتجاوز ال ٣ بالمائة سنة ١٩٣٨ من إجمالي السكان في فلسطين، الذين بلغ عددهم ١٦ مليون نسمة. بعد قيام دولة اسرائيل سنة ١٩٤٨ ارتفع العدد إلى ٦٥٠ ألف يهودي وبقي يرتفع حتى بلغ ٦،٥ مليون يهودي مطلع ٢٠١٧. وبالرغم من ذلك فإنّ ٥٧ بالمائة من يهود العالم لا زالوا يعيشون خارج إسرائيل”.
يستعين فيدال في ختام هذا القسم بمراجعة تاريخية للمؤرخ شلومو ساند، ويضيء على تجربة يهودية فريدة في معاداة الصهيونية: حركة مصبن، بوصلة الأنتي-صهيونية، التي تأسست سنة ١٩٦٢ في إسرائيل من كوادر انشقوا عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، بسبب أجندة الحزب السوفياتية وتبنّت في بيان التأسيس مطلب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، ورأت في الدولة الفلسطينية التي يعيش فيها العرب واليهود حلاً وحيداً للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لكنّ المشكلة التي واجهها أعضاء الحركة بحسب فيدال هي أنّهم وقعوا في صراع بين موقعهم الإجتماعي (الموضوعي) كمستوطنين يهود هاجروا من أوروبا إلى فلسطين، وموقفهم السياسي (الذاتي) كمعادين للحركة الصهيونية، وكان تأييدهم للقضية القومية العربية دون اشتراك لغوي أو مادي ثقافي/ديني نابع من معرفة بمخاطر قيام دولة أحادية القومية على أرض متعددة القوميات (ثنائية القومية مع أكثرية عربية).
من استعداء اليهود إلى معاداة السامية
على عكس ما هو شائع فإنّ معاداة السامية ظاهرة حديثة نسبياً، إذا ما اعتبرنا أنّ العداء لليهود جذره كنسي وأساسه ديني يتمظهر بشكل واضح في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تيسالونيكي “اليهود قتلوا يسوع والأنبياء وهم أعداء كل البشر”، ولم تتغيّر تلك اللهجة المسيحية المعادية لليهود حتى سنة ١٩٦٥ عندما تخلّى المجمع الفاتيكاني الثاني في وثيقته “نوسترا ايتاتي” – التي تعرّف علاقة الكنيسة بالأديان الأخرى غير المسيحية- عن التهم الموجّهة لليهود بقتل يسوع والأنبياء. وأكّدت تعاليم الكنيسة الكاثوليكية سنة ١٩٩٢ أنّ اليهود غير مسؤولين عن موت نبي المسيحية مستعيدة حجة “مجمع ترنت” في القرن السادس عشر ميلادي حول “جهل” الشعب اليهودية و”لا وعيه”.
إذن، “في البدء كانت الكنيسة”، هكذا ينطلق دومينيك فيدال في القسم الثالث من إصداره الجديد، في محاولته البحث عن أوليات معاداة السامية، ويقول أنّ اللفظة كانت غير معروفة حتى أطلقها الصحافي الألماني ويلهام مار، إلى الفضاء العام سنة ١٨٧٩. والأخير بدأ حياته يسارياً ديمقراطياً وتحوّل إلى الأناركية وكان يدير صحيفة Blätter der Gegenwart für sociales Leben (أوراق من الحاضر لحياة إجتماعية) الهيجيلية التي عبّر فيها عن آرائه الحادة المعادية للفكر الليبرالي ونزوحه النهائي نحو الأناركية. أسّس ويلهام مار لنظرية تقول بأنّ اليهودية كقاعدة عرقية لا دينية للشعوب اليهودية تحاول اجتثاث الجرمانية في ألمانيا والنمسا، وهو لذلك عمد إلى تشكيل أول رابطة “معادية للسامية” جعل عنوانها الأساسي طرد يهود أوروبا إلى فلسطين.
مروراً بمحطات عديدة ترسّخت معاداة السامية في فرنسا، يشير فيدال إلى شخصية محورية يصنّفها أناركية على اليمين وأنتي-درايفوسية : إدوارد درومون صاحب كتاب “فرنسا اليهودية” الذي يشنّ فيه هجوماً على يهود البلاد ويعتبرهم مسؤولين عن مؤامرة خفية ضد الحضارة المسيحية. لم يتوقّف درومون عند هذا الحد وذهب إلى إصدار صحيفة “المقولة الحرة” (Libre parole) سنة ١٨٩٢ التي ركّزت على مهاجمة اليهود والماسونيين في الوقت الذي كان فيه اليهود يشدّدون على مبادئ الثورة الفرنسية والتزامهم بها. في صحيفته راح درومون يهاجم الضباط اليهود المنخرطين في الجيش الفرنسي، المتحدّرين من الألزاس واللورين والناطقين بالألمانية حتى تفجّرت قضية الضابط درايفوس وأصبحت مادة دسمة قسمت الرأي العام الفرنسي بين درايفوسيين ومعاديين لدرايفوس.
تحت الحكم النازي، أطبقت فرنسا فيشي الخناق على يهود البلاد، وساقت الآلاف منهم إلى المخيمات ومنها إلى معسكرات الإبادة النازية في أوشفيتز. تلك الرواية التي يرفضها أكاديميون فرنسيون على اليمين واليسار ولقيت أصواتهم رواجاً كبيراً في العالم العربي-الإسلامي. من بين تلك الأصوات يذكر فيدال كلّ من روبير فوريسون الذي ذهب إلى إنكار غرف الغاز وتكذيب “يوميات آنا فرانك” ودحض رواية ايلي فيزيل عن معاناته في الحرب وصولا إلى اعتبار الهولوكوست محض خرافة. لم يكن روجيه غارودي بعيداً عن تلك الأفكار حتى أصبح التيار الذي يتبناها في فرنسا معروفال بال « négationniste » (الذي ينكر وقوع المحرقة). ويورد فيدال في استعراضه لتلك المواقف رد إدوارد سعيد في مقالة كتبها في لوموند ديبلوماتيك سنة ١٩٩٨ تحت عنوان “فلسطين-اسرائيل: طريق ثالثة” على ما سمّاه سعيد “حماقة” هذا التيار و”تفاهته”.
ويتساءل فيدال في ختام هذا القسم عن جذر لمعاداة السامية لدى المسلمين. ويضرب مثلاً بكلام المؤرخ اليهودي المغربي جورج بن سوسان في برنامج répliques الذي يقدّمه آلان فينكلكروت. بن سوسان توجّه لخصمه في المناظرة الباحث اليساري (المعروف بدافعه عن المهاجرين) باتريك ويل بالقول “كلنا نعرف أنّ مسلمي هذه البلاد يرضعون معاداة السامية وكره اليهود منذ ولادتهم”، ما دفع المجلس الأعلى للمرئي والمسموع لرفع دعوى ضد كلام بن سوسان لإعتباره تحريضاً على الكراهية واستهدافا لمسلمي فرنسا.
ويستعين فيدال بدراسة أجراها دومينيك رينيه، يستطلع فيها آراء عينة من المسلمين، تنوعّت درجات إيمانهم وممارستهم للشعائر الإسلامية، تظهر بشكل واضح أنّ الآراء المسبقة ضد اليهود ترتفع كلما ارتفعت درجة الممارسة الدينية لدى الفرد المسلم. بالمقابل فإنّ ٧٧ بالمائة، من المعنيين بالاستطلاع أصرّوا على تدريس المحرقة في المناهج الدراسية. ورأى٦٣ بالمائة منهم أنّ قتل ٦ مليون يهودي جريمة كبرى فيما اعتبر ٢٩ بالمائة أنّها تأتي في سياق حرب درامية شأنها شأن أحداث أخرى و٢ بالمائة اعتبروها مبالغة في المظلومية فيما الـ ١ بالمائة الباقين اكتفوا بوصفها بالـ “اختراع”.
