اجتمعت في 5 و6 حزيران/ يونيو 2023، أكثر من 150 منظمة مجتمع مدني سوريا في معهد العالم العربي في باريس، هدف الاجتماع إطلاق مبادرة “مدنيّة” تعرّف عن نفسها بـ” مبادرة سورية مستقلّة عن أي نفوذ سياسي وأجنبي، تهدف إلى حماية الفضاء المدني السوري وتعزيز فاعليته في منصات صنع القرار المختلفة”.
“مدنيّة” برعاية أيمن الأصفري، الذي يشغل منصب رئيس مجلس الإدارة، رجل الأعمال الذي لخّص في كلمة الافتتاح رؤيّة مدنية، مشيراً إلى أن لهذه المؤسسات، أي المجتمع المدني “شرعيتها في أن يكون صوتها مؤثراً في النقاش حول حاجات الشعب السوريّ ومستقبله، بما في ذلك دعم أي عملية سياسيّة”.
شارك في الجلسات باحثون وفاعلون في المجتمع المدني من داخل سوريا وخارجها، وعدد من المبعوثين الخاصين بالشأن السوري، من تركيا والنمسا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، يأتي ذلك في لحظة عالميّة لا يمكن إنكار حساسيتها في الشأن السوري، فعودة نظام الأسد إلى الحضن العربيّ، والتطبيع المتسارع معه، قابلتهما ردود واضحة من فرنسا التي لن تطبّع مع نظام الأسد، ومن الولايات المتحدة التي أمعنت في معاداتها لنظام الأسد، وتعمل على إصدار قوانين جديدة لمعاقبة من يتعامل مع النظام السوريّ.
لا يمكن تلخيص كل ما حصل في المؤتمر، من بكاء كثيرين حين الحديث عن المعتقلين والمختفين قسراً، الى الجدل المرتبط بالنقد الذاتي وإعادة النظر في مفهوم “السياسة” في ما يتعلق بالشأن السوريّ، لكن اللافت بداية، هو الاجتماع نفسه، أطياف المنظمات المتعددة في المكان ذاته، والاختلاف حدّ التناقض بين البعض.
الاختلاف الأبرز هو حول العبارة التي تكررت سواء في البيان الصحافي، أو على ألسنة المشاركين، والتي مفادها “المطالبة بالأحقيّة السياسية للفضاء المدني السوري تحت مظلة مدنّية لا تعني ضمناً أي رغبة في الحلول محل الأجسام السوريّة المنخرطة في العمليّة السياسيّة”.
الواضح، أن المجتمعين على اختلاف أطيافهم وطبيعة نشاطاتهم، يراهنون على الأثر الذي تمتلكه منظمات المجتمع المدني على الأرض، سواء كنا نتحدث عن الخوذ البيضاء في الشمال السوريّ، أو جماعات الضغط في الولايات المتحدة، هذه “القوة” و”القدرة” على التغيير السياسي أو المحلي السوري، إذ وجدت هذه المنظمات نفسها مُهددة بسبب الزلزال، فالواضح أن إغلاق تركيا المعابر ومنع دخول المساعدات كانا ذا أثر لا يمكن تجاهله سواء على المجتمع المدني أو السوريين على الأرض، صحيح أن الجميع مدرك “مصالح الدول”، لكن الكارثة الطبيعيّة كانت ذات أثر لا يمكن تجاهله.
“دور الفضاء المدني السوريّ لا ينحصر في خانة مزوّدي الخدمات ومنفذي المشاريع، بل يتجاوز ذلك للتعبير السياسي من دون أن يغادر موقعه في العمل المدنيّ”.
لكن، ما المقصود بـ “الأحقية السياسيّة للفضاء المدنيّ”؟
يمكن القول إن “مدنيّة” تحاول أن تشكل ثقلاً دولياً وتفاوضياً في سبيل حلّ سياسي، مُستفيدة من “الأثر” الذي تمتكله على الأرض، أي أن تتحول من مؤسسات تعمل في الظل مُحافظةً على “حيادها” السياسي، إلى جزء فاعل من عملية التفاوض واتخاذ القرار الدولي، لكن، أليس هذا بالضبط ما يهدد “استقلاليّة” منظمات المجتمع المدنيّ، الحياد، هو ما يتيح لها الفاعليّة على الأرض ؟! الإجابة ليست بديهية.
الجانب الآخر الذي تخلل نقاشات الجلسات هو “المال”، أي أن تحاول منظمات المجتمع المدني أن تنسق بينها أولاً، لخلق نوع من الاكتفاء والقدرة على تمويل بعضها، والاستفادة من رجال الأعمال والأغنياء المعنيين بمثل هذه الأهداف، في سبيل وجود “صندوق” لدعم النشاط المدني السوريّ، ناهيك بإشارات واضحة إلى الحاجة للتصدي لدور النظام في تصدير واجهاته ومحاولة التحايل واحتكار مشاريع التنمية المموّلة دوليّاً ، أي بصورة ما، هناك نوع من “المنافسة” على “المال” الدولي، وهنا يمكن فهم دور “مدنيّة” في محاولة تقنينه وخلق قنوات تصب في مصلحة المجتمع المدني الفعال على الأرض، لا النظام السوريّ.
تقترح مدنيّة في البيان الختاميّ، أن “دور الفضاء المدني السوريّ لا ينحصر في خانة مزوّدي الخدمات ومنفذي المشاريع، بل يتجاوز ذلك للتعبير السياسي من دون أن يغادر موقعه في العمل المدنيّ”.
وهنا بعض الغموض بل يمكن القول التناقض، قوة المجتمع المدنيّ الخدميّة، تكسبه قدرة على التحرك في الأرض، لكن تعبير “السياسيّ” هنا، خصوصاً حين الحديث عن الداخل السوريّ، لا يوضح إلى أحد يستطيع المجتمع المدنيّ أن يحافظ على “مدينته” في ظل “الصراع” مع نظام الأسد، مثلاً، جاء في البيان البلاغة المعهودة والمتوقعة، كضمان “وصول المساعدات الإنسانيّة إلى جميع السوريين دونما تمييز أو عوائق أو قيود” و “محاسبة نظام الأسد وحلفائه على جرائمهم كافة مرتكبي الانتهاكات من كافة الأطراف”، والأهم “وقف التطبيع مع هذا النظام أو إعادة تأهيله”، لكن، نشرنا في “درج” أخيراً تحقيقاً عن “المزادات” التي يقوم بها النظام السوري لبيع أراضي الذين تم تهجيرهم، وتمليكها لقادة الميليشيات المسلحة، وهنا السؤال، ما هي منظمة المجتمع المدنيّة داخل “مدنيّة” أو خارحها، التي ستعيد هذه الحقوق المهدورة؟ أو ما هي الآلية التي يمكن “التفاوض/ الصراع/ التقاضي” في سبيل استعادة هذا الحق؟.
نضرب المثال السابق كون الكثير من الفاعلين في منظمات المجتمع المدنيّ يعملون على توثيق هذه الانتهاكات، خصوصاً تلك التي تتعلق بالمهجرين قسراً، وهنا نشير إلى الدور في “الداخل”، حيث القانون والعدالة مفاهيم شديدة الميوعة، ولا نعلم بدقة كيف سيتم الأمر، في ظل عدم التطبيع مع النظام السوريّ، مثال دقيق وشديد “السوريّة” كهذا، لا نعلم موقف “مدنيّة” منه.
يحمل كثر من الحاضرين أملاً من نوع ما في ما يخص مستقبل سوريا، ودور منظمات المجتمع المدنيّ، مع ذلك علت الانتقادات التي اتهمت الأصفري مثلاً بأنه “يريد أن يصبح رئيس سوريا”، و”يريد أن يطبع مع النظام”، ومع الهيئات المفاوضة على الساحة الدوليّة، لكنه أوضح أنه لا يبحث عن دعم من أحد، ولا يمتلك أي مشروع سياسيّ، وأنه ساهم في التمويل الأوليّ لـ”مدنيّة”، ولاحقاً ستقوم المؤسسات بتمويل المشروع من تمويلاتها الأوروبيّة المدنيّة، ولن يكون هناك تطبيع مع النظام.
ما أثار تساؤلات أيضاً، هو ذكر “مدنيّة” في بيانها الختامي قراري مجلس الأمن 2118 و 2254، الأول الخاص باستخدام النظام السوريّ الأسلحة الكيماويّة، والذي ينص في المادة 16 على إنشاء “هيئة حكم انتقالية تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى وتُشكل على أساس التوافق”، والثاني الذي يشير إلى ضرورة وقف إطلاق النار من جهة، و” يطلب إلى الأمين العام أن يقوم، من خلال مساعيه الحميدة وجهود مبعوثه الخاص إلى سورية، بدعوة ممثلي الحكومة السورية والمعارضة إلى الدخول على وجه السرعة في مفاوضات رسمية بشأن عملية انتقال سياسي”.
حضور النظام كطرف في المفاوضات هو ما أثار حفيظة المنتقدين، خصوصاً أن القرار 2254 يُتهم بأنه وسيلة يتلاعب بها النظام السوري بالمعارضة، ويؤخر عبر التلاعب بهرمية بنوده تشكيل هيئة حكم، أي بصورة ما، ما زال النظام ( من وجهة نظر البعض) هو الأقوى على الأرض ودولياً، في حين أن منظمات المجمع المدنيّ، في حال أرادت تمثيلاً/ دوراً، وأحقيّةً سياسية، (على الأقل لضمان استمرار عملها)، فهي بحاجة الى خوض هذا الغمار، لكن السؤال، كيف ستمارس هذه المنظمات المدنيّة إن اتّحدت “السياسة”؟.
ما زال الغموض يحيط بالكثير من التفاصيل، سواء داخل سوريا أو على المستوى الدوليّ، لكن يمكن القول، وبحسن نيّة، إن “العمل” لم يبدأ بعد، والتناقضات بين العقوبات وفرضها، الحوار مع النظام أو عدم الحوار معه، والتناقضات الداخلية بين المنظمات، لن تتضح إلا بعد اتضاح رؤية “مدنيّة” وأسلوب عملها.
إقرأوا أيضاً: