ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

المتحف المصري الكبير… ذاكرة الفرعون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

المتحف بدّل ولو مؤقتًا الطريقة التي يرى بها المصريون أنفسهم، وأعاد ربطهم تاريخيًا بجذورهم العميقة، في لحظة يحتاجون فيها الى هذا الارتباط أكثر من أي وقت مضى.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليلًا، وعلى مقربة من أهرامات الجيزة، بدا ميدان الرماية كمسرح مفتوح لـ”الذاكرة الوطنية المصرية” أثناء الاحتفال بافتتاح المتحف المصري الكبير، الذي يُوصَف بأنه أكبر متحف آثار في العالم، ويضم نحو 100 ألف قطعة أثرية تغطي قرابة السبعة آلاف عام من تاريخ مصر؛ من عصور ما قبل الأسرات، إلى العصرين اليوناني والروماني، إلى جانب معروضات توت عنخ آمون، والعرض الجديد لمركب خوفو الجنائزي المذهل الذي يبلغ عمره 4,500 عام، والذي يُعدّ من أقدم السفن المحفوظة منذ العصور القديمة.

كان الحدث جللًا، خصوصًا بالنسبة الى مصريين كثر استعادوا ولو لساعات شعورًا بالفخر المنسي بحضارتهم العريقة. تابعوا عرضًا حيًا للذاكرة بالصوت والمؤثرات والموسيقى والملابس والعروض الفخمة. بدأ كثيرون تسيير كرنفالات عفوية شملت ارتداء ملابس تحاكي ملابس أجدادهم، وخلقوا صورًا بالذكاء الاصطناعي ملأت وسائل التواصل الاجتماعي. تخيّلت نساءٌ أنفسهن ملكات فرعونيات بالحلي والأردية الشهيرة، فيما ظهر رجال بأزياء تحاكي لباس الفرعون الحاكم.

امتلأت المنصات بمقاطع تُحاكي كراسي العروش الملكية، قبل أن يستيقظ هؤلاء صباحًا مهرولين إلى عربات المترو المزدحمة أو أتوبيسات النقل العام.
المتحف بدّل ولو مؤقتًا الطريقة التي يرى بها المصريون أنفسهم، وأعاد ربطهم تاريخيًا بجذورهم العميقة، في لحظة يحتاجون فيها الى هذا الارتباط أكثر من أي وقت مضى.

وكأن المصريين وجدوا في الحدث لحظة نادرة من الفخر الجمعي؛ فرحة مكبوتة تعبّر عن رغبة في الانتماء، وعن حاجة الى استعادة صورة إيجابية عن الذات بعد سنوات من الضغوط. بدا المتحف، في نظر شريحة واسعة، نافذة يقولون من خلالها: “نحن ما زلنا هنا… قيمتنا ليست مهدورة كما نظن أحيانًا”.

لكن هذه الفرحة لم تمرّ بلا جدل. فقد شنّ بعض الدعاة السلفيين حملة انتقادات ضد ما وصفوه بـ”تمجيد الوثنية”، معتبرين أنّ الهوية المصرية يجب أن تبقى “عربية وإسلامية”. وردّ عليهم آخرون بحدة، مؤكدين أنّ “الهوية المصرية متعددة الجذور”، وأن الاحتفاء بالفرعونية لا يناقض الإسلام بل يعبر عن الذاكرة التاريخية للمصريين.

فتحوّل افتتاح المتحف إلى ساحة رمزية للصراع على تعريف من هي مصر؟
بين من يراها وريثة الفراعنة، ومن يراها جزءًا من الأمة العربية والإسلامية، ومن يقرأها بمنظور الدولة الحديثة.

يعود مشروع المتحف المصري الكبير إلى أكثر من عقدين. ففي عام 2002 أُعلن عنه للمرة الأولى كأحد أكبر المتاحف في العالم، بتصميم فريد بالقرب من أهرامات الجيزة. وقد أراد المخططون أن يكون المتحف ليس مجرد صالة عرض، بل “مدينة للتراث”، مركزًا للحضارة المصرية ومؤسسة علمية وثقافية وسياحية في آن واحد. لكن الطريق من الفكرة إلى الافتتاح لم يكن مستقيمًا؛ إذ تعاقبت عليه أزمات اقتصادية وسياسية، وتأخر التنفيذ بسبب ثورة يناير وما تبعها من اضطرابات.

ومع تولّي عبد الفتاح السيسي السلطة عام 2014، عاد المشروع إلى الواجهة باعتباره رمزًا لإعادة بناء الدولة. لم يكن المتحف بالنسبة إليه مشروعًا ثقافيًا فقط، بل مشروع هوية وطنية يعيد من خلاله “هيبة الدولة”. فافتتاح المتحف جاء ضمن سردية “الجمهورية الجديدة”.

المتحف الكبير كبيان سياسي

أصبح المتحف المصري الكبير جزءًا من استراتيجية أوسع لتجديد الخطاب الرسمي حول “القوة الناعمة”. فبينما كانت البلاد تخوض معارك اقتصادية وأمنية، بدا الاستثمار في مشروع ثقافي بهذا الحجم قرارًا غير تقليدي. لكن رمزيًا، كان له معنى سياسي واضح: الدولة لا تكتفي بإدارة الحاضر، بل تحتكر أيضًا رواية الماضي.

فالمتحف لا يعيد عرض الآثار فقط، بل سرد التاريخ من زاوية سياسية معينة. طريقة العرض، والإضاءة، وتصريحات المسؤولين، والمقاطع الدعائية، كلها أشارت إلى أن الافتتاح يُراد له أن يُسجَّل في عهد السيسي، تمامًا كما نقش الفراعنة أسماءهم على المعابد لتثبيت مجدهم في الذاكرة.

أصبح المتحف جزءًا من بناء الذاكرة السياسية الحديثة؛ الدولة تقول للمصريين: “نحن الامتداد الطبيعي للمجد القديم”.

يعلق خالد عزب، الرئيس السابق لقطاع المشروعات بمكتبة الإسكندرية: “لكي تقف مصر الفرعونية شامخة بحق، ينبغي أن يدور الحديث حول مبادئها الحضارية مثل العدل والإنصاف، لا أن يُختزل الأمر في الاستعراض والمظاهر. ما نراه اليوم أقرب إلى فخر منزوع من تاريخه، افتتان بالقشرة المادية والاحتفالية أكثر من الانشغال بجوهر تلك الحضارة ومعانيها الإنسانية”.

المتحف كأداة قوة ناعمة ودبلوماسية آثار

لم يكن الافتتاح حدثًا محليًا فقط. فقد استضافت القاهرة وفودًا من اليونسكو وسفراء من أكثر من خمسين دولة، وتم بث الحفل عالميًا.
جاء ذلك ضمن دبلوماسية الآثار: استخدام التراث لتعزيز مكانة الدولة دوليًا.

المشروع نفسه تم جزئيًا بتمويل ياباني عبر قرض من وكالة التعاون الدولي JICA بقيمة 845 مليون دولار، ومشاركة شركات يابانية.
لم يكن هذا مجرد دعم مالي، بل شراكة استراتيجية.

القوة الناعمة وإعادة صياغة الهوية

منذ منتصف العقد الماضي، أعادت الدولة تعريف “القوة الناعمة” لتشمل الهوية والتراث. فالمتحف يخاطب العالم بلغة الجمال والدهشة، ويحاكي الداخل بسردية تربط بين الفخر التاريخي والاستقرار السياسي.

في خطاب السيسي خلال الافتتاح، تم الربط مباشرة بين الماضي والـ”جمهورية الجديدة”، في إشارة واضحة إلى توظيف الحضارة لتثبيت مشروع سياسي معاصر.

وبجانب الأبعاد الرمزية والسياسية، يحمل المتحف أهمية اقتصادية. وفقاً لتصريحات أحمد غنيم، الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف المصري الكبير، سيستقبل المتحف نحو 5 ملايين زائر سنويًا، ما يجعله مصدرًا مستدامًا للعملة الصعبة، وركيزة رئيسية في قطاع السياحة الثقافية.

كما يتوقع أن يُعيد توزيع حركة الزوار من وسط القاهرة إلى الجيزة، بما يفتح فرصًا جديدة للاستثمار في الفنادق والبنية التحتية المحيطة.

ستكتمل فرحة المصريين الحقيقية بالطبع بالمتحف الكبير، حينما يرون تأثير عوائده السياحية والاقتصادية على حياتهم اليومية، فالمصري يفخر بتاريخه لكن الفقر حين يشتد لا يمنع أحدهم من بيع سواراً فرعونياً لسد حاجة العوز والضائقة المالية على حد ما حصل أخيراً حين سرقت امرأة سواراً تاريخياً.

