لم يعلم المخرج علي عبّاسي حين كان ينجاز فيلمه الأخير “عنكبوت مقدّس”، أن احتجاجات شعبية ستندلع بعد بضعة أشهر في إيران، وأن فيلمه سيلامس الجذر ذاته الذي انطلقت بسببه الاحتجاجات في وطنه الأمّ، بعد مقتل مهسا أميني، ونقصد هنا، الكراهية المتجذّرة للنساء، ووصاية “أولياء الأمر” على أجسادهن ومعاشهن ومصائرهن.
يستعيد الفيلم قصة القاتل المتسلسل الإيراني سعيد هنائي، الذي قتل ما لا يقل عن 16 امرأة في مدينة مَشهد بين عامي 2000 و2001. أطلقت عليه الصحافة حينها لقب “القاتل العنكبوت”، لأنه استدرج ضحاياه إلى شبكته مثل العنكبوت، مُستهدفاً النساء العاملات بالجنس.
حين قُبض عليه، ادّعى أنه كان يطبّق حدود الله، وأن جرائم القتل التي ارتكبها كانت محاولة منه “لتطهير” شوارع المدينة المقدسّة من “البغايا” اللاتي يدنّسن مقام الشهداء والدماء الزكية. الأسوأ من ذلك، أن فئة من الناس، وافقوا هواه، وخطابه الكاره للنساء، واعتبروه بطلاً شعبياً.
المجرم بطلاً شعبياً
لا يعتبر عبّاسي نفسه من محبّي أفلام القتلة المتسلسلين، لكنه كان يعيش في إيران في ذلك الوقت، ويقرأ الصحف مثل الجميع وأثارت القصّة انتباهه يقول لـ”درج”: “كانت سلسلة جرائم القتل إحدى أكثر القضايا الجنائية شهرة في السنوات الماضية في إيران. لكنها فتنتني بسبب تعقيدها”.
يضيف : “عنكبوت مقدس” فيلم عن مجتمع محطّم، بلد منكوب. والحالة والسياق يفسحان المجال جيداً لـFilm noir، النوع الذي أحبّه حقاً وأردت إنجازه… من ناحية أخرى، بعد عامٍ من جرائم القتل، صدر فيلم وثائقي عن هذا الرجل احتوى صوراً له ولعائلته. بدا ذو شخصية كاريزماتية جذّابة، فأثار فضولي الأمر أكثر فضولاً، لكنني أيضاً بدأت أشعر بالتعاطف. فكّرت، انتظر لحظة، أنا أكره كل ما فعله هذا الرجل، ما الذي يحدث هنا؟”.
يضفي السيناريو على شخصية المجرم طابعاً نفسياً عميقاً، فسعيد هنائي ليس مجرد متعصّب ينفّذ مشيئة الله على الأرض، هو أيضاً رجل من الطبقة العاملة يهتم ببيته وأسرته، ونرجسي يحبّ لفت الانتباه ولعب دور الشهيد، ويعاني أيضاً صدمة من أيام الحرب الإيرانية- العراقية.
كان عباسي بعمر الـ 19 ويدرس في جامعة طهران للتكنولوجيا، حين اعتقل القاتل المتسلسل، كان العالم خارج فقاعاته يثير اهتمامه قليلاً حتى ذلك الحين، لكن هذه الجريمة كانت قصة مختلفة، يقول “هي دراما وجودية أكثر منها خبراً عابراً في صفحة الحوادث. لأن، ما الشيء الذي تقوله عن بلد يُعتبر فيه الرجل الذي يقتل 16 امرأة بطلاً قومياً؟! وإذا كان القاتل بطلاً فمَن الجاني إذاً؟ مَن خَلقَ هذا الرجل؟ ومن المسؤول عن المجتمع الذي يمكن أن يكون فيه مثل هذا الشخص بطلاً؟ في وسائل الإعلام وفي الشارع في ذلك الوقت، كان الأمر يتعلق فقط بما إذا كنت مع القاتل أم ضده. لا أحد اهتم بالنساء. ربما كان هذا أسوأ جزء على الإطلاق في الأمر برمّته”.
يخبرنا عباسيّ عن عن تحضيراته لرسم الشخصية قائلاً: “بحثت كثيراً في القضية استعداداً للفيلم. قرأت كل شيء، وتحدثت إلى الناس، وشاهدت أفلاماً وثائقية. طبعا سعيد عظيمي في الفيلم ليس سعيد هنائي الحقيقي. إنها شخصية أنشأتها بناءً على أبحاثي. واصلت بناء الشخصية أبعد من الحقائق بالطريقة التي بدت منطقية بالنسبة إلي. لا أعرف ما إذا كان سعيد الحقيقي قد اغتصب ضحاياه وما إذا كان تعاني مشكلات مع حياته الجنسية المكبوتة. لكن “سعيد” الفيلم فعل ذلك. وبمجرد ظهور الشخصية، رأيناه كنقطة محورية في الفيلم. بدأنا في رسم المجتمع والسياق من حوله. ذلك المجتمع الذي توحّد حوله أيضاً في الحياة الواقعية. ذلك المجتمع الذي يرى بطلاً في رجل قتل 16 امرأة”.
يضيف عبّاسي موضحاً كيف يجب أن يُرى فيلمه: “حكاية هنائي هي قصة كراهية للنساء في أنقى صورها. هذا ما أثار اهتمامي في هذه القضية. لم أكن أرغب في صنع فيلم عن سفاح بل عن المجتمع الذي يقف وراء ذلك القاتل المتسلسل. كراهية النساء تقليد عميق الجذور في إيران. تتعرّض النساء للإذلال والإساءة والسيطرة والقتل”.
اضطهاد متراكم
الممثلة زار أمير إبراهيمي، التي تلعب في الفيلم دور صحافية (متخيَّلة) تلاحق القاتل، عانت هي أيضاً من كراهية النساء بشكل مباشر عام 2006، في ذروة شهرتها كنجمة تلفزيونية، ظهر شريط جنسي لها مع خطيبها في ذلك الوقت.
لا يبتعد الخيال عن الواقع كثيراً، فالصحافية في الفيلم دائماً ما يضايقها الرجال من حولها، وبحسب عبّاسي فهذا السلوك وثيق الصلّة بالطريقة التي تُقتل بها النساء في فيلمه: “الأمر ينتقل من تقييد النساء إلى إذلالهن، ومن الاعتداء على النساء واضطهادهن إلى قتلهن. إنه يتعلّق بالصورة الكبيرة. وغالباً ما يظهر ذلك في الأشياء الصغيرة، في التفاعلات اليومية. مثلاً، وراء الاحتقار المعتاد الذي يبديه موظف الفندق للصحافية القادمة للمبيت وحدها في الفندق، يكمن تقليد طويل من كراهية النساء”.
تبدو الصحافية في الفيلم مميزة عن الحشد السائد من حولها، فتسأل أسئلة مقلقة وصعبة، وتحثّ السلطات على القيام بعملها والوصول للمجرم، حتى إنها تقرّر إنجاز المهمّة بنفسها وتحاول إيقاع المجرم.
فازت إبراهيمي بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كانّ السينمائي في دورته الـ75. عن هذا الدور، فاختيارها لعبه أسهم في تشكيل الشخصية ورفد القصّة بتفاصيل ثرية. يقول عبّاسي: “الشخصية تغيّرت كثيراً حين وافقت زار على أداء الدور. في البداية، كانت الصحافية أصغر سناً، ساذجة وعديمة الخبرة ومثالية وتريد إثبات نفسها. مع زار، أصبحت الشخصية أكثر خبرة وأكبر سنّاً. العيش في بيئة معادية أثّر عليها وأكسبها طباعاً ساخرة وخشنة. كان هذا مهماً بالنسبة إلي لأنني لم أرد أن أجعلها بطلة لا تشوبها شائبة، أردت أن تكون إنسانة. خصوصاً حين نتحدث عن صحافية تعيش وتعمل في الشرق الأوسط، عليها امتلاك الكثير من المهارات للبقاء”.
مدينة مقدّسة سريالية
بعد أيام من تتويج إبراهيمي في مهرجان كانّ، خرجت وزارة الثقافة الإيرانية ببيان شديد اللهجة مناهض للفيلم، باعتباره “مهيناً” و”ذا دوافع سياسية”، وهدّدتْ “بمعاقبة الأشخاص داخل إيران الذين عملوا في هذا الفيلم”.
تهديدات ربما كان يمكن تفادي أسبابها لو سمحت السلطات الإيرانية بتصوير الفيلم داخل إيران، كما كان مزمعاً. يقول عبّاسي: “تقدّمت بحسب الأصول، من خلال القنوات الرسمية، للسماح لي بتصوير فيلمي في إيران. أعطيتهم 99 في المئة من النصّ الأصلي. قلت، انظروا، هذا هو الفيلم الذي أريد أن أصنعه. أنا لا أتفق مع رقابتكم، لكنني سأحترم القوانين الإيرانية. في البداية ردّوا بـ”آه، يا له من شرف، سيعود صانع “حدّ” إلى بلده الأصلي ليصنع فيلمه الجديد” وهراء آخر من هذا القبيل. ثم أرسلونا من شبّاك إلى شبّاك، ودعونا دائماً لشرب الشاي. الشاي جزء من النظام الكافكاوي الإيراني. لم يقولوا لا أبداً، لكنهم لم يقولوا نعم أبداً، وهذه على الأرجح طريقتهم في قول لا… كنت على استعداد لتقديم تنازلات. نعم، كان يمكن أن يصير فيلماً مختلفاً. لكننا الآن أنجزنا الفيلم الذي أردنا صنعه بالضبط”.
يتابع عبّاسي رحلة إنجاز الفيلم: “لذا، بعد عام كامل من عدم حصولنا على موافقة إيرانية، انتقلنا إلى تركيا. لكن حتى أثناء استكشاف المواقع، قبل أن نصوّر مشهداً واحداً، أُمرنا بالمغادرة. وأخيراً، وجدنا ترحيباً في الأردن وقمنا بإعادة إنتاج مدينة مَشهد الإيرانية.”
اختيار مَشهد موقعاً للأحداث لم يأت من خيال صنّاع الفيلم، بل يستند إلى أحداث حقيقية وموثّقة، لكنه، في الوقت ذاته، مثَّل فرصة لتظهير طبقات مجهولة سينمائياً عن هذه المدينة المقدّسة. يقول عبّاسي: “إنها مكان سريالي إلى حد ما، أشبه بمزيج متقاطع بين مدينة الفاتيكان ولاس فيغاس. مشهد مدينة كبيرة، ثاني أكبر المدن الإيرانية بعد طهران، بها ضواحي فقيرة يعيش فيها اللاجئون الأفغان، من بين آخرين. وهي مدينة دينية محافظة للغاية يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وتجذب أكثر من 20 مليون سائح وحاج كل عام. ومن الواضح أنه يتعيّن على كل هؤلاء الحجّاج إنفاق أموالهم، ليس فقط على الأمور الدينية. لهذا السبب يوجد الكثير من عاملات الجنس في المدينة. معظم ضحايا القاتل التقطهن من محيط/أو بالقرب من المسجد الكبير. بالإضافة إلى ذلك، تحتل مشهد موقعاً استراتيجياً على طريق تهريب الأفيون من أفغانستان إلى أوروبا”.
واقعية صادمة
وُلد عبّاسي في طهران العام 1981 واستبدل حياته “المريحة” في العاصمة بـ”الحرية الحقيقية” في ستوكهولم حيث بدأ دراسة الهندسة المعمارية عام 2002. من 2007 إلى 2011، درس الإخراج في مدرسة السينما الدنماركية بكوبنهاغن. عام 2016، أنجز فيلم رعب بعنوان “شيلي” تُقارب أجواؤه الفيلم الكلاسيكي “طفل روز ماري” (1968، رومان بولانسكي)، ما أكسبه صيتاً دولياً صغيراً انحصر في نطاق المهرجانات الفنّية النوعية.
جاءت انطلاقة عبّاسي الكبرى على الساحة الدولية بفيلمٍ لافت بعنوان “حدّ“: حصل على جائزة أفضل فيلم في مسابقة “نظرة ما”، المسابقة الرسمية الثانية في مهرجان كانّ، ورُشّح لجائزة الأوسكار في فئة المكياج. وبينما كان يضع اللمسات الأخيرة على “عنكبوت مقدّس” أخرج ثلاث حلقات من مسلسل “ذا لاست أوف أس“، المستند إلى لعبة الفيديو الشهيرة من العام 2013 حول رجل وفتاة يحاولان البقاء على قيد الحياة في عالم يعج بالزومبي.
مسيرة لافتة على قصرها، تتحاور مع أنواع سينمائية وقضايا إنسانية مختلفة، وتقول شيئاً عن اهتمام عبّاسي بالشكل والموضوع. فعلى رغم الانتقادات الشديدة الواردة في “عنكبوت مقدّس”، لا يزال عباسي يأمل بألا يُنظر إلى فيلمه باعتباره عملاً ناقداً للمجتمع فحسب.
يقول: “يحبطني أن الأفلام الإيرانية عادة ما تُستقبَل كأفلام موضوعية على المستوى الدولي. أردتُ أيضاً أن أصنع Film Noir إيرانياً، لأن هذا النوع السينمائي يناسب إيران تماماً، فهي دولة بها العديد من الزوايا المظلمة، حيث كل شيء تقريباً غير قانوني، لذلك يخالف الجميع القانون باستمرار. بمجرد أن تغرب الشمس ويحلّ الليل، تجد نفسك في عالم مختلف تماماً من الفوضى والفساد المستشري والدعارة… في مَشهد، يتنقّل رجلٌ على دراجة نارية ليغوي ويخنق البغايا، ثم يعود للصلاة في المسجد، أكبر مسجد في العالم.”