خيار ايمانويل ماكرون؟
في القسم الأخير، يحاول دومينيك فيدال أن يضع موقف ماكرون في ذكرى فل ديف في وجه مواقف الرؤساء السابقين للجمهورية الخامسة، فيبدأ بشارل ديغول الذي أوقف تسليح الجيش الإسرائيلي سنة ١٩٦٧ رغم صداقته القديمة ببن غوريون وإعجابه بما قام به فإنّه اتخذ خطّ الحياد في الصراع العربي-الإسرائيلي. لم يكن موقف كل من الرئيسين بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان بعيدا عن رؤية ديغول الشرق أوسطية-التي يصفها فيدال بالمتوازنة- وترافقت ولاية ديستان مع توجه الديبلوماسية الفرنسية لترسيخ الخط الديغولي فسمحت بافتتاح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس سنة ١٩٧٥ ودفعت بأوروبا للاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني سنة ١٩٨٠.
يقارب فيدال حقبة فرانسوا ميتيران، الذي قدّم نفسه كصديق لإسرائيل، بشكل ذكي إذ يضعه في تناقض مستمرّ بين ما يفكّر ويعتقد وبين ما يقوم به على أرض الواقع. ويستعيد في هذا السياق خطاب ميتيران أمام الكنيست سنة ١٩٨٢ الذي تحدّث فيه عن “وطن” فلسطيني، كما يشير إلى إرساله البواخر الفرنسية لنقل الفدائيين الفلسطينيين من بيروت في مايو/أيار من العام نفسه. ولا يغفل الحديث عن استقبال ميتيران لياسر عرفات في الإليزيه سنة ١٩٨٩.
بين جاك شيراك وفرانسوا ميتيران، يرى فيدال أنّ الإثنين لم يكنّا ودا مسبقا للفلسطينيين على حساب اسرائيل لكنّ سياق تطوّر الصراع وتعنّت الجانب الإسرائيلي وعدم التزامه باتفاقية أوسلو، عدا عن الحساسية التي لمسها شيراك نفسه في فلسطين المحتلة لدى زيارته سنة ١٩٩٦، ألزمت فرنسا بتجاوز الديغولية الشرق أوسطية إلى ما يمكن اعتباره انحيازاً لقضايا العرب، ترجمها وزير خارجية شيراك دومينيك دو فيلبان بالفيتو الفرنسي ضد اجتياح العراق سنة ٢٠٠٣. لكنّ الضغط الأمسركي وتضعضع الاقتصاد المحلي الفرنسي غيّر في معادلة شيراك فدخل أرييل شارون إلى الإليزيه على السجاد الأحمر سنة ٢٠٠٥ وغمز البعض في تلك الفترة من باب رغبة شيراك في مصالحة باريس مع واشنطن التي أطلقت وعودا لتحقيق العدالة في قضية اغتيال صديق الرئيس الفرنسي، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
يتابع فيدال “مع نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند عادت فرنسا لتنتهج سياسة أطلسية مع التزامها بحل الدولتين: دولة فلسطينية ودولة اسرائيلية. لكنّ عهد ساركوزي شهد سابقة خطيرة في تجريمه حظر البضائع الإسرائيلية وأصبحت حملة الـ BDS ممنوعة بعد القرار الذي أصدرته وزيرة العدل ميشال اليو ماري سنة ٢٠٠٩. بعد ٦ سنوات، دخل القرار حيّز التنفيذ وأصبح أعضاء الحملة ملاحقين قضائيا. أما فرانسوا هولاند فقد عبّر مرارا عن صداقته مع اسرائيل التي زارها سنة ٢٠١٣ وأعلنت حكومته برئاسة مانويل فالس دعمها للهجوم الإسرائيلي على غزة الذي راح ضحيته ٢٢٠٠ شخص بينهم ٥٥٠ طفلاً فيما سقط ٧٣ اسرائيلي بينهم ٦٧ جندياً”.
يختم دومينيك فيدال بالقول أنّ ماكرون يقف في نفس الموقع حيث توقّف ساركوزي وهولاند وأنّ كلامه في ذكرى فيل ديف ليس إلا استمرارا في التودّد للجانب الأقوى الذي يقتل ويستمرّ في الاستيطان ويرفض المفاوضات ويقوم بالخطوات الأحادية. بانتظار خيار جريء وسياسة جديدة قد ينتهجها ماكرون حيال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تؤكد على المدى البعيد استقلالية فرنسا وتجعلها أكثراً تأثيراً اقليمياً ودولياً، يتساءل فيدال “لكن ماذا يريد حقا ايمانويل ماكرون؟”.[video_player link=””][/video_player]