من هو “غراندايزر” الغاضب من انتقادي كيفية استغلال “حزب الله” مناسبة عاشوراء لأجندات سياسية رخيصة، ويعتقد أنني “كارهة لنفسي وجالدة لها” وأحرض مذهبياً؟
ومن هي “أم نوف” التي تعتبر، لأنني كتبت في مؤسسة صحافية سعودية، أن عليّ حتماً أن أكون متماهية مع سياسة النظام في بلادها وإلا فأنا “مرتزقة”؟
هذان اسمان من عشرات أخرى لاحقتني شاتمة حانقة لاعنة خلال الأيام الأخيرة على “تويتر” و”فايسبوك”.
أقول من هم، لأنني تلقيت سيلاً من هجومات وشتائم أولاً لانتقادي تسييس “حزب الله” الشعائر الدينية، وتوظيفها في مشهد الانقسام اللبناني، وثانياً لأنني انتقدت هجمة شرسة بحق الصحافي جاد غصن.
“غراندايزر” الحزب اللهي و”أم نوف” السعودية هما عناصر من جحافل مغفلة الاسم المباشر والصورة والهوية تملأ فضاءاتنا هجوماً وقصفاً افتراضياً إلى حد أنهم نجحوا في حملة مسعورة في منع غصن من العمل في محطة “بلومبيرغ” في دبي لأنه كرر انتقادات للنظام السعودي. ليس أفراد الحملة كلهم مغفلي الهوية ففيهم أشخاص معروفون جداً لكن الهويات المغفلة لعشرات الحسابات التي تكرر الفكرة ذاتها والأسلوب ذاته والجملة ذاتها، بل وحتى الركاكة ذاتها في التعبير، تبدو وكأنها لشخص واحد أو بالأحرى جهة منظمة واحدة.
أجل، نجحت الأنظمة في تطويع الإعلاميين وتحويلهم أبواقاً مهمتهم الصمت أولاً، ثم الترويج، وكلما غاليت في الابتذال والصفاقة ستكون مكانتك متقدمة.
وفي حالة جاد غصن، تبدو مفارقات الحملة عليه صارخة في وجهتيها، فالسؤال حول اضطرار صحافي عرف بمواقفه المنتقدة للنظام السعودي، إلى مغادرة لبنان والعمل في قناة تتبع نظاماً هو على غير انسجام معه، هو سؤال مشروع أكيد لكنه برأيي يعبر عن حقيقة أكثر خطورة وهي حال الاختناق الهائل في معايير سوق العمل الصحافي وأولوياته. والهجوم المسعور على جاد كان فاقداً معايير الأخلاق والمهنية كلها، ويشي أيضاً بما وصلنا إليه من التماهي المطلق بين المؤسسات الإعلامية والجهات الممولة، وأيضاً لجهة قدرة الانقسام على النفاذ إلى قلب المؤسسات، وتحويلها إلى منابر مذهبية وارتزاقية.
الوضع خانق فعلاً.
هذه العبارة نكررها ونكاد نستهل بها أي محاولة لقول فكرة حول الواقع أو نقاشها. وحين تكون العلاقة بين حرية التعبير والإعلام وبين أصحاب السلطة مكشوفة وسافرة على نحو ما هي اليوم يجب أن نشعر بالخجل، لا بل بالعار.
أن تكون إعلامياً محظياً أو مقبولاً عليك أولاً أن تصمت.
وعليك ثانياً حين ترى سجن معتقلي رأي وحقوقيين في السعودية أن تبرر الأمر بأنهم “عملاء”، وحين ترى شعباً يباد بالبراميل المتفجرة وبالكيماوي في سوريا عليك أن تصرخ، إنهم إرهابيون، وحين ترى قنبلة شبه نووية انفجرت في وجهك في بيروت عليك أن تصمت باسم المقاومة والسلاح وحقوق الطوائف، وحين ترى قطر تنفق أموالاً على متشددين وتنظيمات عقائدية تطوق حياتنا باسم الدين، عليك أن تقول هذه ثقافتنا، وحين ترى إيران تسجن ناشطين وترسل ميليشيات تقتل في العراق ولبنان واليمن عليك أن تصرخ هذه طريق القدس، وإن طبّعت الإمارات مع شرير مثل بنيامين نتانياهو فذلك صوناً للسلام وللقضية الفلسطينية.
فقط حين ترى الخصم فعلها يمكن أن تعلن موقفاً وتستميت في الهجوم، لكن إذا كان فريقك أو جماعتك موضع الشكوى فعليك بإشاحة وجهك ثم الترويج والدعاية والمباهاة.
أجل، نجحت الأنظمة في تطويع الإعلاميين وتحويلهم أبواقاً مهمتهم الصمت أولاً، ثم الترويج، وكلما غاليت في الابتذال والصفاقة ستكون مكانتك متقدمة.
هل يمكن أن تهاجم وتنتقد تسييس واستغلال “حزب الله” مناسبات دينية لمزيد من الحشد والتعبئة، من دون أن يهبّ في وجهك من يشتمك ويقول إنك عنصري كاره للنفس لأنه لا يمكن فصل الشيعة عن “حزب الله”؟
وهل يمكن أن تقول إن أنظمة بعينها، السعودية مثلاً، تمارس قمعاً واستبداداً وتميزاً بين الناس والحكومات من دون أن ينفجر في وجهك سيل من الحسابات الالكترونية، التي بلا هوية واضحة، جل رسالتها أن تردعك وتقول لا يمكن الفصل بين الأنظمة والشعوب؟
أن تكون إعلامياً محظياً أو مقبولاً عليك أولاً أن تصمت.
ما العمل في ظل هذا الاختناق بإعلام يتضخم بتمويل هذا الانقسام السياسي الخانق؟ وكيف نتحقق من الوقائع ونتعقّبها ونصوغها من دون إخضاعها لمنطق الانحياز الذي يشطر كل شيء من حولنا؟
تبدو المهمة صعبة، فأن نعلن موقفاً لا ينسجم مع انحيازات الممول وانقساماته، هذه مغامرة دونها الإقصاء والطرد.
الصحافة تتعرض كل يوم للإهانة في وظيفتها وفي واقعها، والمواجهة مطلوبة، والقيم التي من المفترض أن تكون المهنة صادرة عنها هي اليوم في متناول مرتزقة الاعلام ممن رسخوا حضورهم على حساب حرياتنا وحقوقنا، وعلى حساب أخلاق المهنة وقيمها.
الجواب ليس سهلاً، فنحن جزء من مشهد لا يساعد على قول الحقيقة وإشهارها. ذلك دونه عقبات كبرى ليس أقلها إزعاج السيد “غراندايزر” أو الزميلة “أم نوف”…