تمنحك التراجيديات العربية المشتعلة منذ عام 2011، وما عرفته من سقطات مدوية لأعداد كبيرة من المثقفين، إمكان اجتراح ما تحب من الصفات والألقاب اللائقة بهؤلاء: المثقف الجبان، الرمادي، الصامت، المتردد، ناهيك بذاك الرديء والمعروف تاريخياً، مثقف السلطة. ثم، وبحكم ما نقرأ ونسمع، وفرت لنا الحياة فرصة العثور على نوع خاص منهم في ثقافتنا الحديثة، يمكن إطلاق صفة الخبيث عليه، ولعلها الصفة الأكثر خطورة ولؤماً.
المثقف الخبيث هو ذاك الذي يتفق معك ظاهرياً على ضرورات التغيير في المنطقة العربية، بالمعنى السياسي كما الاجتماعي، ولكنه يأخذك في رحلة فكرية طويلة، تبدأ من سفينة نوح ولا تتوقف عند مفهوم الدولة الهيغلي، ليقول لك: التغيير مطلوب ولكن المجتمعات العربية غير جاهزة له، بدليل الغياب الفج للقوى الصحيحة، التي يمكن أن تقود تلك العملية العملاقة، وسوء سلوك القوى الحاضرة وهامشية أدوارها وقواها المؤثرة. وهي ملاحظات صحيحة نظرياً، ولكن المثقف المذكور لا يحدد أسبابها ولا يمر بالآليات التي أنتجتها، ولا يذكر الحقيقة الأولى والمتمثلة بعمل الأنظمة المستبدة والفاسدة تاريخياً، على تفكيك الأطر الفكرية والاجتماعية، الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ومصادرة طاقتها. وذلك عبر استخدام العنف والاعتقال والقتل أو التهجير على قوة تغيير تدفع بالعجلة إلى الأمام وليس العكس، وهو ما قاد إلى بروز قادة معارضة لا يليق بهم هذا الدور ولا يملكون أدواته، بل يتحولون، أمام جاذبية وسائل الإفساد المتعمدة التي تقودها السلطة، ولا أعمم هنا، إلى فاسدين بدورهم. ويبدون وجهاً آخر للسلطة التي يعملون على إسقاطها. والساحة السياسية تعج بأمثالهم!
المثقف الخبيث هو ذاك الذي يتفق معك ظاهرياً على ضرورات التغيير في المنطقة العربية، بالمعنى السياسي كما الاجتماعي، ولكنه يأخذك في رحلة فكرية طويلة، تبدأ من سفينة نوح ولا تتوقف عند مفهوم الدولة الهيغلي
لا يضع المثقف الخبيث بهذا المعنى إصبعه على الأسباب بل تجلياتها، هو يكرر حديثه عن فساد المعارضات التي أنتجها الربيع العربي المغدور، مثلاً، ويمعن في تحليل إخفاقاتها وشرورها، ولكنه يتناسى حقيقة أن فساد المعارضة لا علاقة له بعدالة القضايا التي وجدت من وحيها، فما هي العلاقة الفكرية والمنطقية بين الفساد الذي عرفته الثورة الفلسطينية، وتعرفه الآن، وعدالة القضية الفلسطينية؟ وما العلاقة بين فساد المعارضة السورية وعدالة القضية السورية التي وصل أنينها إلى السماء، وما زال يصعد عنفاً وقهراً؟ وكيف تصبح القضايا العادلة غير عادلة بمجرد وجود قوى غير مؤهلة أو فاسدة تقودها؟
لا يجيب المثقف الخبيث عن هذا السؤال الجوهري، بل يعود ويصطحب قارئه أو سامعه في رحلة الاستعارات والمجازات العجيبة، لتأكيد فكرته: لا يحدث التغيير عربياً إلا عبر السلطة الحاكمة ذاتها… من داخلها. وهي الفكرة التي تعثرنا بها عند أدونيس في رسالته الشهيرة إلى “سيده الرئيس”، حين طالبه بالتغيير قليلاً، كما عرفنا أصولها في حكاية المذكور مع الجموع التي “تخرج من الجوامع”، من باب حرص أدونيس على التذكير بتخلف المجتمع وعدم جاهزيته للتغيير! وكان الألماني مارتن هايدغر (1889- 1976) سبق أدونيس بسنوات طويلة، حين تورط بالوقوف إلى جانب “الحزب الاشتراكي الوطني” النازي، بقيادة أدولف هتلر. وكتب رسالته الشهيرة إلى الكاتبة والمفكرة اليهودية حنه آرندت (1906- 1975)، رسالة العار كما توصف في التاريخ الألماني الحديث، وفيها قال:
“كنت على قناعة أكيدة بقدرة الحزب النازي على قيادة ألمانيا نحو مستقبل أفضل والنهوض بها من تبعات ماضيها الكارثي نحو حياة جديدة… لهذا أصبحت عضواً فيه”.
لا يجيب المثقف الخبيث عن هذا السؤال الجوهري، بل يعود ويصطحب قارئه أو سامعه في رحلة الاستعارات والمجازات العجيبة
خبيثاً كان هايدغر وهو يبحث عن مبررات عملية لسقطته المدوية تلك، وحاذقاً كان غونتر غراس (1927- 2015)، وهو يصف تلك السقطة: “مثل راقص فوق شجرة تعصف بها الريح كان هايدغر، وما هي إلا لحظات قليلة وسقط”.
المثقف الخبيث هو مارتن هايدغر في ألمانيا آنذاك. وهو أدونيس عربياً الآن. هو هذا المثقف الذي يخلط حابل المأساة بنابل المواجع ولا يدلك في الحالتين على الأصل الشرير للداء الذي أوجد المأساة وعمق المواجع، ذاك الداء الذي تمثله الأنظمة. ولا ينتهي تحليله وتأويله للظواهر إلا عند نقطة واحدة تجعله في خندق واحد مع مثقف السلطة الأثير: الأنظمة القائمة هي الحل الموقت، كما يضيف أحياناً، وما هذه الجموع التي خرجت بفعل التراكم الطبيعي لمواجعها إلى الشوارع مطالبةً بالتغيير، سوى “قطعان هائجة تبحث عن الفوضى وتصنع الخراب”.
المثقف الخبيث هو مثقف السلطة أيضاً، وإن تسلح بلغة مختلفة. إن كان فيلسوفاً فذاً من عيار هايدغر، أو مثقفاً كبيراً من عيار أدونيس، أو مجرد كاتب صغير، لا فرق، فالرسالة واحدة في جميع الحالات، ومتناقضة على الدوام مع بنية الثقافة القائمة على تفكيك السائد ودعم التجدد والتجديد، كما هي متناقضة قلباً وقالباً مع مفهوم المثقف وجدواه. المثقف الناقد السلطة والموكلة إليه مهمات إزعاجها، وليس هذا المثقف الذي تحول إلى كتلة سرطانية خبيثة تستحق الاستئصال، مثلها مثل هذه الأنظمة المستبدة التي أحالت حيوات الناس جحيماً فعلياً لا يطاق، ولا يمكن أن يستمر في تلك الجغرافيا الكئيبة والممتدة على طول المسافة ما بين المحيط والخليج.