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
03.11.2025
زمن القراءة: 4 minutes

المتحف بدّل ولو مؤقتًا الطريقة التي يرى بها المصريون أنفسهم، وأعاد ربطهم تاريخيًا بجذورهم العميقة، في لحظة يحتاجون فيها الى هذا الارتباط أكثر من أي وقت مضى.

ليلًا، وعلى مقربة من أهرامات الجيزة، بدا ميدان الرماية كمسرح مفتوح لـ”الذاكرة الوطنية المصرية” أثناء الاحتفال بافتتاح المتحف المصري الكبير، الذي يُوصَف بأنه أكبر متحف آثار في العالم، ويضم نحو 100 ألف قطعة أثرية تغطي قرابة السبعة آلاف عام من تاريخ مصر؛ من عصور ما قبل الأسرات، إلى العصرين اليوناني والروماني، إلى جانب معروضات توت عنخ آمون، والعرض الجديد لمركب خوفو الجنائزي المذهل الذي يبلغ عمره 4,500 عام، والذي يُعدّ من أقدم السفن المحفوظة منذ العصور القديمة.

كان الحدث جللًا، خصوصًا بالنسبة الى مصريين كثر استعادوا ولو لساعات شعورًا بالفخر المنسي بحضارتهم العريقة. تابعوا عرضًا حيًا للذاكرة بالصوت والمؤثرات والموسيقى والملابس والعروض الفخمة. بدأ كثيرون تسيير كرنفالات عفوية شملت ارتداء ملابس تحاكي ملابس أجدادهم، وخلقوا صورًا بالذكاء الاصطناعي ملأت وسائل التواصل الاجتماعي. تخيّلت نساءٌ أنفسهن ملكات فرعونيات بالحلي والأردية الشهيرة، فيما ظهر رجال بأزياء تحاكي لباس الفرعون الحاكم.

امتلأت المنصات بمقاطع تُحاكي كراسي العروش الملكية، قبل أن يستيقظ هؤلاء صباحًا مهرولين إلى عربات المترو المزدحمة أو أتوبيسات النقل العام.
المتحف بدّل ولو مؤقتًا الطريقة التي يرى بها المصريون أنفسهم، وأعاد ربطهم تاريخيًا بجذورهم العميقة، في لحظة يحتاجون فيها الى هذا الارتباط أكثر من أي وقت مضى.

وكأن المصريين وجدوا في الحدث لحظة نادرة من الفخر الجمعي؛ فرحة مكبوتة تعبّر عن رغبة في الانتماء، وعن حاجة الى استعادة صورة إيجابية عن الذات بعد سنوات من الضغوط. بدا المتحف، في نظر شريحة واسعة، نافذة يقولون من خلالها: “نحن ما زلنا هنا… قيمتنا ليست مهدورة كما نظن أحيانًا”.

لكن هذه الفرحة لم تمرّ بلا جدل. فقد شنّ بعض الدعاة السلفيين حملة انتقادات ضد ما وصفوه بـ”تمجيد الوثنية”، معتبرين أنّ الهوية المصرية يجب أن تبقى “عربية وإسلامية”. وردّ عليهم آخرون بحدة، مؤكدين أنّ “الهوية المصرية متعددة الجذور”، وأن الاحتفاء بالفرعونية لا يناقض الإسلام بل يعبر عن الذاكرة التاريخية للمصريين.

فتحوّل افتتاح المتحف إلى ساحة رمزية للصراع على تعريف من هي مصر؟
بين من يراها وريثة الفراعنة، ومن يراها جزءًا من الأمة العربية والإسلامية، ومن يقرأها بمنظور الدولة الحديثة.

يعود مشروع المتحف المصري الكبير إلى أكثر من عقدين. ففي عام 2002 أُعلن عنه للمرة الأولى كأحد أكبر المتاحف في العالم، بتصميم فريد بالقرب من أهرامات الجيزة. وقد أراد المخططون أن يكون المتحف ليس مجرد صالة عرض، بل “مدينة للتراث”، مركزًا للحضارة المصرية ومؤسسة علمية وثقافية وسياحية في آن واحد. لكن الطريق من الفكرة إلى الافتتاح لم يكن مستقيمًا؛ إذ تعاقبت عليه أزمات اقتصادية وسياسية، وتأخر التنفيذ بسبب ثورة يناير وما تبعها من اضطرابات.