إذا كان العالم على دراية بالسينما الإيرانية بشكل أساسي من أعمال مخرجين مثل أصغر فرهادي وجعفر بناهي، يضطرون إلى التعبير في أفلامهم بطريقة خفية وشاعرية بسبب الرقابة والقيود المفروضة على السينما كما غيرها من مجالات التعبير والإبداع؛ فإن عبّاسي يموضع نفسه على الطرف الآخر من هذه المعادلة، إذ يقول: “شخصياً لا أحبّ هذا النوع من السينما لأنني لست مهتماً بالدراما، لكنّني معجب بالطريقة التي يمكن بها لشخص مثل فرهادي أن يجعل النظام يعمل لصالحه. هل يفعل كل ما يريده؟ بالطبع لا. إنه يقدّم تنازلات، مثل أي شخص آخر في إيران. لكنه لا يزال قادراً على ترك بصمته بما فيه الكفاية. إنه سينمائي حقيقي”.
ويضيف: “بالنسبة إلي، الفيلم ليس باقة زهور، بل صفعة على الوجه. أفضّلُ فيلماً مثل “فقط 6.5” للمخرج سعيد رستائي، يُظهر أجزاء من الواقع كما هي: في إيران أيضاً، الحرب على المخدرات معركة لا طائل من ورائها تضرّ أكثر مما تنفع. لكن مثل هذا الفيلم يظلّ استثناءً. لقد أدمنّا الواقعية الجديدة، التي يُفترض أنها تُظهر الحياة الإيرانية الحقيقية، طوال الـ50 عاماً الماضية. في بعض الأحيان تتسلّل عناصر النوع هناك ويُنتقد النظام، لكنه دائماً ما يكون انتقاداً خفياً ورمزياً وسرياً للغاية. بمرور الوقت، وافق صناع الأفلام الإيرانيون على ذلك”.
النسخة المزوّرة عن الواقع الإيراني
هناك جانب إشكالي في السينما الإيرانية (ولا علاقة لهذا بسينمائي بعينه) يظهر في الطريقة التي يتم بها تصوير النساء. يبدو أن النساء في الأفلام الإيرانية يعشن في واقع موازٍ. يقول عباسي:” لا توجد امرأة إيرانية تنام وهي ترتدي حجابها. في الأفلام، لا تُظهر النساء شعرهن أو أجسادهن. لا يذهبن إلى الحمّام. هل هذا يُظهر الحياة الحقيقية؟ لدي أخبار عاجلة لك: المرأة الإيرانية لها أثداء وتذهب إلى الحمّام. يجد بعض النقاد الغربيين العنف في”عنكبوت مقدّس” مروّعاً. ما أجده صادماً هو أن هؤلاء النقاد أنفسهم غالباً لا ينطقوا بكلمة عن أن السينما الإيرانية كانت تعيش في واقع موازٍ طوال الوقت… من السخف أن يبيع صانعو الأفلام للعالم هذه النسخة المزوَّرة من الواقع على أنها “الواقع”، وأن يصفّق النقاد والجمهور لمثل هذا النقد الشاعري للمجتمع. النقد الحقيقي، في اعتقادي، يبدأ بإظهار النساء كشخصيات حقيقية”.
كلمات كبيرة وجليّة لكنها قد لا تبرّر تماماً بعض جوانب المعالجة السينمائية لشخصية القاتل وجرائمه. أفعال القتل في الفيلم واضحة بشكل صادم ومتكررة. يدافع عبّاسي عن اختياراته الفنية: “أردتُ أن يكون تعاطف المُشاهد مع الضحايا وليس مع الجاني. في الوقت نفسه، لا أبحث عن استغلال، لذا كان الأمر يتعلّق بإيجاد التوازن الصحيح. هناك عدد كبير جداً من أفلام القتلة المتسلسلين التي تُظهر مدى جودة الرجل في قتل النساء، ولا ينبغي للكفّة أن تميل في هذا الاتجاه في أي حال. لكن القتل كان، إلى حد ما، وظيفته؛ وأنا أعرضُ هذا… إضافة إلى ذلك، لطالما عايشت المجتمع الإيراني باعتباره عنيفاً للغاية. من السهل جداً أن ينفعل الناس فيستخدمون أجسادهم للتعبير عن هذا الانفعال. حين أفكّر في العنف في إيران، يبدو العنف في الفيلم مُسيطَراً عليه تماماً”.
إقرأوا أيضاً: