شهدت سوريا تغيرات جذرية في الفضاء العام بعد سقوط نظام الأسد، صحيح أن السوريين بكل أطيافهم خرجوا إلى الشوارع، واحتفلوا في الساحات، واقتحموا فروع الأمن والأنفاق السرية في السجون، لكن أيضاً ظهرت ممارسات، نتيجة غياب القانون والاعتماد على “المبادرة الفردية” و”الفزعة”، تعود إلى عصور بائدة، كـ”مسيرات العار” و”العدالة الشعبية”، حيث التهمة والحكم والعقاب يحصلان علناً من دون قانون أو قضاء، أو حتى حق الدفاع عن النفس.
أحد أبرز الأمثلة على تحول الفضاء العام إلى مساحة ل”العقاب”، هو فيديو انتشر مؤخراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر فيه شاب مضرّج بالدماء، يقتاده عناصر من “هيئة تحرير الشام” في سوق الحميدية في دمشق، كان الشاب يصرخ بصوتٍ عالٍ: “أنا كنت عم لطش بنت”، ومن حوله تجمهر المارة في مشهد يخيم عليه الإحساس بالخوف والذهول، استنكر بعض المارة هذه الطريقة في العقاب، في حين شجع آخرون شتم الشاب والإساءة إليه.
هذا المشهد يُعيد إلى الأذهان ما يُعرف بـ”مسيرة العار”، وهي ممارسة كانت شائعة في أوروبا والمنطقة العربية خلال العصور الوسطى، حيث كان يُجبر المدانون على السير عراة أو بملابس مهينة في شوارع المدينة. الهدف كان إذلالهم علنياً والتشهير بهم أمام العامة كوسيلة للعقاب الاجتماعي، الممارسة التي أُعيد إحياؤها درامياً في مشهد عقاب “سيرسي لانستر” في المسلسل الشهير “صراع العروش”، تجد اليوم طريقها إلى الواقع السوري، لتعكس تراجعاً خطيراً في مفاهيم تطبيق العدالة.
لا يقتصر المشهد على المتحرشين، بل تكرر مرات عدة مع متهمين بالسرقة، أو “شبيحة” بصورة ما، مما يعكس رهاناً على الإهانة كوسيلة للعقاب في ظل غياب القانون، وغموض أساليب تطبيق العدالة على الجنح والجرائم.
بين سلطة القانون وسلطة العار
حوادث من النوع السابق، تدفعنا إلى التفكير بالمفارقة ما بين الممارسات المستجدة والقوانين التي تم تعطيلها؛ أو عدم العمل بها، فقبل استيلاء “هيئة تحرير الشام” على مفاصل الحكم، نقرأ أن قانون العقوبات السوري يُجرّم التحرش اللفظي بعقوبات تصل إلى السجن ثلاث سنوات وغرامات مالية، كما تنص عليه المواد 517 و518.
المشكلة إذاً، لم تكن في غياب القانون، بل في آليات تطبيقه، وفي الحواجز الاجتماعية والثقافية التي منعت النساء من الإبلاغ عن حوادث التحرش، سواء بسبب الخجل أو الجهل بوجود قانون يحميهن، أو الخوف من وصمة العار.
التوعية بحقوق المرأة، كما حقوق المواطنين في عهد الأسد، كانت توظف المسلسلات التلفزيونية، بسبب انتشارها الواسع، مثل مسلسل “عصي الدمع” للكاتبة دلع الرحبي والمخرج حاتم علي، الذي بث عام 2005، والذي سلط الضوء على قضية التحرش اللفظي، من خلال شخصية المحامية رياض، التي تتعرض لتحرش لفظي أثناء سيرها في الشارع، فتقرر التوجه إلى القضاء وتقديم شكوى، متحديةً الضغوط الاجتماعية من قبل أسرتها وزملائها في العمل. لكن هل كانت معالجة الدراما للقضية كافية لنشر الوعي؟ بالتأكيد لا. بل ظلت الشوارع السورية مرتعاً للمتحرشين، وندرت محاسبة المتحرشين لفظياً.
السؤال اليوم: هل يمكن معالجة مشكلة التحرش عبر مسيرات العار؟ هل دعوات فصل النساء عن الرجال في المواصلات العامة هي الحل؟
في الوقت الحالي، الضامن الوحيد لحماية النساء يجب أن يكون اللجوء للقانون، لا الاعتماد على الرجال الذي يلعبون دور “عكيد الحارة”، ليبتكروا أساليب ارتجالية للعقاب بحق من يرتكب جريمة ضد النساء، المرأة لا تحتاج إلى وصي، ناهيك بضرورة الحذر من اللجوء إلى الأعراف الذكورية ومفاهيم “الشرف” و”العار”، التي تكرس السلطات المجتمعية البطريركية.
لا يمكن إنكار وجود إشكاليات كثيرة في الدستور السوري الذي تم تعطيله، وبقوانين الجنايات والأحوال الشخصية، ولا سيما في المواد التي تتعلق بحقوق المرأة وحمايتها، إلا أن الممارسات الحالية تمثّل تراجعاً كبيراً، يُعيد النضال النسوي إلى نقطة الصفر؛ فالفيديو الذي يظهر فيه رجال يعتدون على شاب تحرش لفظياً بفتاة، يُعيد النساء إلى خانة العرض والشرف، اللذين يتوجب على الرجل حمايتهما، ويضع المرأة في إطار الوصاية المجتمعية، بدلاً من الاعتراف بها كفرد مستقل قادر على الدفاع عن نفسه، ضمن إطار قانوني عادل، لا يضعها تحت وصاية الرجال.
المرأة “الشيء”!
يزيد من المخاوف حول حقوق النساء، ما نشهده في الشارع السوري اليوم من ممارسات تسعى إلى تشييء المرأة؛ التي باتت تواجه يومياً منشورات وحملات، تسعى إلى إقناعها بارتداء الخمار، والاستتار خلف أغطية سوداء تمحو كل ملامحها تقريباً، لتتحول كل النساء إلى نسخ متطابقة، وينحسر حضورهن في الفضاء العام.
الحجة المستخدمة التي تبيح هذه الممارسات، تندرج تحت تعبير “مبادرات فردية”، وأسئلة مثل: “أليست هذه هي الحرية؟ ليدعُ كل إلى ما يشاء”. هذه التبريرات تكشف أن “هيئة تحرير الشام” تسعى إلى ضبط الفضاء العام جندرياً، عبر إباحة المبادرات الفردية، التي تقابَل بانتقاد شديد، وإلى الآن ليس هناك قانون واضح بخصوص الحجاب الإلزامي، فالأمر دعوي أكثر منه إجباري.
الشأن الذي يقال إنه سيقنن، هو التوزيع الجندري في حافلات النقل الداخلي، حيث يتم إجبار الرجال على الجلوس في المقاعد الأمامية والنساء في المقاعد الخلفية، وبرغم أن بعض النساء أعربن عن ارتياحهن لهذا القرار، نظراً لمعاناتهن السابقة من التحرش في وسائل النقل العامة، لكن القرار يحمل أبعاداً أعمق تتجاوز مجرد توفير مساحة آمنة للنساء، ليعكس سياسة تهميش ممنهج تسعى إلى تقليص حضور المرأة ومكانتها الاجتماعية.
هذا الإجراء الذي تم الحديث عنه في سياق تصريح خاص لجريدة “القدس العربي”، جاء فيه أن: “مسؤولاً رفيعاً في الشركة العامة للنقل الداخلي في دمشق/ زاجل للنقل، كشف عن توجه خلال أيام قليلة لتطبيق الفصل بين الذكور والإناث، في باصات النقل الداخلي العامة والخاصة في العاصمة السورية”.
بصورة ما نحن لسنا أمام قرار رسمي، بل ربما مبادرة من “شركة خاصة”، وعادة هكذا “مبادرات” يمنعها القانون، لكن تكريسها، أو حتى قبولها اجتماعياً، يقارب الفصل العنصري، بل ويجعل “كل” الرجال متهمين، و”كل” النساء ضحايا لا بد من حمايتهن بعزلهن بعيداً.
إن حل مشكلة التحرش لا يتم عبر تطبيق سياسات تُعمّق الفجوة بين الجنسين وتعزز الهيمنة الذكورية، إنما يتم عبر وضع قوانين صارمة لمكافحة التحرش، جنباً إلى جنب مع نشر التوعية المجتمعية حول أهمية الإبلاغ عن هذه الجرائم، وتشجيع النساء على المواجهة والدفاع عن أنفسهن.
ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل الواقع الحالي؟ وكيف يمكن للنساء التجرؤ على الإبلاغ عن حالات العنف التي يتعرضن له من أزواجهن أو عائلاتهن، بينما السلطة ذاتها تمارس العنف ضدهن بدعوى “التأديب”؟ وكيف يمكن للمرأة أن تلجأ إلى نظام قانوني يُشرف عليه وزير عدل سبق أن ظهر في مقاطع موثّقة، وهو يشرف إعدامات ميدانية بحق نساء في إدلب؟