ومع تولّي عبد الفتاح السيسي السلطة عام 2014، عاد المشروع إلى الواجهة باعتباره رمزًا لإعادة بناء الدولة. لم يكن المتحف بالنسبة إليه مشروعًا ثقافيًا فقط، بل مشروع هوية وطنية يعيد من خلاله “هيبة الدولة”. فافتتاح المتحف جاء ضمن سردية “الجمهورية الجديدة”.

المتحف الكبير كبيان سياسي

أصبح المتحف المصري الكبير جزءًا من استراتيجية أوسع لتجديد الخطاب الرسمي حول “القوة الناعمة”. فبينما كانت البلاد تخوض معارك اقتصادية وأمنية، بدا الاستثمار في مشروع ثقافي بهذا الحجم قرارًا غير تقليدي. لكن رمزيًا، كان له معنى سياسي واضح: الدولة لا تكتفي بإدارة الحاضر، بل تحتكر أيضًا رواية الماضي.

فالمتحف لا يعيد عرض الآثار فقط، بل سرد التاريخ من زاوية سياسية معينة. طريقة العرض، والإضاءة، وتصريحات المسؤولين، والمقاطع الدعائية، كلها أشارت إلى أن الافتتاح يُراد له أن يُسجَّل في عهد السيسي، تمامًا كما نقش الفراعنة أسماءهم على المعابد لتثبيت مجدهم في الذاكرة.

أصبح المتحف جزءًا من بناء الذاكرة السياسية الحديثة؛ الدولة تقول للمصريين: “نحن الامتداد الطبيعي للمجد القديم”.

يعلق خالد عزب، الرئيس السابق لقطاع المشروعات بمكتبة الإسكندرية: “لكي تقف مصر الفرعونية شامخة بحق، ينبغي أن يدور الحديث حول مبادئها الحضارية مثل العدل والإنصاف، لا أن يُختزل الأمر في الاستعراض والمظاهر. ما نراه اليوم أقرب إلى فخر منزوع من تاريخه، افتتان بالقشرة المادية والاحتفالية أكثر من الانشغال بجوهر تلك الحضارة ومعانيها الإنسانية”.

المتحف كأداة قوة ناعمة ودبلوماسية آثار

لم يكن الافتتاح حدثًا محليًا فقط. فقد استضافت القاهرة وفودًا من اليونسكو وسفراء من أكثر من خمسين دولة، وتم بث الحفل عالميًا.
جاء ذلك ضمن دبلوماسية الآثار: استخدام التراث لتعزيز مكانة الدولة دوليًا.

المشروع نفسه تم جزئيًا بتمويل ياباني عبر قرض من وكالة التعاون الدولي JICA بقيمة 845 مليون دولار، ومشاركة شركات يابانية.
لم يكن هذا مجرد دعم مالي، بل شراكة استراتيجية.

القوة الناعمة وإعادة صياغة الهوية

منذ منتصف العقد الماضي، أعادت الدولة تعريف “القوة الناعمة” لتشمل الهوية والتراث. فالمتحف يخاطب العالم بلغة الجمال والدهشة، ويحاكي الداخل بسردية تربط بين الفخر التاريخي والاستقرار السياسي.

في خطاب السيسي خلال الافتتاح، تم الربط مباشرة بين الماضي والـ”جمهورية الجديدة”، في إشارة واضحة إلى توظيف الحضارة لتثبيت مشروع سياسي معاصر.

وبجانب الأبعاد الرمزية والسياسية، يحمل المتحف أهمية اقتصادية. وفقاً لتصريحات أحمد غنيم، الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف المصري الكبير، سيستقبل المتحف نحو 5 ملايين زائر سنويًا، ما يجعله مصدرًا مستدامًا للعملة الصعبة، وركيزة رئيسية في قطاع السياحة الثقافية.

كما يتوقع أن يُعيد توزيع حركة الزوار من وسط القاهرة إلى الجيزة، بما يفتح فرصًا جديدة للاستثمار في الفنادق والبنية التحتية المحيطة.

ستكتمل فرحة المصريين الحقيقية بالطبع بالمتحف الكبير، حينما يرون تأثير عوائده السياحية والاقتصادية على حياتهم اليومية، فالمصري يفخر بتاريخه لكن الفقر حين يشتد لا يمنع أحدهم من بيع سواراً فرعونياً لسد حاجة العوز والضائقة المالية على حد ما حصل أخيراً حين سرقت امرأة سواراً تاريخياً.

03.11.2025
زمن القراءة: 4 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية